كيف يؤثر فهم التاريخ في قرارات المستقبل؟
هناك عدد من المحطات التاريخية المهمة التي يتوقف فهم التاريخ بالكامل على فهمها جيدا، وذلك أنها بمثابة المفاصل المؤثرة فيما بعدها تأثيرا عميقا.
وبتعدد وجهات النظر إلى هذه المحطات التاريخية تتعدد وجهات النظر إلى ما بعدها من أحداث وتتعدد المواقف المتجددة التي يتخذها كل فريق تبعا لموقفه من هذه اللحظات وذلك أن الإنسان يتحرك في الواقع ويتخذ القرارات والمواقف المختلفة سلبا أو إيجابا من الأفكار والأحداث والأشياء تبعًا لأفكاره القديمة، وعلى رأسها أفكاره تجاه التاريخ الذي يسهم بأكبر قدر في تحديد إجابة أسئلة الهوية ومنها:
من أنا؟ ومن أصدقائي؟ ولماذا؟ ومن أعدائي؟ ولماذا؟ وتكاد إجابات هذه الأسئلة تكون محصورة في الوعي التاريخي للفرد والجماعة.
ولذلك يحرص المستبد دائما أن يتلاعب بهذا الوعي التاريخي للأفراد والجماعات ويعيد بذلك صياغة فكر الإنسان عن نفسه ودوائر انتماءه مما ينتج عنه بالضرورة تحول النظرة إلى الواقع وإلى المستقبل.
وقد يتحول الصديق الحقيقي إلى عدو في نظرك، والعدو الحقيقي إلى صديق في نظرك، ونعيش بمثل هذا التلاعب في سنوات خداعات يُصدق فيها الكاذب ويُكذب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخون فيها الأمين، ويتكلم فيها الرويبضة (وهو الرجل التافه يتحدث في شأن العامة كما يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذا الانقلاب الخطير في المفاهيم والمعايير يعني نهاية العمران وبداية الخراب كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله رجل عن الساعة متى هي؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
«إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، وإسناد الأمور إلى غير أهلها قد يكون عن تعمد وسوء نية ومقصد وهذه هي الخيانة التي تمنع الناس عن اتباع الحق بعد ظهوره، ولكن الأصعب والأدق من ذلك أن عدم إسناد الأمور إلى أهلها قد يكون لعدم وضوح في الرؤية، وعدم قدرة على تحديد العدو من الصديق، وهذا هو الضلال الذي يمنع الناس عن رؤية الحق حقًا، وبالتالي لا يُرزقون اتباعه. وفي ذلك يأتي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه».
أتعرفون المصاب بمرض الزهايمر (ضمور في خلايا المخ السليمة يؤدي إلى تراجع مستمر في الذاكرة)؟ هذا المريض ينسى الأشياء والأشخاص من حوله تدريجيا حتى يصل إلى مرحلة متقدمة ينسى فيها أقرب الناس إليه وفي هذه المرحلة تجده يسأل كل 10 دقائق من هذا الذي إلى جواري؟ فيقال له: إنه أخوك فلان فيسكت قليلا ثم يعاود السؤال.
فإذا قيل له في مرة من المرات: إن هذا الجالس إلى جوارك ليس أخاك وإنما هو لص يريد سرقة بيتك، أو عدو يريد الاعتداء عليك، فسيقوم المريض بمهاجمة هذا الجالس إلى جواره، أو على الأقل سيشعر نحوه بمشاعر عداء أو خوف أو ما إلى ذلك.
ثم إذا قيل له مرة أخرى إن هذا الذي تضربه أخوك الذي تحبه ويحبك، فسيتوقف عن ضربه ويعانقه فورا وهكذا، إنه شخص بلا ذاكرة، أو بالأحرى ذاكرته قصيرة جدا مدتها 10 دقائق أو 20 ثم يتبخر كل شيء في وعيه ليحل محله وعي جديد، ويتحدد بناء على هذا الوعي الجديد من العدو ومن الصديق.
وبنفس الطريقة تقريبًا يتم التأثير على الأمم والجماعات بتزييف وعيها التاريخي، فتكون الأمة بلا ذاكرة كلما قيل لها في الإعلام شيء صدقته وتبعته وآمنت به من فورها، كما يقول المثل الأجنبي الذي يصف حال الجماهير مع الإعلام «last in first out»، أي أن آخر ما يدخل عقولها هو أول ما تقوله بألسنتها بدون إمرار للكلام على الوعي العاقل ليقبل ويرفض. فإذا قيل لنا إن دولة كذا صديقة فهي صديقة وإذا قيل عن نفس الدولة أو المؤسسة أو الشخص إنه عدو فهو أشد خطرا من الشيطان نفسه!
