كيف يفسر علم النفس احتياجك لمراجعة فيسبوك كل بضع دقائق؟
في الغالب، أنت تمسك بهاتفك وتقرأ هذا المقال، حتى لا يفوتك معرفة ما الذي يتحدث عنه المقال، لا علاقة لحمادة هلال هنا، لكن قبل البدء في معرفة ما يتحدث عنه المقال، دعنا نتوقف لحظات ونشارك في هذا الاختبار البسيط للغاية: صنّف السيناريوهات التالية على مقياس من 1 إلى 10، حيث إن 1 تدل على الانزعاج البسيط، بينما 10 تدل على غضب واضطراب شديدين.
السيناريو الأول: أنت معتاد على تصفح المواقع الإخبارية كل صباح، لكن اليوم، استيقظت متأخرًا عن موعدك، ولم تتمكن من قراءة المقالات المفضلة لديك. كيف تُقيّم مستواك من عدم الراحة؟ ربما سيختار معظمنا مستوى منخفضًا، 2 على سبيل المثال، فالأخبار تتشابه يوميًا على كل الأحوال.
السيناريو الثاني: أثناء زيارتك لمدينة الأقصر، أدركت أنك لن تتمكن من زيارة جميع المعابد والاطلاع على معالم الحضارة المصرية بأكملها. كيف تشعر الآن؟ ربما بمستوى متوسط من الضيق والانزعاج، لنفترض أنه 5 مثلًا.
السيناريو الثالث: بعد أن اتفقت مع بعض أصدقائك على الخروج، وكنتم متفقين بالفعل على جعله مساءً خاليًا من الهواتف، يوم خاص بكم بدون تصفح أي مواقع تواصل اجتماعي. لكن هنا تأتي المشكلة، هذا الهاتف اللعين ذكي فعلًا، فهو لا يتوقف عن التصفير والتنبيهات والإشعارات المختلفة من جميع التطبيقات. هناك شيء ما يدور على الشبكات الاجتماعية وأنت لا تعرفه، ولا تستطيع التحقق بنفسك. لن أسألك عن شعورك الآن، لأن حتى آخر مقياس الانزعاج لن يعبر عمّا تشعر به. صدقني أنا أفهمك تمامًا.
مرحبًا بك في ظاهرة الـ «فومو – FoMO»، أو الخوف من تفويت الفرصة (Fear of Missing Out)، أحد الاضطرابات الثقافية الجديدة التي تدمر راحة البال.
وباء العصر الجديد
مع التقدم التكنولوجي الهائل، وطوفان المعلومات اليومية الذي يغمرنا، يتملّكنا شعورٌ مُلِحُّ بأن هناك شيئًا أكثر إثارة وأكثر أهمية يحدث في مكان آخر، ونحن لا نشارك فيه. شعور دائم بالقلق بأن الآخرين يخوضون تجارب أكثر أهمية ونحن لسنا جزءًا منها. هو نوع من القلق الاجتماعي يتميز بحاجتنا المستمرة أن نتواصل ونعرف أنشطة الأصدقاء أو غيرهم من الناس، ما الذي يفعلونه في حياتهم؟ متابعتهم باستمرار، ومعرفة آرائهم في كل شيء، وبشكل خاص متابعة «الترندات» التي تنهمر علينا يوميًا.
وهذه الظاهرة أكثر شيوعًا مما قد يتصور البعض، في الواقع تشير الدراسات إلى أن 51% من المراهقين يعانون فعلًا من القلق عندما لا يكونون متأكدين من مكان تواجد أصدقائهم أو ما يفعلون. ووفقًا لدراسة استقصائية أجريت في الولايات المتحدة عام 2013، فإن 56% ممن يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعية يعانون من وباء العصر الجديد: الخوف من تفويت الفرصة «فومو».
بالطبع، هذا الشعور ليس شيئًا جديدًا، وصف هذه الظاهرة أول مرة الدكتور «دان هيرمان» عام 1996، ثم نشر الورقة الأكاديمية الأولى حول هذا الموضوع في عام 2000 في (The Journal of Brand Management). لاحظ الدكتور «هيرمان» هذه الظاهرة أثناء استماعه إلى المستهلكين ومناقشتهم حول المنتجات الشرائية، حيث ذكر معظمهم موضوعًا مشتركًا حول خوفهم من إمكانية تفويت فرصة شراء منتج ما، ومدى فرحتهم إذا اغتنموا هذه الفرصة. وجد الدكتور «هيرمان» أن هذا تطور جديد في علم نفس المستهلك، واستمر في دراسة الأمر كظاهرة اجتماعية وثقافية. بينما صاغ مُصطلح «فومو -FoMO» رجل الأعمال «باتريك ماكجينيس» عام 2004، بعد أن كتب مقالًا في مجلة هاربوس التابعة لكلية هارفرد للأعمال.
