كيف تحولت مصر لحلبة صراع بين القاعدة وداعش؟

تتسارع الأحداث في سياقات متغايرة ومتشابكة في مصر، حتى لا تكاد تنفصل إحداها عن الأخرى تحت وطأة ثنائية التطرف والغلو. تطرف وعنف الجماعات المسلحة وغلو سياسات الدولة. ففي أقل من شهرين شهدت البلاد تحولًا جذريًا في العمليات الجهادية على أكثر من جبهة مفتوحة، من العريش إلى الواحات. ففيما تنوعت توجهات الجهاديين، تطورت معها استراتيجيات تنفيذ العمليات الجهادية.

أحد أبرز هذه التحولات هو التنافس الدعائي بين شبكات وفروع التنظيمات الكبرى؛ ففيما أعلن تنظيم «جند الإسلام» المحسوب على تنظيم القاعدة في تسجيل صوتي عن تنفيذ عملية أمنية ضد عناصر «ولاية سيناء»، تزامن معه تبني تنظيم «أنصار الإسلام» المنتمي لتنظيم القاعدة أيضًا تنفيذ عملية مذبحة الواحات، وهو ما لحق بالعلميات النوعية المتزامنة التي نفذها تنظيم «ولاية سيناء» في العريش ضد وحدات عناصر الجيش والبنك الأهلي في العريش واستهداف المصالح الاقتصادية للجيش برفح.

وتشير تلك التحولات إلى عدد من الدلالات يمكن عبرها رسم خيوط لتوجهات مستقبل حركات الجهاد في المرحلة المقبلة، أو بمعنى آخر مناقشة، كيف تتم إعادة تشكيل الجهاد في مصر؟

التأسيس الثالث لشبكات «الجهاد» المصرية

يدرك كثير من المتابعين للحركة الجهادية في مصر مدى الانسيابية والسيولة التي تشهدها تطورات وتحولات الجماعات، ما بين الارتباط وفك الارتباط بالجماعات الجهادية الأم، أو الانشقاقات الفكرية والتنظيمية داخل الجماعات نفسها.

وليس تغولًا في تاريخية الجهاد في مصر، لكن انطلاقًا من رصد أبرز تلك المتغيرات، والتي تبدّت في رسم خريطة جديدة لتلك الجماعات في مصر، فإنه يجدر الإشارة إلى أن «ولاية سيناء» هي امتداد طبيعي للتنظيمات الجهادية القديمة في مصر، التي تبنت نهجًا أقرب إلى القاعدة. فكيف كان هذا التحول؟

يذهب البعض إلى أن الجهاد في مصر مر بثلاثة أجيال متعاقبة، تطورت عبرهما الفكرة والتنظيم والاستراتيجية. فالجيل الأول، تشكل في ثمانينات القرن المنصرم عبر جيل «التنظيمات المركزية الكبرى» ويقصد بها الجماعات الإسلامية وجماعة الجهاد، أما الجيل الثاني، فهو المعني بـ «عولمة الجهاد»، وتأسست مع ما يعرف بالجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين، والتي تحولت فيما بعد إلى «تنظيم القاعدة»، وأخيرًا فإن الجيل الثالث تشكل عبر ما يمكن تسميته بـ «جيل العنف العشوائي»، والذي اعتمد على التنظيمات الصغيرة في ظل سيولة وانسيابية تنظيمية وفكرية تأسست مع بدايات الألفية الجديدة.

تشكلت شبكات الجيل الثالث من الجهاديين في مصر مع بداية الألفية الثانية مستفيدة من التحولات الإقليمية والمحلية، خاصة في أعقاب المراجعات الفكرية التي أجرتها الجماعات الإسلامية، وكانت جماعة «التوحيد والجهاد» التي أسسها طبيب الأسنان السيناوي «خالد مساعد» الرافد الأساسي لجماعات ذلك الجيل، وكان للأحداث الإقليمية المتعاقبة -من الانتفاضة الفلسطينية في 2000، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وصعود تنظيم القاعدة، وما أعقبه من غزو الغرب لأفغانستان ومن بعدها العراق- أن تشكل الارتباطات الفكرية والتنظيمية لجماعة «خالد مساعد» بتنظيم القاعدة.

كان لتلك الأحداث الفضل أيضًا في أن يتبنى أنصار «خالد مساعد» مقولات تنظيم القاعدة، التي تقوم على محاربة العدو البعيد، وتكفير الأنظمة لأنها لا تحكم بما أنزل الله، ومن ثم تركزت استراتيجيات الجماعة على استهداف الأجانب وخاصة الإسرائيليين في مصر. فكانت أبرزها عملياتها تفجيرات طابا ونويبع 7 أكتوبر/تشرين الأول 2004، تفجيرات شرم الشيخ 23 يوليو/تموز 2005، عملية الجورة 15 أغسطس/آب 2005، تفجيرات مدينة دهب في 24 أبريل/نيسان 2006، عمليات الجورة في 26 أبريل/نيسان 2006، وكذلك استهداف حافلات للقوات متعددة الجنسيات وقوات الأمن المصرية.

