كيف تقتلك التكنولوجيا؟
التكنولوجيا هي الشيء الوحيد الذي يتطور بشكل استثنائي، منذ عام 1960 ارتفعت قوة الكمبيوتر والحواسب الرقمية قرب التريليون ضعف، لا شيء آخر تطور إلى هذا الحد في تاريخ البشرية، السيارات فقط تطورت ضعفين في نفس المدة على سبيل المثال، والأهم من هذا وذاك أن الشيء الذي لم يتطور على الإطلاق هي الفسيولوجيا البشرية وأدمغتنا.
يجب أن نكون على يقين أننا لا نعلم شيئاً عمّا تستطيع التكنولوجيا فعله، فهي تسيطر فعلياً على العالم، والخطر الذي نواجهه بات أكثر مما قد نتخيل، وحتى إذا اضطررنا إلى الاعتماد على التكنولوجيا بسبب جائحة كورونا وغيرها، فيجب أن نعلم متى نتوقف، وما قد يحدث إذا لم نتوقف.
مخاطر منصات الـ 4G والـ 5G
لا شك أن سيطرة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على عالمنا محل اهتمام من العلماء والحركات الشعبية، فقد قامت منظمة EMF Scientist، التي تضم 248 عالماً ومهندس من 42 دولة، بدعوة الأمم المتحدة للحد من استخدام تكنولوجيا الـ 4G والـ 5G، وذلك لحماية البشر والطبيعة من المجال الكهرومغناطيسي الخاص بها، والذي يُسبِّب أمراضًا مثل اضطرابات التنفس والقلب والسرطان.
دكتور «مارتن كلينك» من جامعة كولومبيا أضاف في بحث له أن منصات الـ 4G والـ 5G التي تمتلئ بها المدن وأسطح العمارات هي السبب في ارتفاع سرطان المخ ثلاثة أضعاف، ويصل الخطر الذي تتسبب فيه إلى تدمير DNA الخلايا البشرية، وهو ما يُعرِّض الأجيال القادمة لخطر التوحد وولادة أجنّة ميتة، بالإضافة إلى الأمراض السرطانية.
وقد تحركت الكثير من المظاهرات والحركات الشعبية ضد هذه التكنولوجيا الجديدة، ووصل بها الأمر إلى تدمير هذه الأبراج بالقوة، لكن إلى الآن لا توجد أي إرادة عالمية للتعامل مع هذا الخطر الحقيقي.
ثورة الذكاء الاصطناعي
وصل معدل الزيادة في السوق العالمي للذكاء الاصطناعي إلى حوالي 54% كل عام، حيث تعتمد الدول بشكل كبير على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. ففي برنامجها الاقتصادي في عام 2030، من المتوقع أن يمثل الذكاء الاصطناعي حوالي 26.1% من الناتج المحلي للصين، و14% من الناتج المحلي لأمريكا الشمالية، و13.6% من الناتج المحلي للإمارات العربية المتحدة.
والذكاء الاصطناعي عبارة عن برامج أو أجهزة تستطيع -عن طريق التعلم الذاتي- حل المشاكل التي تواجهها بدون أي تدخل بشري، وهذا الاتجاه العالمي للتطوير والاستثمار في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي سيقضي على 54% من الوظائف الحالية، حيث هناك 800 مليون عامل على مستوى العالم مُعرضون لفقدان وظائفهم، وحوالي 375 مليون عامل في حاجة إلى تعلم مهارات جديدة للبقاء.
والاقتصادات ذات الدخول العالية هي الأكثر عُرضة للدمار أولاً، ففي ظل استمرار الاعتماد على التكنولوجيا في سوق العمل ظهر ما يسمى بـ GIG Economy، والذي يُقدر حجم اقتصاده بـ 455 مليار دولار، حيث يستطيع أي شخص في كينيا -على سبيل المثال- أن يؤدي وظيفة شخص في الولايات المتحدة بأجر أقل بكثير وبدون تأمينات اجتماعية وتأمين طبى.
