كيف غيّر مسلسل «Seinfeld» وجه الكوميديا الهزلية؟
في ليلة الأربعاء السادس من مايو/آيار عام 1981، ألقى الممثل الكوميدي «جوني كارسون – Johnny Carson»، مقدم البرنامج الشهير «The Tonight Show»، هذه الكلمات تقديمًا لموهبة شابة تظهر للمرة الأولى في التلفزيون الوطني. خرج إلى مقدمة المسرح شاب في منتصف العقد الثالث من العمر، وقدم وصلة قصيرة من المونولوج الكوميدي «Stand-Up Comdey»، تفاعل معها الجمهور بشكل جيد.
كان «جورج شابيرو – George Shapiro» جالسًا بين الجمهور في تلك الليلة، وبعد انتهاء عرض الشاب أشار إليه كارسون بإحدى يديه. يقول شابيرو إن هذه الإشارة من كارسون هي أقصى تقييم قد يمنحه لكوميديان في تلك الأيام. كان شابيرو في ذلك الوقت يعمل مديرًا للمواهب ومنتجًا تلفزيونيًّا، وأسس مع شريكه «هاورد ويست – Howard West» شركة «شابيرو/ويست»، وهي شركة صغيرة للإنتاج.
بعد هذه الليلة تردد شابيرو على نادي «The Comedy Store» لمشاهدة عروض هذا الشاب، وفي إحدى تلك المرات جلب معه شريكه هاورد ويست. «هناك شيئًا فريدًا بشأن هذا الشاب»، هكذا علق ويست بعد مشاهدة العرض.
بينما يواصل الشاب الظهور في برنامج «The Tonight Show»، وغيره من البرامج الشهيرة التي قدم فيها عروضًا كوميدية ناجحة على مدى السنوات القليلة التالية، كان شابيرو يواصل مراقبته، وفي الليلة الأخيرة من شهر أغسطس عام 1988، أرسل شابيرو برسالة إلى براندون تارتكوف Brandon Tartikoff، رئيس شبكة NBC في ذلك الوقت، قال فيها:
مسلسل عن ﻻ شيء
لم يكن هذا الخطاب الأول من شابيرو إلى تارتيكوف، ولكن سبقه العديد من الخطابات التي تزامنت مع كل ظهور مميز لساينفيلد، أو كل رأي نقدي معتبر يكتب عنه، ولكن هذا الخطاب هو ما دفع تارتيكوف إلى ترتيب موعد للقاء ساينفيلد.
انتهى الاجتماع على اتفاق بأن يقدم ساينفيلد حلقة خاصة من 90 دقيقة تعرض ضمن برنامج «Saturday Night Live». قرر ساينفيلد، الذي لم يكن لديه أي خبرة بالتلفزيون، الاستعانة بصديقه ﻻري ديفيد في كتابة هذه الحلقة، وقرر الاثنان أن تدور الحلقة حول ساينفيلد نفسه، وكيف يستقي مادته الكوميدية من روتينه اليومي، حيث تتبعه كاميرا واحدة أثناء جولة صباحية في الشارع، وأثناء شرائه بعض المتعلقات من أحد المتاجر، أو جلوسه في أحد المطاعم لتناول الطعام والثرثرة مع أحد الأصدقاء، على أن تنتهي الحلقة بساينفيلد وهو يؤدي مونولوجًا كوميديًّا يقدم فيه هذه المادة التي استقاها خلال اليوم.
بعد البدء في كتابة الحلقة شعر ساينفيلد أن 90 دقيقة هي مدة طويلة لمثل هذه الفكرة، فتطورت الفكرة لتصبح سكتش كوميدي من 30 دقيقة يؤدي فيه ساينفيلد شخصيته الحقيقية، بالإضافة لابتكار شخصيتين إضافيتين، إحداهما هي شخصية ﻻري ديفيد نفسه، والأخرى هي شخصية كرايمر، جار ديفيد الفضولي.