كيف تصيبنا ظاهرة الـ «فومو»؟
في حين كان يقضي الناس في القرن الماضي معظم فترات حياتهم في صراع لعدم تفويت فرصة واحدة، إلا أن اليوم يذكّرنا تدفق لا ينقطع للمعلومات بمدى التسارع المزعج للعالم من حولنا. بينما تقرأ هذا المقال، قد تُفوّت فرصة خروجك مع بعض الأصدقاء، أن يجربوا مطعمًا جديدًا بدونك مثلًا، وربما كنت على استعداد لاختصار مكالمة هاتفية أو إنهائها في منتصفها للرد على مكالمة أخرى على الانتظار، حتى بدون معرفة من الذي يتصل.
وليلًا على فراشك، كم مرة كنت قد أقسمت أن تضع الهاتف جانبًا وتنام، قبل أن تُلقي نظرةً سريعةً على الصفحة الرئيسية للفيسبوك؟ لئلا تفوّت بعض الأحداث الجديدة، أو «ترند» جديدًا بدأ في الانتشار سريعًا وتخشى أن يفوتك عندما تستيقظ صباحًا، أو ربما أرسل لك أحدهم طلب صداقة جديد. محادثة مثيرة مع أحد أصدقائك ممّن يسافرون كثيرًا، أو تصفح حسابه على «إنستجرام» مثلًا، تُصيبك بحكّة الـ «فومو»: لماذا لا أسافر؟ ما الذي فاتني؟ لماذا يستمتع بحياته بينما أجلس كل يوم على مكتب في عمل ممل لا أفعل أي شيء مثير؟
كمية هائلة من المعلومات والصور و«الترندات» تغمرنا يوميًا، نشعر معها بالحاجة إلى المشاركة باستمرار، حتى بمجرد الرأي، خوفًا من أن نفوّت هذه الفرصة أو تلك، وخوفًا من الندم لاحقًا على عدم مشاركتنا حتى إن لم نملك القدرة على السفر أو كنّا لا نملك رأيًا في هذا «الترند» أو ذاك.
نحن نسمع دائمًا بأن الندم في النهاية يرتكز على ما لم نفعله، بدلًا من الندم على ما فعلناه. إذا كان الأمر كذلك، فإن مشاهدة الآخرين باستمرار يقومون بأشياء لا نقوم بها بأنفسنا هي أرض خصبة لمستقبل يملؤه الندم على ما فاتنا، بدلًا من الاستمتاع بما نقوم به فعلًا.
شخصياتنا الرقمية الجذّابة على شبكات التواصل الاجتماعية، والتي تكون مغرية من بعيد، جعلت ظاهرة الـ «فومو» أكثر ضراوةً وخبثًا. في كتابها «وحدنا معًا: لماذا نتوقع المزيد من التكنولوجيا وأقل من الآخرين»، تُشير «شيري توركل»، أستاذ علم النفس الاجتماعي، أن التكنولوجيا أصبحت التركيبة الرئيسية التي نحدد من خلالها العلاقات الإنسانية الحميمة، نحن نخلط بين مئات أو حتى آلاف الأصدقاء على الشبكات الاجتماعية مع مجموعة الأصدقاء المُقرّبين لنا في الواقع.
الثمن الذي ندفعه في سبيل هذا الازدهار التكنولوجي هو الانخفاض التدريجي للعلاقات الإنسانية الحقيقية، مع والدينا وأطفالنا وأصدقائنا، ويُولد لدينا نوعًا جديدًا من الشعور بالوحدة. علاقتنا مع التكنولوجيا لا تزال في مرحلة النضج، أن نكون مُتّصلين بالجميع، في كل أوقات اليوم، هي تجربة بشرية جديدة، لسنا مستعدّين للتعامل معها بالشكل الصحيح حتى الآن.
كيف نتعامل مع ظاهرة الـ «فومو»؟
تقول «توركل» إنه بإمكاننا تقليل اعتمادنا على التكنولوجيا إذا تمكّنا من ترك أجهزتنا الذكية، حتى لفترات قصيرة من الزمن. لكن حتى مع مثل هذه الحلول، لا يمكننا حل المشكلة إلا عندما نفهم أن عقولنا وإنسانيتنا، وليس التكنولوجيا بحد ذاتها، هي من تسبب لنا هذا الإدمان في نهاية المطاف. ولا يمكننا البحث عن حلول حقيقية دون أن نسأل أنفسنا بصدق: لماذا نخاف للغاية من تفويت الفرصة؟
التحرر من آراء ونظرات الآخرين والتخلص من المقارنات الاجتماعية هو انتصار يقتصر على عدد قليل جدًا منّا، وبالمثل، محاولة ضبط النفس بما يكفي للصمود في وجه قوة ظاهرة الـ «فومو». درس باحثو علم النفس الاجتماعي، بجامعة شيكاجو، استخدام قوة الإرادة لمقاومة الإغراءات اليومية، ووجدوا أن المشاركين في الدراسة بإمكانهم الامتناع عن الطعام والجنس من خلال قوة الإرادة وحدها أكثر من البقاء بعيدًا عن شبكات الإنترنت.