كان لتفجيرات شرم الشيخ 2005 الصدى الأكبر، حيث بادرت قوات الأمن إلى شن عمليات أمنية ضد قيادات وعناصر التنظيم حتى اعتُقل العديد منهم، من بينهم «محمد فليفل» و«سالم الشنوب» و«أحمد سالم» و«أسامة النخلاوي»، وتصفية آخرين كـ «خالد مساعد وهرب البعض الآخر، وهو ما أدى إلى خفوت نشاط التنظيم.

من رحم القاعدة: ولدت «داعش» وإليها تعود!

كانت لأحداث ثورات الربيع العربي التأثير الأكبر في اضطراب سياسات ومواقف الجماعات الجهادية، ففي حين قرر البعض الظهور على السطح في محاولة للعب دور سياسي مأمول لإقامة الدولة الإسلامية، قرر البعض الآخر الحذر والانتظار. وفي مصر سارعت بعض الشبكات العنقودية الجهادية إلى الظهور عبر جماعات «أكناف بيت المقدس»، «أنصار بيت المقدس»، «جند الإسلام» وسعت تلك الجماعات إلى تبني رؤى واستراتيجيات قريبة من تلك التي يتبناها تنظيم القاعدة.

في تلك الأثناء سارع البغدادي من الموصل في 2014 بإعلان تأسيس دولته «الدولة الإسلامية في سوريا والعراق» وفي ظل الدعاية التسويقية والتمويلية التي اتبعها تنظيم الدولة، وفي ظل تراجع القدرات المالية للقاعدة سارعت جماعة أنصار بيت المقدس إلى مبايعة خلافة البغدادي في 2015، ومن ثم اتجهت إلى تبني مقولات محاربة العدو القريب بدلًا من البعيد، وتبني تكفير الانظمة والمجتمعات معًا، وهو ما أظهر انشقاقًا ورفضًا داخل الجماعة نفسها، تَشكل عبرها «تنظيم جماعة المرابطين» بقيادة ضابط الصاعقة «هشام عشماوي» ليظل متمسكًا بمقولات وأطروحات القاعدة.

وتشير الأحداث المتعاقبة إلى أن الشبكات العنقودية المحسوبة على تنظيم القاعدة في مصر ظلت تعمل على إعادة هيكلة قواعدها التنظيمية والأيديولوجية، ويمكن القول بأن إعادة الهيكلة تشكلت في ضوء قيادة بعض الضباط المنشقين من الجيش المصري لتلك الشبكات في أعقاب فض اعتصامي رابعة والنهضة، وهو ما أضفى على خطابها طابعًا مغايرًا من حيث التوجهات الفكرية، في محاولة لبناء قواعد شعبوية واجتماعية من حيث مساندتها لتحرير الأقصى أو نصرة المستضعين من المسلمين الذين يواجهون بطش السلطات الحاكمة.

اقرأ أيضًا:خطاب القاعدة الإعلامي في مصر: من المنتديات إلى تلجرام

وقد دفعت تلك التوجهات الجديدة نحو تغيير في نوعية المستهدف في عملياتها. ركزت على استهداف قوات الجيش والشرطة، كما كانت بعض عملياتها أكثر نوعية مثل تلك التي نفذها تنظيم «أنصار الإسلام» ضد ضباط أمن الدولة دون الجنود في عملية الواحات الأخيرة، كما أن الأمر تعدى ذلك إلى توجيه تنظيم «جند الإسلام» لهجوم ضد من سماهم خوارج البغدادي «ولاية سيناء» درءًا لمفاسدهم ضد الأهالي وتكفيرهم لأبناء تنظيم «جند الإسلام». والجدير بالذكر أن تلك التحولات والتغيرات إنما ترتبط بشكل مباشر بالبحث عن مناطق النفوذ والسيطرة خاصة بعد تراجع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق.

هل تنقذ سيناء «دولة البغدادي»؟

لم تدم خلافة البغدادي المؤسسة في سوريا والعراق أمدًا طويلًا حتى تهاوت أركانها، وباتت على مشارف السقوط بعد استعادة معظم الأراضي التي سيطر عليها التنظيم منذ عام 2014 بالشام وليبيا، وارتبط هذا السقوط المدوي بالأطر الأيديولوجية والاجتماعية والعسكرية التي أنشا عليها البغدادي دولته المزعومة، مستغلًا حالة الفوضى التي نشبت بالمنطقة في أعقاب الربيع العربي. تلك الأطر التي تختلف عن المنطلقات العملية والبراجماتية التي سار على نهجها التنظيم الأم «القاعدة» لكسب تعاطف الشعوب الإسلامية.

