في عالمٍ يعصف فيه الاكتئابُ واضطراباتُ القلق والتوتر بنفوس الكبير والصغير، لا سيّما في أجواء ما بعد انتشار جائحة كوفيد-19 العالمية، والتي أثرت سلبًا بشكلٍ كبير على مُختَلَف أشكال  التواصل الإنساني، وكلَّفت- وما تزال- العالم أثمانًا صحية واقتصادية واجتماعية وسياسية باهظة. في مثل هذا العالم، نتعلّق بكل ما يمكن أن يُحسّن الحالة النفسية ويحفظ الصحة العقلية، كغريقٍ تتقاذفه الأمواج يتعلَّق بقارب نجاةٍ في يومٍ هائج العواصف.

والسماء التي امتنَّ بها الخالق علينا، ونُسبَ إليها رسالاته وكتبه، أصبحت في زمننا هذا بعيدة على قُرب، بعد أن عزلتنا عنها الأسقف الخرسانية ودوّامات العمل المعاصرة والإجهاد المزمن… إلخ. بينما يخبرنا العلم كما سنعرف في الفقرات التالية أن في التأمل في ذلك السقف المفتوح الفريد يمكن أن يُخفِّف بعض أثقال ما تفعله بنا الأرض وما عليها.

الاهتمام بالفلك والصحة النفسية

سلوكنا وانفعالاتنا هي مخرجات التفاعلات الواعية واللاواعية في عقولنا ونفوسنا. والمحدد الأهم لجودة التفاعل ومخرجاته، هو نوعية المُدخلات التي تنفذ إلى أعماقنا عبر حواسنا المختلفة. فإذا تحسّنت المُدخلات وهي المواد الخام، تحسَّن الإنتاج، وهو هنا المُخرَج السلوكي والانفعالي.

تخيّل أن يصبح من طقوسك شبه الثابتة أن تختلي بنفسك من حينٍ لآخر في مكانٍ مفتوح، لا يحدّ نظرَك عن السماء شيء، في ليلةٍ رائقة، مُرصّعةٍ بالنجوم، ويكسر سكون تلك اللوحة من حينٍ لآخر انفجارٌ صامت لشهابٍ عابر في السماء. كيف سيكون انعكاس ذلك على حياتك اليومية وتفاعلك مع بيئة عملك ومحيطك الأسري والاجتماعي.

اقرأ: أكتئب فآكل أكثر فأكتئب وآكل مجددًا: ما حل هذه الدوامة؟

يجمع الاهتمام بالفلك بين أمريْن أثبتت الدراسات العلمية النفسية أنهما يحسنان الصحة النفسية، وهما العودة إلى الطبيعة ونقائها، والشعور بالانبهار إزاء ما يفوق بروعته واتساعه خيالنا وتصوراتنا المحدودة.

وبتسليط الضوء على أهمية العودة للطبيعة، تُظهِر دراسة فنلندية منشورة في دورية Science direct العلمية المرموقة، أن قضاءَ ربع ساعة في أحضان الطبيعة، يجدد اللياقة النفسية للإنسان بشكلٍ كبير. وعلى نفس المنوال، أكدت نتائج دراساتٍ أخرى عديدة أن التجوال في الأماكن الطبيعية المفتوحة بين الأرض والسماء، كالحدائق والمحميات والغابات… إلخ، يُقوَّي الصحة العقلية. ولدينا دراسة أخرى نشرتها جامعة كوفنتري الإنجليزية تحدثت عن أهمية الأنشطة الليلية في الأماكن الطبيعية للصحة النفسية، وأن هواة التأمل في النجوم ليلًا يشعرون بأنهم أكثر ارتباطًا بالطبيعة، على المستويين النفسي والعاطفي.

ولمحبي الفن والابتكار، فقد أصبح  التصوير الإبداعي للسماء والنجوم يستقطب الآلاف حول العالم، ولم يعُد التجهُّز لتلك الهواية الممتعة يقتضي كثيرًا من التعقيدات، فالهواتف الذكية التي يحملها كثيرون منا، قد تحسَّنت قدرات كاميراتها، وزُوِّدت بالعديد من برامج تعديل وضبط الصور والإخراج الفني لها. وهذا يمكن أن نُمتِّع حواسنا باستعادة ذكريات تجربةٍ جميلة في مراقبة السماء، عندما نتصفَّح تلك الصور في وقتٍ لاحق، تكون فيه الحياة الضاغطة قد فرضت سطوتها على أعصابنا.