جرى العرف في التلفزيون الأمريكي أن تقوم الشبكات بتصوير حلقة واحدة من المسلسل يطلق عليها «Pilot» أو حلقة تجريبية، يتم بعدها استقصاء رأي الجمهور إزاء هذه الحلقة والخروج ببحث كامل عنها. بعد تصوير الحلقة التجريبية من مسلسل «Seinfeld»، جاءت نتيجة البحث سلبية للغاية، إذ اعتبر البحث أن الحلقة يغلب عليها الطابع النيويوركي اليهودي، وأنها لم تكن جذابة إﻻ للفئة الأصغر من الشباب، كما أكد البحث أن الأداء التمثيلي ضعيف للغاية، وبشكل خاص أداء جيري ساينفيلد.
كان البحث بمثابة النهاية لهذه التجربة، ولكن «ريك لودوين – Rick Ludwin»، المنتج التنفيذي في NBC، أقنع تارتيكوف بإنتاج 4 حلقات أخرى من المسلسل على أن يتخلى هو عن ميزانية ساعتين بمشروعات أخرى تحت تصرفه. وافق تارتيكوف على هذا العرض بشرط أن يضاف إلى المسلسل شخصية نسائية.
لم يكن ﻻري ديفيد يخطط لأكثر من حلقة واحدة، كان يعاني من الإفلاس في ذلك الوقت، وما كان يشغله هو أن يكتب هذه الحلقة ويتقاضى أجرها ويعود إلى نيويورك مرة أخرى، ولكن بعد الموافقة على استكمال المسلسل كان عليه أن يكتب 4 حلقات إضافية.
يقول ساينفيلد: «أكثر ما كان يجذبنا هي تلك الثغرات المجتمعية التي ﻻ تخضع لقواعد أو قوانين محددة، وكيف يتعامل معها الناس». أما ﻻري ديفيد فلم يهتم بأي شيء بخلاف الكوميديا، كانت الأولوية للضحك فقط، وﻻ مكان للدراما. وبهذا المفهوم خرج المسلسل عن ﻻ شيء، ليس هناك قصة خلفية حاكمة ورابطة للحلقات، فقط مجموعة من العزباء يعيشون في نيويورك ويتعرضون لمختلف المواقف التي ﻻ يكفون عن الثرثرة بشأنها.
يقول المخرج «توم شيرونز – Tom Cherones»، الذي أُسند إليه إخراج الحلقات الأربعة الإضافية:
مسلسل عن ﻻ شيء، كانت هذه هي الطفرة الأولى التي أحدثها مسلسل ساينفيلد في صناعة التلفزيون، مسلسل بلا أي خطوط درامية ممتدة، فقط كوميديا جيدة، وكوميديا مخلَّقة من مساحات وموضوعات لم تطرق من قبل.
كسر القوالب التقليدية
كان مايكل ريتشاردز يجلس في أحد أندية الكوميديا عندما اعتلى المسرح شاب نيويوركي آخر وبدأ في أداء عرضه الخاص، وبعد 3 دقائق فقط من العرض لم يضحك فيها الجمهور مرة واحدة، انفجر الشاب في موجة غضب وبدأ في توجيه السباب والشتائم إلى الجمهور الذي لم يفهم نكاته، ثم ترك المسرح في ثورة عارمة.
بدأ ريتشاردز في الضحك ظنًّا منه أن هذه الثورة جزء من العرض، ولكن الشاب لم يعد إلى المسرح مرة أخرى. بعد سنوات قليلة سيذهب ريتشاردز إلى اختبارات الأداء لمسلسل جديد من إنتاج شبكة NBC، وهناك سيلتقي هذا الشاب الغاضب الذي لم يكن سوى ﻻري ديفيد.
اقرأ أيضًا:«مايكل ريتشاردز»: ملك الكوميديا الجسدية بلا منازع
بعد الموافقة على الحلقات الأربعة الإضافية، بدأ جيري ساينفيلد وﻻري ديفيد في كتابة الحلقات، ثم الانخراط في عدد من الاجتماعات مع المديرين التنفيذيين بشبكة NBC لمناقشة تعليقاتهم على الحلقات والتعديلات المطلوبة، وفي كل مرة تثور ثائرة ﻻري ديفيد ويرفض كل التعديلات المطلوبة. لم يقبل ساينفيلد هذه التعديلات أيضًا، ولكنه كان أكثر حكمة في رفضه من ديفيد. ولكن الغريب في الأمر أن شبكة NBC رضخت أمام هذا الرفض.
يقول «وارين ليتيلفيلد – Warren Littlefield»، المنتج التنفيذي في NBC:
كان أسلوب التصوير باستخدام 3 كاميرات هو السائد والمتبع في الإنتاج التلفزيوني، لكن ﻻري ديفيد أصر على التصوير بكاميرا واحدة، لتأتي الطفرة الثانية في الصناعة، إذ كان مسلسل ساينفيلد هو أول عمل تلفزيوني يتم تصويره بكاميرا واحدة، وهو الأسلوب الذي سار على نهجه عدد من الأعمال التالية مثل «Breaking Bad»، و«House Of Cards».
ارتبط أسلوب التصوير بطبيعة المشاهد كمًّا وكيفًا، فقبل ساينفيلد كان السائد أن المسلسلات الكوميدية، ذات 30 دقيقة أو أقل، تكون عبارة عن 10-12 مشهدًا يتم تصويرهم في منظر ثابت Basic set، وعدد من المناظر المتغيرة Swing Set، بينما حلقات ساينفيلد بلغت 30 مشهدًا في أكثر من 20 منظر متغير، بالإضافة لعدد غير قليل من مشاهد التصوير الخارجي. تطور جديد ومختلف على مستوى الإنتاج، ﻻ يرتبط فقط بالتكاليف الإنتاجية المباشرة، ولكن أيضًا بالاختلاف النوعي لمثل هذه المشاهد عن الشكل التقليدي السائد قبل ساينفيلد.
كان ﻻري ديفيد يتعامل مع الأمر باستراتيجية «كل شيء أو ﻻ شيء»، ربما ﻷنه لم يعتقد أبدًا أن شبكة NBC قد تستمر في التجربة لأبعد من الحلقات الأربعة، ولكن بعد أقل من عام على عرض الجزء الأول، وفي مارس/ آذار عام 1990، جاءه اتصال هاتفي من أحد المديرين التنفيذيين يخبره أن الشبكة وافقت على إنتاج 13 حلقة أخرى.
واصل ديفيد وساينفيلد الكتابة عن ﻻ شيء. كان ديفيد يحمل مذكرة في جيبه يسجل فيها مواقف حياتية مختلفة يتم تطويرها إلى حلقات من المسلسل، أحد هذه المواقف هو انتظار طاولة في أحد المطاعم.
يقول ليتلفيلد:
كان المديرون التنفيذيون متخوفون من فكرة تصوير حلقة كاملة في مكان واحد (One Set)، وكانوا يرون أنها على قدر كبير من الاستيتاكية التي قد تصيب المشاهد بالملل، ولكن في النهاية وافقوا. وبعد التأجيل الطويل تم تصوير الحلقة بالفعل، وعرضت في نهاية الموسم الثاني، وحدثت المفاجأة، ونجحت الحلقة بشكل ﻻفت وأحدثت ضجة كبيرة في حينها.
سيعود ساينفيلد وديفيد إلى هذا الشكل مرة أخرى في عدد من الحلقات المميزة من بينها حلقة «البحث عن سيارة كرايمر»، والتي تدور بالكامل في جراج أحد المولات التجارية. مرة أخرى ينجح الشابان عديمي الخبرة في الكتابة التلفزيونية، وتؤتي أفكارهما غير التقليدية ثمارها، بل إنها تحدث ثورة حقيقية ستغير من شكل الأعمال التلفزيونية اللاحقة.
كوميديا ﻻ تعرف المشاعر
بعد 9 سنوات قدم ساينفيلد وديفيد 172 حلقة، اعتمدوا في كتابتها على قاعدة أساسية: «أﻻ نقدم أفكارًا مكررة». ولهذا كان التجريب هو السمة المهيمنة على الأفكار والكتابة.