نعود إلى التاريخ فنجد أن الوعي التاريخي للأفراد والجماعات هو من أكبر المؤثرات على قرارات الواقع والمستقبل، وفي هذا المعنى المهم نجد عبارة جورج أورويل في روايته المهمة ذائعة الصيت 1984: «من يملك الماضي يملك المستقبل، ومن يملك الحاضر يملك الماضي».
لذلك يقول الله سبحانه وتعالى في أول سورة يوسف:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَن الْقَصَص بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن وَإِنْ كُنْت مِنْ قَبْله لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (سورة يوسف:3). فأحسن القصص ليست قصة سيدنا يوسف خاصة بل قصص القرآن كله هو أحسن القصص لما فيه من عبر وعظات واقعية لمن أراد الاستهداء بآيات الله سبحانه. لذلك أيضًا نجد قوله تعالى في آخر سورة يوسف:
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (سورة يوسف :111).
إن قصص القرآن فيها عبرة لمن أراد أن يعتبر، وإنما يعتبر السعداء أولوا الألباب أصحاب العقول، والسعيد من اعتبر بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه، والأشقى من لم يتعظ قط.
وقصص القرآن ليست قصصًا خيالية وأحاديث تفترى وتخترع كروايات وأساطير اليونان والإغريق والفراعنة والفرس والروم، بل هي تصديق لما كان في الماضي وتفصيل لما هو كائن في الحاضر وهداية وإرشاد فيما سيكون في المستقبل.
وقد جعل الله تعالى كثيرا من آيات القرآن الكريم في ذكر القصص، حتى إن سورة الكهف، وهي السورة التي قال النبي إنها نجاة من الفتنة الكبرى التي تصيب الناس، وهي فتنة الدجال إذا قرأناها؛ نجدها تتكون من 110 آية منها أكثر من 70 آية في القصص، وباقي الآيات إما مقدمة للقصة أو تعقيب عليها.
وقد استغرقت قصة بني إسرائيل خاصة كثيرا من آيات القرآن الكريم لما بين قوم سيدنا موسى وهذه الأمة من تشابه يفرض علينا أن نتأمله ونتدبر معانيه حتى ننظر إلى أسباب النجاة فنتبعها وإلى أسباب الهلاك فنجتنبها، وقد فضلهم الله على العالمين فقال سبحانه:
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (سورة البقرة: 47)، لكنهم لم يفهموا أن التفضيل على العالمين مشروط بالإيمان والتقوى والعمل الصالح فتبجحوا على الله تعالى وقالوا:
{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فأتاهم الخطاب الإلهي مؤدبا موبخا: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(سورة المائدة: 18).
ونفس الخطأ وقعت فيه هذه الأمة عندما ظنت أنها خير أمة بغض النظر عن حسن أعمالها أو عدمه واعتمدت على قوله تعالى في سورة آل عمران: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، وتناست قول الله تعالى بعده مباشرة: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}.
ثم بين سبحانه أن الأمر ليس متعلقا بكم أيها المسلمون فقط بل الخطاب نفسه توجه لمن كان قبلهم وليتهم التزموا بما عاهدوا الله عليه فقال سبحانه: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} ( آل عمران: 110).
وإذا كنت ستسأل عن أمثلة ومواقف تؤكد هذه الفكرة فإليك التاريخ كله فاقرأه متأملا مسترشدا، فإن تأمل هذه السنن التاريخية ووعي الإنسان بنفسه وبأمته وتاريخها يجعل قراره في واقعه وتخطيطه لمستقبله رشيدا متبصرا وهو الأمر الذي لا يريد أعداء الأمة حصوله، فليتنا ندرك أن معركتنا مع أعداء الإسلام هي معركة وعي في الحقيقة فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وبداية من اللقاء المقبل سنحاول تسليط الضوء على العديد من المواقف والمحطات المهمة في مسيرة التاريخ البشري، ونحاول الإجابة على الأسئلة التاريخية الفارقة التي يتغير نظرنا إلى ما بعدها بتغير نظرنا إليها، ونبدأ حديثنا بما كان من أمر الأمة بعد وفاة الني صلى الله عليه وسلم، ثم أمراء بني أمية، ثم بني العباس، والفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين، وتاريخ المسلمين في الهند، وتاريخ المسلمين في الأندلس، والحملة الفرنسية على مصر والشام، ومحمد علي باشا، وتحديث بلاد الإسلام على الطريقة الأوروبية، وصولا إلى المرحلة الراهنة من عمر الأمة.
وهذه المرحلة لن نفهما إلا في إطار فهم عام شامل للمحطات التاريخية الرئيسية، فإلى كل من أراد أن يفهم الواقع ويعرف دوره فيه؛ هيا بنا نبدأ هذه الرحلة الشيقة المهمة، وهي رحلة في ذاكرتنا الجماعية وتاريخ أمتنا من أجل الإجابة عن تحديات الواقع وتطلعات المستقبل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.