ويوجد آلاف التجارب الشخصية لمن أحدث الاهتمام بالفلك في حياتهم فارقًا إيجابيًا في حياتهم، فعلى سبيل المثال، أجرَت هيئة الإذاعة البريطانية BBC منذ أشهر لقاء مع مبرمج إنجليزي اسمه مايك ريد، دفعه ضغط العمل لاتخاذ التأمل في السماء والنجوم هواية له لمدة عام. ذكر ريد أن التأمل في السماء وتصوير أحداثها وأفلاكها ساعده كثيرًا علي التخلص من ضغوطات العمل عبر التركيز- بحبٍ- فيما سواها، وأن حالته العقلية والذهنية أضحت أفضل كثيرًا منذ التزم بتلك الهواية.

كيف نُترجِم حبنا للفضاء؟

لا تحتاج وجوبًا إلى إنفاق مئات أو آلاف الجنيهات على دوراتٍ متخصصة في علم الفلك أو رحلات كشفية إلى الصحارى النائية ومناطق الرصد، مثل وادي الحيتان أو واحة سيوة بالصحراء الغربية أو سانت كاترين في سيناء، أو شراء تلسكوبات ومناظير باهظة الثمن لتتمكن من مراقبة السماء وقتما وحيثما تريد… إلخ، لكن بالطبع إن امتلكْتَ المال والوقت الكافي لهذا، فافعل ولا تتردد، لأن هذا سُيحدِث فارقًا إيجابيًا كبيرًا في صحتك النفسية، وخبراتك الحياتية، وفي إدراك أطفالك، ومزاجهم النفسي، وآفاقِ خيالهم، وحسن استيعابهم لما حولهم.

لكن يمكن كحدٍ أدنى استغلال المتاح من البيئة المحيطة بنا، بالتجمع في ليلةٍ صافية في مكان ريفي مفتوح خارج المدينة، بعيدًا عن الضوضاء البصرية للمدينة وأضوائها التي تحجب السماء المفتوحة ونجومها. أو يمكن اللجوء إلى سطح منزلٍ مرتفع لنفس الغرض.

ولكي يكون التأمل في السماء ونجومها أكثر فاعلية، وأشفَى للحالة النفسية والمزاجية، يجب اقتناص الأوقات الأفضل، مثل نهاية أو بداية الشهر القمري، حيث يكون ضوء القمر محدودًا فلا يطغى على باقي مشاهد السماء، وكذلك يجب تخصيص وقتٍ كافٍ لا يقل عن نصف ساعة لهذا النشاط حتى يترك الأثر الإيجابي، فمجرد دقيقتيْن خاطفتيْن لن يُحدثا فارقًا، فالعين تحتاج إلى وقتٍ أطول حتى تعتاد على الرؤية في الظلام، واستكشاف المزيد من نجومها الليلية الباهرة. ويجب خلال هذه الفُسحة التأملية، أخذ إجازة مؤقتة من شاشة الهاتف الذكي وإزعاجه، بإغلاقه بشكلٍ تام، حتى لا يؤثر على الصفاء الذهني، وعلى جودة رؤية العين في الظلام.

«إنَّ في خلقِ السماوات والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهار لآياتٍ لأولي الألباب»
سورة آل عمران – الآية 190.

وحبَّذا أن يكون المكان الذي تختاره للتأمل في السماء يسمح بالتمدد أرضًا في وضعٍ مريح، لتتمكن من مراقبة السماء بينما الجسم في أقصى درجات الاسترخاء، فهذا يجعل التجربة أكثر إفادة ومتعة.

كذلك خصِّص لنفسك ولأطفالك وقتًا أسبوعيًا ثابتًا للاستمتاع بالفلك والفضاء، ويمكن كبداية الاستمتاع بمئات الأفلام الوثائقية الفلكية والفضائية التي يذخر بها الإنترنت، ومنها كثير من المواد المجَّانية على موقع يوتيوب مثل هذا الوثائقي عن أسرار المجموعة الشمسية.

اقرأ: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية.

ومن حسن حظِّنا أنَّ أنشطة التأمل في النجوم، والاستمتاع بالفلَك، تكون عادةً في أماكن طبيعية مفتوحة، فلا خطورة كبيرة من التجمعات فيها، مع الالتزام بالمسافة الآمنة (حوالي متر ونص)، ويُفضَّل أن يُحضِر كل شخص التلسكوب  أو المنظار الخاص به، لتجنب احتمال نقل عدوى كورونا عبر اليد أو العين.

وبما أننا ننفق الساعات أسبوعيًا على مواقع التواصل الاجتماعي، فأنصح بشدة بمتابعة صفحة السماء الليلة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، والتي تحتوي على مئات المنشورات المتنوعة عن السماء والكون، وأسماء النجوم، وتغير خرائطها بتغير الفصول والشهور والأيام. مما يؤهلها لأن تكونَ خير رفيقٍ في رحلة اكتشاف السماء، واستعادة بعض السلام النفسي بها، كما أن الصفحة تُنوّه أولًا بأول بالأحداث الفلكية المميزة مثل زخَّات الشهب، وأفضل مواعيد للاستمتاع بتأمل السماء في وجودها.