حقيقي قد يمنح الـ GIG Economy فرص عمل لأبناء الدول الفقيرة على حساب الدول الغنية، ولكنه في جوهره صورة أشد قتامة للعبودية.
أي شخص الآن يستطيع أن يرى احتلال الآلات للوظائف، من خلال الـ Online Shopping والـ ATM والعربات والطائرات المُسيَّرة، والروبوتات التي تُستخدم في التصنيع وحتى في التعليم، ومع انتشار جائحة «كوفيد-19» سار الأمر من الضروري -أكثر من أي وقت مضى- الاعتماد على الإنترنت في التعليم، لكن التعليم عن بعد ليس بجديد، والبعض يجزم أنه يقتل العملية التعليمية ذاتها، لأن التعليم مرتبط بالتفاعل مع الطالب بسرد القصص التي ترتبط في عقله بخبرات حياتية خاصة به والتي تخلق التعاطف والتفاعل مع المحتوى التعليمي وهذا لا يمكن حدوثه بضغطة زر.
دكتور «آرون يارس» في دراسة له يقول إن 78% من الطلاب الذين يستخدمون التعلم عن بعد يفقدون تركيزهم، و60% يتخلّفون عن الأنشطة الرياضية، و78% يفقدون الشغف والتعاطف مع المحتوى التعليمي.
الحروب السيبرانية
يمكن النظر حالياً إلى التكنولوجيا بصفتها سلاح عسكري فتّاك، تستخدمه الدول في الحروب، والأهم أنه غير مُكلِّف نسبياً، ويتطور بشكل خرافي كلما زاد اعتماد الدول والشعوب عليه.
ففي عام 2007 في «تالين» عاصمة إستونيا، اشتعلت الشوارع بمظاهرات وأعمال شغب من مواطنين من أصل روسي، اعتراضاً على قرار الحكومة بنقل تمثال برونزي لجندي من الجيش الأحمر الروسي بعيداً عن مركز المدينة، حيث يعتبر الروس هذا التمثال رمزاً لتحرير إستونيا من النازية على يد السوفييت، ولكن إستونيا -كدول أخرى مثل: بولندا ولاتفيا وليتوانيا- لا تعتبر الروس جيش تحرير، بل تعتبره جيش احتلال آخر، لا فرق بينه وبين النازيين. لليلتين اشتغلت المدينة، حيث تم تدمير المحلات والمقاهي والأملاك العامة والخاصة، فردّت الشرطة بقوة وأصابت 156 شخصًا وقبضت على 1000 آخرين.
ولكن في منتصف الليل بتوقيت موسكو، في 9 مايو/أيار 2007، تعرضت دولة إستونيا لحرب إلكترونية شاملة مصدرها دول مختلفة مثل الصين وفيتنام وماليزيا وأمريكا، وحرفياً اختفت الدولة من خريطة العالم ثلاثة أسابيع كاملة. فإستونيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي تعتمد على الإنترنت والاستثمار فيه بشكل كامل، وذلك للنهوض بمعدل التنمية الاقتصادية في كل المجالات البنكية والتجارية والتعليمية وحتى في التصويت الانتخابي، حيث إن 98% من التعاملات البنكية تتم عن طريق الإنترنت، و75% من الشعب يدفعون الضرائب أونلاين، ففي إستونيا قد لا تستطيع شراء اللبن أو الخبز بدون إنترنت.
بعد الهجوم انهار كل شيء البنوك والصحف والقنوات التليفزيونية والقطاع الحكومي والبرلمان، وتم اختراق جميع المواقع الحكومية، وتم نشر صور للجيش الروسي عليها، وكذلك تم إرسال رسائل إلكترونية لأعضاء البرلمان تحميل تهديداً لأمنهم الشخصي، وصرّح وزير الدفاع آنذاك أن هذا هجوم إرهابي صريح لزعزعة الأمن العام والإطاحة بثقة الشعب في الدولة.