ما الذي يمكننا فعله حيال ذلك الشيء الذي يضر بحياتنا؟
الحلول مثل البحث عن علاج الأسباب النفسية الكامنة وراء الظاهرة هي حلول غير منطقية ومكلفة للغاية، وببساطة، الابتعاد عن أجهزتنا الذكية أصبح أمرًا غير واقعي ويصعب تنفيذه جدًا. قد تكون أفضل طريقة للتعامل مع ظاهرة الـ «فومو» هي إدراكنا أنه مع وتيرة حياتنا المحمومة الآن، نحن مُلزَمون أحيانًا أن نُفوّت أحداثًا وأشياءً أكثر. وعندما نفعل ذلك، يمكننا التركيز على تحسين نتائج الخيارات التي اخترناها بالفعل.
قدّم هذا النهج البسيط لأول مرة «هربرت سيمون»، وهو باحث اقتصادي وأستاذ العلوم السياسية وحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1978، مُقترحًا أنه بدلًا من محاولة تحقيق أقصى قدر من الاستفادة، نحاول السعي لتحقيق نتائج «جيدة بما فيه الكفاية».
تعتمد إستراتيجية «سيمون» على افتراض أننا ببساطة لا نملك القدرة المعرفية للاستفادة على النحو الأمثل من عملية صنع القرار المعقدة، لا يمكننا معالجة الكم الهائل من المعلومات التي تتضمنها تلك العملية، والموازنة بين كل الخيارات المتاحة والنتائج المحتملة، سواءً على الشبكات الاجتماعية أو خارجها. وهكذا، فإن أفضل قرار هو الذي يُرضينا، أو الذهاب مع أولى الخيارات المتاحة التي تُلبّي معاييرنا، وهو ما يكون جيدًا بما فيه الكفاية.
معظم من يفضلون الانتظار للبحث عن الخيار الأمثل، لا يدركون الخسائر الفادحة التي تسببها عملية جمع المعلومات على مصلحتهم العامة. فإذا كنت تملك صديقًا لا يوافق على تناول الطعام في أي مكان سوى أفضل مطعم موجود، أو عندما تُصرّ زوجتك على التسوق، والمشي كلاعبي خط الوسط في كل مكان من المول التجاري، حتى تعثر على الحذاء أو الجاكيت المثالي، حينها يمكنك أن تُقدّر مدى الراحة التي توفرها إستراتيجية «جيد بما فيه الكفاية».
ثروة اليوم من المعلومات، خاصةً على الإنترنت، تُكلّفنا مصدرًا مهمًا آخر وهو انتباهنا. ومع هذه الكمية الهائلة من المعلومات، نجد صعوبة بالغة في معالجة كل شيء، لتستهلك المزيد والمزيد من انتباهنا ووقتنا، حتى نشعر في النهاية بالضيق والحزن عندما نشعر أن هناك شيئًا يفوتنا، لابد أن نتابع كل «الترندات»، وأن نُدلي بآرائنا في كل شيء، لابد أن نشتري هذه الملابس الجديدة لأننا رأينا أحدهم يرتدي مثلها على «إنستجرام».
لكن ماذا لو استخدمنا منهج «جيد بما فيه الكفاية»، ليس للتعامل مع تعقيد عملية صنع القرار فحسب، بل أيضًا كرؤية للعالم وأسلوب حياة؟
يمكننا أن نكتفي بما نملك، وبما نعرف، ليس من العيب أن نُفوّت «ترند» بدون أن نشارك بآرائنا، ليس من العيب أن نشتري أول ما يعجبنا من أول متجر، ولن يحدث أي شيء إذا فاتنا خصم بنسبة 50% على هذا الموديل أو ذاك، طالما لم نملك ثمنه من الأساس حتى بعد الخصم!
حتى لو كان شعورنا بأننا نفوّت الفرصة هو دليل على سعينا المحموم والحماسي للحياة، إلا أن الطريقة التي تعزز بها الشبكات الاجتماعية الآن هذا الشعور لها تأثير سلبي خطير على نوعية حياتنا. وإذا كانت تراودك بعض الشكوك في أن مبدأ «جيد بما فيه الكفاية» هو أفضل ترياق لظاهرة الـ «الفومو»، فربما تعبير الكاتب والشاعر الأمريكي «رالف والدو إمرسون» يضرب على الوتر الصحيح: