كيف يتأثر الأطفال بفصلهم قسرًا عن ذويهم؟
يقرر عامر، ابن الثلاثين عامًا، أن يتابع أخبار العالم يوم الأحد قبل الانطلاق إلى عمله من خلال هاتفه الذكي، أثناء احتساء فنجان قهوته الصباحي، ليجد أخبارًا مأساوية آتية من العالم -كالعادة- لكن هذه المرة من العيار الثقيل. وجد خبرًا منتشرًا بشتى أنواع الوسائط من مقالات مكتوبة، فيديوهات قصيرة وصور، حيث يتم فصل الأطفال قسرًا عن ذويهم في مناطق العالم «المتحضر».
صدمة، صمت، ثم انطلق إلى عمله.. في مكتبه جلس أمام جهاز اللاب توب الخاص به يتصفح مواقع الإنترنت المختلفة باللغة العربية والإنجليزية، ليعرف أكثر عما يحدث. وجد الكثير من الأخبار والأخبار هنا وهناك، ثم ماذا.. مهلًا، إلى أين يأخذون هؤلاء الأطفال؟ وماذا سيحل بهم؟
حسنًا، نحن نجيبه هنا.. في البداية، وفي الأوقات الحرجة، خاصة تلك التي يُجبر فيها المرء على اختبارٍ أمر ما، لا أستطيع إيقاف عقلي من تذكّر حوار خالد من رواية «1984» لجوروج أورويل، بين الشرير «أوبراين» والمواطن «ونستون» أثناء تعذيبه، هذا جزء منه:
فإذا أسقطنا هذا الجزء على الصين، مقاطعة «شينجيانج» تحديدًا مؤخرًا -مع التحفظ على إطلاق لقب «أعداء» على مدنيين عزّل-، فهذا تمامًا ما يحدث هناك، لكن بشكلٍ مختلف. وفقًا لتحقيق نشرته «BBC»، أظهر كيف أن الصين شيّدت معسكرات لاحتجاز مسلمي الإيغور في المقاطعة دون توجيه تهم لهم، حيث تمارس في هذه المعسكرات كافة أنواع التنكيل، والإجبار على تناول محرمات الطعام والشراب، ومنع أداء الصلاة والشعائر الدينية.
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، بل أقامت مدارس «إعادة تأهيل»، وأخذت أطفالهم عنوة، وإجبار هؤلاء الصغار البالغ عددهم نحو 400 طفل على تبديل دينهم ولغتهم،سعيًا منها لـ«تأهيلهم»، أي طمس جذورهم وهويتهم.
شاهد هذا الفيديو:
أما إذا انتقلنا إلى الوجهة الأخرى من العالم عند حدود الولايات المتحدة الأمريكية مع المكسيك، وبعيدًا عن حوار الشرير أوبراين، فسنجد أن الأمر متشابه للغاية في إبعاد الأطفال عن ذويهم، حيث تقوم السلطات بالتنكيل بالمهاجرين غير الشرعيين من خلال فصل أطفالهم قسرًا بموجب قانون «عدم التسامح مطلقًا»، أحد قوانين وسياسات الهجرة التي وضعها الرئيس الأمريكي الحالي «دونالد ترامب»، لمنع الهجرة غير الشرعية – حسب وصفه.
وبحلول شهر يونيو/ حزيران العام الماضي 2018، وتطبيقًا لهذا القانون وصل عدد الأطفال الذين احتجزتهم السلطات الأمريكية أكثر من 2300 طفل، بمن فيهم الأطفال الرضّع.
تاريخ من الأسى
لم تكن سياسة فصل الأطفال عن ذويهم حديثة العهد، فالأمر يعود إلى عهد العبودية، حين كان يتم بيع الأطفال لمالكيهم الذي يمنحون السلطة المطلقة للتصرف فيهم كيفما شاءوا.
ثم في ثلاثينيات القرن التاسع عشر عندما هُجّر نحو 125000 أمريكي من السكان الأصليين من منازلهم، وأجبروا على العودة إلى أراضٍ «هندية أصلية»، لكن بقي أطفالهم يتلقون التعليم في المدارس الداخلية البعيدة عنهم. أيضًا مارست الولايات المتحدة الأمريكية سياسة فصل الأطفال خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان يتم في بعض الأحيان وضع الأطفال اليابانيين -بغض النظر عن أعمارهم- في مخيمات منفصلة عن أمهاتهم.
وبالعودة إلى قانون ترامب، فإذا فكرنا بشكلٍ أعمق في الهدف من سن هذا القانون، سنجد أنه منع الهجرة، أو «ردع المهاجرين»، أي أنهم تعمدوا تنفيذ أسوأ كوابيس الأهالي بهم، وهو إبعاد أطفالهم عنهم. نحن هنا لا نتحدث عن أهالٍ يتمتعون بحياة مرفهة أو عادية، وأطفال سافروا على درجة اقتصادية مريحة على طائرة بوينغ، أو حافلة مكيّفة ذات مقاعد مريحة تنسدل الستائر على نوافذها.. نحن نتحدث عن مهاجرين غير شرعيين فرّوا أصلًا من حياة امتلأت بالخوف والقلق والفقر، تعرضوا فيها لسلسلة من الصدمات والأوضاع النفسية السيئة. حياة فرّوا منها هاربين من بلدانهم على أمل إيجاد ملجأ آمن لهم ولأطفالهم، لكن على الحدود لم يكن سوى القهر وفَطر قلوب الأمهات والأباء.
وضع صادم
يعتمد الأطفال على ذويهم في كافة أمور حياتهم، غذاؤهم ومأكلهم ومشربهم، وشعورهم بالأمان أيضًا. فإذا أُخذ طفل من والديه عنوة، فبهذه الطريقة يتلاشى كل شيء ويدب الرعب والخوف في قلبه الصغير كأول رد فعل. وهذا كافٍ ليتعرض الطفل للكثير من الأمور الكارثية. يقول «جاك ب. شونكوف – Jack P. Shonkoff»، أستاذ طب الأطفال في كلية الطب جامعة هارفارد، في مقابلة مع صحيفة «The Newyorker» في الثالث عشر من يوليو/تموز الجاري:
يوجد في ولاية تكساس على سبيل المثال مركز إيواء، لكنه ليس مجهزًا لاستقبال الأطفال. وفقًا لتقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، يقبع الأطفال فيه في وضعٍ غير آدمي. يشرح التقرير كيف يبدأ الأطفال بالصراخ والبكاء الهستيري في اللحظات الأولى من أخذهم من والديهم.
ثم تشرح دراسة منفصلة كيف أن الأطفال -الذين يأخذون قسرًا من ذويهم- يدخلون في المرحلة الثانية بعد البكاء، وهي مرحلة اليأس حين يخفت ويضعف بكاؤهم، وتقل حركتهم، ويرفض الأطفال التعامل مع البالغين. وفي مركز ولاية تكساس وحسب التقرير ذاته، تبدأ مرحلة أخرى من المعاناة تشمل الإهمال بكافة أنواعه بما فيها إهمال نظافة الأطفال الشخصية، الجوع، والنوم بدون أسرّة على الأرض داخل المركز، والذي قد يعرضهم للإصابة بأمراض وعدوى خطيرة.
وبغض النظر عن المكان، في الصين أو على حدود الولايات المتحدة الأمريكية، أو في أي مكان يمارس فيه هذا النوع من المعاملة ضد الأطفال، تبقى البيئة القهرية التي تحيط بالطفل وسوء المعاملة هي العامل المشترك. بيئة تمتلئ بالخوف والرعب والجوع، والتنكيل من الغرباء – أو الشرطة في حالة المهاجرين غير الشرعيين؛ فبالتأكيد هناك من يعلو صوته بالصراخ على هؤلاء الصغار. نأتي هنا للسؤال الكبير: ما الذي يواجهه الأطفال نفسيًا وصحيًا في بيئة كهذه؟
في العام الماضي، نشرت دورية BMC Medicine دراسة تبحث خصيصًا في تداعيات قرار ترامب في فصل الأطفال عن ذويهم قسرًا، لتظهر النتائج أن الأطفال أصيبوا بالإجهاد، واضطرابات نفسية مثل اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، القلق، السلوك العدواني، و-بشكلٍ صادم- التفكير في الانتحار. ظهرت هذه الأعراض بشكلٍ أكبر على الأطفال الأكبر سنًا، المراهقين، ونتيجة لهذه الصدمات وفقًا للدراسة فإن وظائف المخ ستتأثر على المدى الطويل.
عن التعلق والفصل القسري
يشرح المحلل والطبيب النفسي «جون بولبي – John Bowlby» طبيعة العلاقة بين البشر وفقًا لنظريته، ـ«نظرية التعلق – Attachment Theory»، إذ يوضح أن الطفل يتعلق بشكلٍ غريزي عاطفيًا واجتماعيًا، بالشخص الذي يمد له يد العون والرعاية من أجل الحصول على النمو الصحيح والسليم. وبالطبع لا يوجد أفضل من الأباء والأمهات -تقريبًا- من يقوم بهذه المهمة، لهذا يكون رد فعل الطفل الطبيعي إذا حاول أحد الأشخاص تمزيق أو تهديد هذا التعلق بين الطفل ووالديه بالفصل القسري؛ هو البكاء والصراخ نتيجة الخوف وفقدان الأمان.
ووفقًا لدراسة حديثة نشرت في مجلة العلوم الاجتماعية والطب، تفيد بأن أحد تبعات الفصل القسري قد يكون وجود معدلات عالية من مشاكل الصحة العقلية لدى الأطفال المحتجزين. أجريت الدراسة لمدة شهرين من الزمن، إذ قام الباحثون بفحص الأطفال والمراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 4 – 17 عامًا، في مقر يقبع فيه المهاجرون -لم تفصح الدراسة عن اسمه.
تُظهر النتائج أيضًا أن الأطفال الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين 4 – 8 سنوات يعانون من مشاكل في السلوك، وفرط الحركة، وصعوبات كُلّية بدرجات عالية جدًا. لهذا يوصي الباحثون بضرورة التدخل مبكرًا لمنع تفاقم هذه المشاكل لدى الأطفال بمرور الوقت. أيضًا وبإجراء مسح اضطراب ما بعد الصدمة على عينة من الأطفال في المقر ذاته، بلغت العينة 150 طفلًا، وجد الباحثون أن 17% من الأطفال -باحتمال كبير- مصابون باضطراب ما بعد الصدمة.
الإجهاد السام
ليس كل ما سبق هو ما يصيب الأطفال فحسب، بل يصاب الأطفال الذين يتعرضون لأي ضغط أو توتر شديد في حياتهم المبكرة، بما يُعرف بـ«الإجهاد السام – Toxic stress»، وفقًا لدراسة نشرت العام الماضي أجراها قسم علم الاجتماع في جامعة لانكستر في بريطانيا.
قبل الحديث عن الإجهاد السام، لابد أن نعرف ما هي الاستجابة الطبيعية للإجهاد؟
حسنًا، عندما تتعرض لأي ضغط أو توتر أو حزن شديد لأي سبب، تظهر عليك أعراض الاستجابة الطبيعية للإجهاد متمثلة في: زيادة معدل ضربات القلب، ارتفاع طفيف في مستوى الهرمونات، هذه الاستجابة الطبيعية ضرورية للنمو والتطور الصحي.
أما الإجهاد السام، فهو أكثر خطورة على الأطفال. فوفقًا لمركز تنمية الطفل في جامعة هارفارد؛ قد يتعرض الطفل في حياته المبكرة لسوء المعاملة أو المعاناة أو الإيذاء بكافة أنواعه (النفسية والمعنوية والعاطفية)، أو الإهمال، أو تحمل الأعباء والمسئولية مبكرًا نتيجة الفقر. فإذا تعرض الطفل لسلسلة متكررة من هذه التصرفات والعوامل لفترات طويلة، فإن استجابة الإجهاد لديه تنشط لفتراتٍ طويلة، مما يعرضه للإجهاد المفرط، والذي يتسبب بدوره في «عرقلة» تطور بنية الدماغ ونمو وتطور أنظمته وأعضائه الداخلية.
ليس هذا فقط، بل يزداد الأمر سوءًا عندما يصاحب ذلك كله أمراض ترتبط بالإجهاد المفرط؛ مثل ضعف الإدراك الذي يظهر عليه في سن البلوغ. وفقًا لدراسة العام الماضي أيضًا، يعمل سيل الهرمونات الناتج عن الإجهاد على زيادة فرص إصابة الطفل بسرطان الرئة بنسبة 3 أضعاف. كما يزيد من فرص الإصابة بمرض القلب التاجي بنسبة 3 أضعاف ونصف، بالإضافة إلى أمراض أخرى مثل السكري وأمراض المناعة الذاتية.
أخيرًا، الأخطر أن كل هذا ليس متعلقًا بظروف حدوثه فقط، بل تمتد آثاره حتى بعد إعادة لم شمل العائلات مجددًا، أو حتى بعد أن تكون الظروف أكثر ملاءمة، إذ تبقى آثار الصدمات والأمراض مع الشخص، وتتفاقم بمرور الوقت، كما يتولد لدى الطفل مشاعر كره وغضب تجاه من حوله نتيجة هذا كله.
وأثناء كتابتي لهذا التقرير، لم أتوقف لحظة عن تخيل حجم الرعب الذي قد يشعر به الأطفال ليلًا وسط غرباء عنهم ربما لا يفهمون حتى لغتهم، في مكانٍ منعزل بعيدًا عن عائلاتهم، وأسرّتهم الصغيرة المتواضعة.