وفي يونيو/حزيران 2010، تعرّضت إيران لهجوم إلكتروني مشترك من الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث تم اختراق منشآتها النووية في «ناتانز» بواسطة الدودة الإلكترونية «ستوكسنت»، فدمرت أكثر من 1000 جهاز طرد مركزي نووي، مما تسبّب في تعطيل برنامج إيران النووي لمدة عامين على الأقل.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2015، خلال حرب القرم، تعرّضت «كييف» عاصمة أوكرانيا لهجوم إلكتروني روسي، استهدف 30 محطة كهرباء، وذلك لمدة 6 ساعات، فبات 230 ألف شخص يعيشون في ظلام دامس في شتاء ديسمبر بدون كهرباء.
ونجد أن الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والهند والصين و«إسرائيل» وإيران وكوريا الشمالية، هي من أكثر الدول التي تستخدم الحرب الإلكترونية عسكرياً، ولكن خطر استخدام التكنولوجيا كسلاح لا يتوقف عند هذا الحد، بل صارت التكنولوجيا قادرة على اختراق كل شيء حتى إدراكك ووعيك.
إدمان السوشيال ميديا
عندما نرى العالم من حولنا نشعر أنه في حالة جنون، وعلينا أن نسأل أنفسنا ما السبب؟ هل هذا طبيعي؟ هل نحن السبب؟ هل نستطيع أن نُوقف هذا الجنون والهوس؟
دكتور «آنا ليمبك» من جامعة ستانفورد، تقول إن الإنسان خُلق ليتواصل مع الآخرين، وهذا التواصل يؤثر بشكل مباشر على إفراز هرمون الدوبامين، وكلما ازداد استخدام الشخص لمنصات التواصل الاجتماعي زاد إفراز هرمون الدوبامين، والاحساس بنقص هرمون الدوبامين في الجسم هو ما يؤدي إلى الإدمان.
فمنصات التواصل الاجتماعي صُمِّمت لتحفيز هرمون الدوبامين بشكل قوي جداً أكثر بأضعاف من المعدلات الطبيعية، بمعنى آخر صُمِّمت لكي تجعل مستخدميها مُدمنين، وبالفعل ارتفعت القيمة السوقية للفيسبوك إلى 757.59 مليار دولار من أصل 59.9 مليار دولار عام 2012، ووصل عدد مُستخدمي فيسبوك إلى 2.7 مليار شخص، بينما وصل مُستخدمي اليوتيوب إلى 1.7 مليار شخص، والواتساب إلى 1.5 مليار شخص، والإنستغرام إلى 1 مليار شخص، أي حوالي 3.8 مليار شخص يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي في العالم (حوالي نصف سكان العالم)، والمعدلات مازالت في زيادة مستمرة.
أمّا عن نتيجة إدمان منصات التواصل الاجتماعي والإفراط في استخدامها، فهي أكثر بكثير ممّا نراه بظاهر العين، حيث صار هناك هوس لزيادة المتابعين، وتحصيل أكبر كم ممكن من الإعجابات والتعليقات، وصار المستخدم يحتاج إلى هذا التفاعل كأي مدمن يحتاج إلى المخدر، ولكن ماذا يحدث في النهاية نتيجة لهذا الخلل الهرموني؟
يؤكد «جوناثان هايدت»، عالم النفس وأستاذ القيادة الأخلاقية بجامعة نيويورك، في دراسة له، أن نسبة المراهقين في الولايات المتحدة بين عامي 2011 و2013 الذين ترددوا على المستشفيات بسبب إيذاء أنفسهم وصل إلى نسبة 62% (بين أعمار 15-19 عام)، ووصل إلى نسبة 89% (بين أعمار 10-14 عام)، وارتفعت نسبة الانتحار إلى 70% (بين أعمار 15-19 عام)، وإلى 51% (بين أعمار 10-14 عام).