ففي الوقت الذي سعى فيه «ابن لادن» وتنظيمه إلى كسب تعاطف الشعوب كداعم لإنشاء دولته وتركيزه في محاربة العدو البعيد، عمل البغدادي وجماعته على كسب ولاءات الجماعات الجهادية الشبكية في مختلف الأقطار عبر استعراض وحشي للقوة في تنفيذ عمليات القتل، وسرعة التحرك والاستحواذ على الأرض حتى ولو أرهب أهلها، وعبر سيطرته على الموارد المالية والنفطية، التي جعلت منه أغنى تنظيم جهادي عرفه التاريخ.

وبالقدر الذي نجح فيه التنظم لبسط سيطرته ونفوذه، وتوسيع شبكة ولاءاته التي كانت تدين أيديولوجيًا وتمويليًا لتنظيم القاعدة، وتحوله من منطق الإقليمية إلى العالمية، كان التكاتف الدولي يسير بشكل أسرع في استنزاف وتقليص قدراته المالية والبشرية والميدانية في الشام وليبيا. مما جعله يدرك ضرورة البحث عن أرض جديدة لدولته فكانت فكرة «الخلافة البعيدة» في إندونيسيا والفلبين، لكن لفقر الشبكات والإمارات التي بايعته ماليًا وعسكريًا وفكريًا، و لتصادمه مع طالبان والقاعدة في أفغانستان السبب الأقوى لتتوارى فكرة الخلافة البعيدة.

ومع خسارته المدن الرمزية التي خرج منها إعلان دولة الخلافة في الشام ومعقله البديل في ليبيا، لم يتبق للتنظيم سوى ولاية سيناء المباركة (بيت المقدس سابقًا) إحدى أكبر الولايات التي بايعته في 2015، والتي اكتسبت زخمًا أكبر في صراعها مع النظام المصري في أعقاب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في يوليو/تموز 2013، ومن ثم مثلت سيناءُ مركزًا بديلًا لا فرعًا تابعًا للتنظيم، قد ينتقل إليه النفوذ الأكبر في مرحلة ما بعد العراق وسوريا، وكذلك مخزنًا فياضًا لتجنيد عناصر جديدة مستغلًا حالة القمع التي ينتهجها النظام الأمني في مصر ضد معارضيه من الشباب العزّل. فهل ينجح التنظيم في هذا؟

مستقبل ماراثون «الجهاد» في مصر

يظل طرح نقل مركز الدولة الإسلامية من الشام إلى مصر يواجه العديد من العوائق، فالخلافة الداعشية تأسست على رمزية وجغرافية بلاد الشام. حتى وإن انتقلت من الإقليمية إلى العالمية، كذلك غياب سياقات الطائفية والكولونيالية التي عملت على تدعيم الأسس التي بنى «الزرقاوي» عليها تنظيمه، كذلك فقدان التنظيم للجماهيرية داخل مصر، بالإضافة إلى أن صعود القاعدة ومحاولتها كسب مساحات تنظيمية داخلية يُضيق الخناق من جديد على «ولاية سيناء»، خاصة في ظل ارتباطات شبكات القاعدة بالعشائر القبلية في سيناء كـ قبيلة الترابين.

يكمن إجمالًا القول بأن انسيابية الحركة الجهادية وهجرة عناصرها من جماعة لأخرى مرتبط بشكل أساسي بالقدرات التمويلية والتنظيمية والدعائية التي تمكنّها من تجنيد عناصر وشبكات جديدة، وهو ما يشير إلى أنه من الممكن حدوث انشقاقات عدة داخل تنظيم ولاية سيناء في ظل تراجع تنظيم الدولة على المستوى المالي والدعائي، وهو ما يحاول تنظيم القاعدة تعظيمه بوسائل دعائية عن طريق تنفيذ عمليات نوعية كبرى؛ كمذبحة الواحات أو عمليات ضد أبناء التنظيم نفسه كهجوم «جند الإسلام» ضد «داعش» في سيناء.

وهو ما يشرح بشكل غير مباشر السبب وراء تسارع وكثافة العمليات الجهادية ضد عناصر الجيش والشرطة والمصالح الاقتصادية الكبرى والمناطق السياحية على جبهات مفتوحة، قد تتعدى الصحراء وسيناء إلى الداخل في الوادي والدلتا.