كيف تضر الموازنة العامة بصحة المصريين؟
الصحة تاج على رءوس الغرب، أما مصر فهي دولة في مكان آخر من العالم، دولة فقيرة جداً، لا تمتلك تعليمًا جيداً، ولا علاج ولا إسكان ولا توظيف جيدًا على حد تعبير رئيسها.
استكمالاً لما بدأناه في التقرير السابق عن أوضاع التعليم في مصر، فإن ذلك التقرير يعرض لأوضاع قطاع الصحة، مُتتبعاً الأرقام والنسب، ومُقارناً مصر بدول أخرى. يعرض اللقطة ويترك ما خلفها من مشاهد إلى خيال القراء، الذي لن يخلو من قصة هنا أو حكاية هناك تُعبر عما آلت أوضاع قطاع الصحة في مصر من سوء وما وصلت إليه من ترد.
مصر في عيون منظمة الصحة العالمية
لا يعبأ العالم إلا بالحقائق التي تظهر جلية في الأرقام والاحصاءات، ولا يأبه بالخطابات العاطفية مهما بدت علامات الصدق وأمارات الإخلاص على وجه صاحبها.
الوضع في قطاع الصحة لا يختلف كثيراً عن نظيره في التعليم، والحقيقة أن الترابط بينهما منطقي، فالطبيب الذي أساء تشخيص حالتك اليوم، ما هو إلا ضحية منظومة تعليم دمرته بالأمس.
شبح المرض يخيم على المصريين ليل نهار، فهم أكثر شعوب المنطقة تعرضاً للإصابة بأمراض القلب والسكر والسرطان وكذلك أمراض الجهاز التنفسي المزمنة وغيرها، حوالي 36% من المصريين معرضون للإصابة بهذه الأمراض، نحن هنا نتحدث عن احتمالية الإصابة وليس عن المصابين بالفعل، مع العلم أن هذه النسبة تنخفض إلى النصف في دولة كـلبنان بمعدل 18% فقط.
المشكلة الحقيقية أن أحدًا لا يضمن الحصول على رعاية صحية جيدة في حال تعرضه لأي من هذه الأمراض. يلجأ عامة الشعب في الغالب إلى المستشفيات العامة حيث العنابر المكتظة، وشبح الموت يحوم في المكان، فالمريض يصرخ ولا مجيب.
عدم الاستجابة لتلك الصرخات مرجعه الأساسي، هو أن نسبة المهنيين الصحيين المهرة في مصر بلغ 23 لكل عشرة آلاف مواطن خلال الفترة من 2005 إلى 2015 وهي نسبة ضئيلة إذا ما قورنت بباقي دول المنطقة، حيث يرتفع ذلك الرقم إلى 78 في السعودية، و77 في دولة صغيرة كقطر، و46 في الإمارات.
من المؤشرات الأخرى التي تتبناها منظمة الصحة العالمية وهي بصدد تقييم جودة خدمات الصحة في دولة ما، هو معدل وفيات الأمهات أثناء الولادة، في هذا المؤشر، سجّلت مصر 33 حالة وفاة لكل 100 ألف حالة ولادة في 2015، يبدو الرقم صغيراً جداً، ولكن كالعادة عندما نقارنه بدول المنطقة سنكتشف أنه ليس كذلك! حيث ينخفض هذا الرقم إلى 6 حالات في الإمارات، و12 في السعودية، و13 في قطر، و15 في كل من لبنان والبحرين، إلا أنه يرتفع كثيرًا في المغرب بمعدل 121 حالة وفاة لكل مائة ألف حالة ولادة.
كذلك فإن عدد وفيات الأطفال ممن هم دون الخمس سنوات، يمثل مؤشرًا آخر للحكم على مدى جودة الخدمة الصحية في بلد ما، في هذا المؤشر سجلت مصر 24 حالة وفاة لكل ألف طفل عام 2015، وهي من أعلى نسب المنطقة، إذ ينخفض هذا الرقم إلى 17 حالة وفاة في الأردن، و14 في السعودية، و7 في الإمارات، و6 في البحرين.
ونظرًا لأهمية ذلك المؤشر، فإن المنتدى الاقتصادي العالمي قام بترتيب دول العالم من حيث مدى انخفاض عدد وفيات الأطفال بها لكل ألف طفل، وقد جاءت مصر في المرتبة الـ90 عالمياً في هذا المؤشر عام 2017-2018 من بين 137 دولة شملها التقرير.
أما عن عدد وفيات المصريين الناتجة عن تلوث الهواء فقد بلغت 51 حالة لكل 100 ألف مواطن عام 2013، وهي أيضًا النسبة الأعلى في المنطقة، إذ ينخفض ذلك الرقم إلى 27 في السعودية، و7 فقط في الإمارات.
ربما أرهقتك كثرة الأرقام، الآن دعني أضع بين يديك رقماً واحداً يلخص كل ما سبق، وهو متوسط عمر الفرد المتوقع عند الميلاد، بمعنى أبسط ما هو متوسط عمر الفرد في مصر؟ وماذا يعكس ذلك الرقم؟
تأتى أهمية هذا المؤشر من كونه يعبر عن حقيقة الأوضاع الصحية في بلد ما بشكل عام، جودة الطعام ومياه الشرب، الأمن، جودة الخدمات الصحية، ضغوط الحياة… إلخ.