توجيه الرأي العام
ولكن من المستفيد من هذا الهوس اللا أخلاقي؟ ومن صنع منصات تُرسِل الناس إلى الإدمان والانتحار؟
كل ما تراه على مواقع التواصل الاجتماعي وكل ما تهتم به وكل ما يثير إدمانك، هو خطة لجذبك تجاه المُعلنين، هو حرب عليك لجعلك متصلا أمام شاشتك أكبر وقت ممكن، وكلما زاد الوقت، كلما زاد انبهارك بما أُتيح لك من خدمات تعتقد أنها مجانية، ولكن ما لا تعلمه أنه إذا لم تدفع ثمن السلعة فأنت السلعة، لأن تغيير الإدراك والسلوك الخاص بك هو السلعة، فمنصات التواصل الاجتماعي هي مول تجاري عملاق وإدمانك لها وكل ما تسببه لك هو مجرد آثار جانبية لا تهتم بها الشركات المُعلنة.
تهتم الشركات فقط بأن تظل أكبر وقت ممكن على هذه المنصات والتطبيقات، مما يمنح الخوارزميات المركبة القدرة على تحليل سلوكك، وتجميع أدق التفاصيل عنك، حتى أكثر ممّا تعرفه عن نفسك. فقط 50 مُصمِّم في جوجل من خلال مكاتبهم في كاليفورنيا يتحكمون في سلوك اثنين مليار شخص من خلال الإشعارات، الأخطر من ذلك أنه يتم استخدامك من قبل المنظمات والحكومات لأجندات سياسية خاصة.
ففي دراسة من «معهد ماساتشوستس للتقنية» ثَبُت أن الأخبار الزائفة على موقع تويتر تنتشر بشكل أسرع ست مرات من الأخبار الحقيقية، حيث تتحدث «سينتيا ونج» من Human Rights Watch عمّا يحدث في ميانمار، حيث تستخدم الحكومة ومكتب الرئاسة موقع فيسبوك كطريقة جديدة للتلاعب بالرأي العام للتحريض على العنف ضد مسلمين الروهينجا، والذي شمل إبادة جماعية وحرق قرى بالكامل واغتصاب جماعي وغيرها من الجرائم الخطيرة ضد الإنسانية والتي أدت إلى فرار 700 ألف روهنجي مسلم.
وكذلك ترى أن ما حدث في الانتخابات الأمريكية عام 2016، لم يكن اختراقًا روسيا للنظام الانتخابي الأمريكي، بل استخدام روسي للأدوات التي صنعها الفيسبوك وغيره من التطبيقات للمعلنين والمستخدمين الشرعيين، بغرض التلاعب بالشارع الأمريكي، وتصعيد ترامب للحكم.
وفي النهاية، هل نستطيع أن نُوقف هذا الجنون؟
الإجابة: لا. من الممكن أن نُخفِّف وطأتها عن طريق ترك الأجهزة خارج غرف النوم على الأقل، وأن نحمي أطفالنا من استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي في سن ما قبل الـ 16، ثم نُحدِّد توقيتات خاصة لاستخدام هذه الأجهزة يومياً.
هناك أيضاً اقتراحات بفرض الضرائب على المنصات التي تجمع معلومات المستخدمين لأغراض تجارية كأي سلعة أخرى، ومن الممكن أن يكون هناك ضغط شعبي أكبر لتنظيم قوانين ضد الاستخدام الخاطئ للمعلومات الرقمية وخصوصيتها.
استخدام الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية صار وسيلة لقتل الإدراك والوعي لدى الإنسان، ولعل هذه هي الطبيعة البشرية في الأصل، فالعالم الذي يصرف 1.7 تريليون دولار سنوياً على صناعة الأسلحة، سيسعى بكل تأكيد لتحويل هذه التكنولوجيا إلى سلاح فتّاك.