في سعيه إلى تجريب كل ما هو جديد وغير مألوف، عمد المسلسل إلى مناقشة موضوعات بمثابة محرمات مجتمعية في ذلك الوقت، من ذلك مثلًا إحدى الحلقات التي تدور حول منافسة بين الأبطال الأربعة في الاستمناء. في كتابها «Seinfeldia: How a Show About Nothing Changed Everything»،تقول المؤرخة الفنية جينفير أرمسترونج:
لم يتوقف الابتكار في ساينفيلد على المحرمات المجتمعية، ولكن أيضًا امتد ليشمل الأمور الحياتية العادية، فهناك الكثير من المصطلحات التي ابتدعها ساينفيلد وديفيد وتجاوزت سياقها الضيق بالمسلسل لتصبح جزءًا من الثقافة الشعبية، كما تضمن الحوار العديد من التصريفات اللغوية التي استخدمها الجمهور في محادثاته العادية وأصبحت ألفاظًا معتمدة لغويًّا. مصطلحات مثل «Close Talker»، و«Regifter»، و«Funeral Hello»، وغيرها الكثير هي ابتكارات خالصة للمسلسل، دخلت بمنتهى السلاسة إلى اللغة والثقافة الشعبية.
أحد أهم القواعد التي اعتمد عليها ﻻري ديفيد في الكتابة هي قاعدة: «ﻻ تعانق، ﻻ تعلم No hugging, no learning». أصر ديفيد بشكل واضح منذ البداية على تجنيب الدراما بشكل كامل، فلا مشاهد مؤثرة أو درامية، وﻻ حاجة للعناق العاطفي أو تطور الشخصيات بفعل التجربة الدرامية.
كانت هذه القاعدة بمثابة خروج على مألوف الدراما الكوميدية، فلا يخلو أي الأعمال الكوميدية من اللحظات الدرامية المؤثرة، والتي جرت العادة أن يتم كسرها وتخفيف وطأتها بنكتة مفاجئة، ولكن ديفيد رفض هذا الأسلوب تمامًا، وأقر مبدأ الضحك الخالي من أي مشاعر.
كان لهذا المبدأ أثره الواضح على الشخصيات، إذ أسس مسلسل ساينفيلد ولأول مرة في التلفزيون، لفكرة ضد البطل Anti-hero. قبل ساينفيلد لم يكن هناك مسلسل يعمد إلى ترك شخصياته الرئيسية بهذا القدر من الأنانية وانعدام التقدير للآخرين، فكيف تكتسب تعاطف المشاهدين مع الشخصيات إذا لم تكن لها جوانب إيجابية واضحة يمكن التماهي معها؟
كان لهذا الطرح الجريء من صناع ساينفيلد الفضل في تشجيع كتاب الدراما التلفزيونية على أن يكونوا صادقين في نقل رؤيتهم لشخصياتهم، دون التقيد برأي الجمهور فيما يجب أو ﻻ يجب أن تقوله أو تفعله الشخصيات. وعلى هذا الأساس رأينا بعد ساينفيلد شخصيات مثل جوي تريبياني في «Friends»، وبارني ستنسون في «How I Met Your Mother»، ورأينا كذلك شخصية والتر وايت في مسلسل «Breaking Bad».
في الحلقة الأخيرة من ساينفيلد نرى محاكمة أبطال المسلسل الأربعة وحبسهم كعقاب لكل أفعالهم خلال مواسم المسلسل التسعة، في إشارة إلى أن هؤلاء الأبطال كانوا نماذج سيئة طوال الوقت، ولكن ذلك لم يمنع من تعلق المشاهدين بهم ومتابعتهم طوال السنوات التسع.
بعد 9 مواسم ناجحة تصدر فيها مسلسل ساينفيلد قائمة الأعلى مشاهدة في التلفزيون الأمريكي في عصره الذهبي، حاولت شبكة NBC إقناع ساينفيلد بإنتاج موسم عاشر،وعرضوا عليه 110 ملايين دوﻻر عن هذا الموسم، لكنه رفض هذا العرض الاستثنائي وقرر إنهاء المسلسل.
قبل 10 سنوات على هذا العرض المغري، كان براندون تارتيكوف يتلقى رسائل شابيرو بشأن هذا الكوميديان الشاب وﻻ يعيرها الكثير من الاهتمام. ربما كانت مغامرة بسيطة أن يسمح رئيس شبكة تلفزيونية عملاقة لاثنين من الشباب ﻻ يملكون أي خبرة في الكتابة التلفزيونية بكل هذه المساحة من الحرية، مغامرة قد تنجح أو تفشل، ولكن الأكيد أن تارتيكوف لم يدر بخلده أن هذين الشابين سيحدثان طفرة وثورة حقيقية في صناعة التلفزيون في العالم كله.