فإذا وُلدت في دولة فقيرة ومفخخة بالصراع كالصومال، فمن المتوقع أن تعيش في المتوسط 55 عامًا فقط، أما إذا ولدت في ألمانيا حيث ارتفاع جودة الحياة من مأكل ومشرب ومسكن ورعاية صحية فمن المتوقع أن تعيش 81 عامًا في المتوسط.
أما إذا كنت مواطناً مصرياً، فمن المتوقع أن يبلغ عمرك 71 عامًا في المتوسط، يرتفع ذلك الرقم قليلاً ليكون 74 عامًا في المتوسط في أغلب دول المنطقة، كالسعودية ولبنان والكويت، و76 عامًا في عمان، و78 عامًا في قطر.
الصحة والموازنة العامة
بالنظر إلى موازنة العام الحالي 2017/2018 نجد أن الدولة قد خصصت 4.5% من مصروفاتها لقطاع الصحة، في حين حظي قطاع التشييد والبناء بـ 8% من إجمالي المصروفات، الدولة المصرية تفضل الاستثمار في الحديد والإسمنت والحجارة عن الاستثمار في صحة أبنائها، نجد ذلك جلياً في حجم المشروعات العملاقة التي تُنفذها الدولة خلال الفترة الأخيرة، لعل أهمها العاصمة الإدارية ومدينة العلمين الجديدة.
التوسع العمراني وبناء مدن جديدة أمر لا مفر منه، إذ إن المصريين يعيشون على 7.8% فقط من مساحة مصر، ولا شك أن مدينة كالقاهرة ضاقت على سكانها الذين يمثلون 10% من إجمالي السكان، ومن ثَمَّ فإن التوسع العمراني ضرورة لابد منها ولا خلاف على ذلك.
إلا أن ألف باء اقتصاد هي الأولويات، فأموال الدولة محدودة، وإنفاقها هنا يعنى عدم انفاقها هناك، أيهما أهم في الوقت الراهن تعليم وصحة المصريين أم بناء مدن جديدة؟
يجب أن يكون تعليم الإنسان وصحته على رأس أولويات الحكومة المصرية، حتى يأتي اليوم الذي نفاخر فيه العالم بتعليمنا وصحتنا وليس فقط بمدننا الجديدة. فبمطالعة تاريخ الدول التي حققت قفزات اقتصادية كسنغافورة وماليزيا وكوريا وغيرها، نجد أن نقطة البداية كانت الاهتمام بصحة الإنسان وتعليمه، ثم يأتي بعد ذلك بناء صناعة وطنية قوية توفر فرص عمل منتجة للشباب.
التشوه الآخر في بنود الإنفاق يأتي من باب مدفوعات الفوائد التي تبلغ 7 أضعاف ما يتم انفاقه على قطاع الصحة، ارتفاع مدفوعات الفوائد يأتي على خلفية زيادة الدين العام خلال الفترة الأخيرة بمعدلات غير مسبوقة ليسجل حوالي 130% من الناتج المحلي الإجمالي.
الدين في حد ذاته لا يمثل مشكلة، فالدول تستدين لتسد العجز الناتج عن زيادة مصروفاتها عن إيراداتها بشكل كبير، ولكن هل تستدين مصر لتمول الإنفاق على التعليم والصحة والتصنيع وغيرها من القطاعات المنتجة؟ الإجابة بكل ثقة لا، ومن ثَمَّ فإن الدين في هذه الحالة يمثل عبئا على هذه القطاعات لا ممولاً لها ومن هنا تأتي المشكلة.
هذه هي الصورة الإجمالية، إلا أن بعضًا من التفصيل قد يزيد الصورة وضوحاً، بالانتقال إلى التقسيم الوظيفي للمصروفات في موازنة 2017/2018، نجد أن حوالي 54% من أموال قطاع الصحة تذهب إلى الأجور والمرتبات بما قيمته 29 مليار جنيه، في حين يتم توجيه حوالي 19% فقط من إجمالي مخصصات القطاع إلى الاستثمارات بما قيمته حوالي 10 مليارات جنيه، فهل يكفي هذا الرقم الهزيل للإحلال والتجديد وتحسين مستويات الخدمة بالمستشفيات؟ يكفيك أن تعلم أن مخصصات الاستثمار في الإسكان فقط في الموازنة بلغت ثلاثة أضعاف الاستثمارات في الصحة بحوالي 35 مليار جنيه.
أما عن مشتريات الدواء التي تحتاجها المستشفيات سواء الحكومية أو الجامعية، فقد خصصت له الدولة حوالي 6.5 مليار جنيه في موازنة العام الحالي، ولكن هل الرقم كبير أم صغير؟ دعنا نقارنه برقم آخر في نفس القائمة، وهو مخصصات الصيانة التي تقدر بـ 6.9 مليار دولار، أي أن الدولة تنفق على صيانة الآلات أكثر مما تنفقه على شراء مستلزمات المستشفيات من الأدوية!
الخلاصة أن تدهور أوضاع الصحة في مصر شأنها في ذلك شأن التعليم مرده هو أن الدولة لا تضع هذه القطاعات على رأس أولوياتها، فلا يعنيها الاستثمار في صحة الإنسان ولا تعليمية بقدر ما يعنيها إنشاء المشاريع القومية كقناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة!