فوق الدماء ولأجل المال: كيف يبيع فيفا كأس العالم؟
عام 1973 كان ملعب سانتياجو الوطني في تشيلي على موعد لاستضافة مبارة تشيلي والاتحاد السوفيتي. المباراة كانت المؤهلة لكأس العالم عام 1974. لكن قبل استضافة المباراة بأسابيع قليلة حوّل الديكتاتور أوجستو بيونشيه الملعب إلى معسكر اعتقال وتعذيب مفتوح. احتجز في الملعب 7 آلاف معتقل سياسي، بالطبع كان القتل على أرضية الملعب مصير عدد منهم.
الاتحاد السوفيتي أعلن رفضه خوض تلك المباراة، ثم وافق على خوضها لكن ليس على الملعب الذي بات ملطخًا بكل تلك الدماء الرافضة لحكم أوجستو. تدخل الاتحاد الدولي لكرة القدم، الفيفا، ليؤكد أنه لم يتم احتجاز أي أحد في الملعب، وستجري المباراة فيه. حين أصر الاتحاد السوفيتي رفض الفيفا تغيير الملعب، وأجرت المباراة في موعدها. لم يحضر منتخب الاتحاد السوفيتي فأعلن الفيفا تأهل منتخب تشيلي باعتبار انسحاب الخصم.
بعد تلك الحادثة بأربع سنوات منح الفيفا الأرجنتين حق تنظيم كأس العالم. كانت البطولة المقامة عام 1978 تحمل طابعًا سياسيًا لإخفاء ضحايا انقلاب خورخي فيديلا عام 1976 على الرئيسة الرسمية إيزابيل بيرون. ووصل ضحايا هذا النظام إلى قرابة 30 ألف مواطن.
تلك الحوادث الواضحة، التي تحمل في طياتها فضائح أخلاقية، وشبهات فساد وتواطؤًا مع أنظمة قمعية لغسل أياديهم من دماء ضحاياهم، تجعل من الفضائح المالية والرشوة أمرًا مقبولًا للغاية وبسيطًا جدًا بداخل كيان الفيفا.
رغم أن شعار الفيفا هو تطوير لعبة كرة القدم، ونشرها في مختلف دول العالم، وبناء المستقبل. وأن تلك كلمات بسيطة لكن يُشرف على تنفيذها قرابة 209 أعضاء، أي أن عدد أعضاء الفيفا يفوق عدد أعضاء الأمم المتحدة. يُعتبر مجلس الفيفا بمثابة البرلمان العالمي لكرة القدم، والهيئة التشريعية العليا التي تختص بكل ما يتعلق بهذه الرياضة. من أبرز مهام المجلس اختيار الدولة الفائزة بحق تنظيم بطولة كأس العالم كل أربع سنوات.
الفيفا منظمة غير ربحية
تعد الفيفا من أكثر المؤسسات ثراءً في العالم، رغم أنها وفقًا للقانون السويسري مجرد جمعية غير ربحية. لكنها للمفاجأة تتربح الملايين سنويًا، وكذلك هي من أكثر مؤسسات العالم فسادًا. فرائحة الفساد هي المسيطرة دائمًا منذ عهد جواو هافيلانج، الذي رأس الفيفا لمدة 24 عامًا. وأصدرت المحكمة السويسرية عام 2011 وثائق تثبت أن هافيلانج وابن زوجته اختلسا قرابة 90 مليون دولار من شركة تسويق مقابل حقوق بث لمباريات كرة القدم. لكن لم تنفجر تلك القضية إلا في عهد خلفه، ومساعده الأقرب بلاتر.
الانفجار أتى من تحقيق مبدئي أجرته السلطات السويسرية حول عملية التصويت التي تم بناء عليها اختيار الدول المستضيفة لكأس العالم 2018 و2022. تلقف مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي هذا التحقيق وتوسع فيه. فبدأت تتكشف له تحويلات ماليه مشبوهة تعود لسنوات عديدة سابقة. كل ذلك تكشف بسبب شارك تشك بليزر، عضو سابق في اللجنة التنفيذية للفيفا تحول لمخبر لصالح الشرطة الأمريكية. بليزر تحول مضطرًا لأنه قُبض عليه بتهمة التهرب الضريبي لعشر سنوات، والاشتباه في مصدر دخله بسبب حياة الترف التي عاشها فورًا بعد حصوله على منصب في اللجنة التنفيذية للفيفا.
أدت عمليات النبش في ماضي الفيفا إلى اتهام ما لا يقل عن 41 شخصًا من مختلف المنظمات المرتبطة بالفيفا، بالإضافة إلى 24 عضوًا تم اتهامهم من داخل المكتب التنفيذي منذ عام 2010. والتهمة الرئيسية التي يخضع بسببها نصفهم للتحقيق هي تفسير لحصول روسيا وقطر على حق تنظيم كأس العالم.
عام 2020 وجه الادعاء العام الفيدرالي في الولايات المتحدة اتهامات فساد لاثنين من المديرين التنفيذين في مؤسسة فوكس الإعلامية. الاتهامات تتعلق بدفعهم رشاوى لمسئولين للحصول على حقوق بث مباريات كأس العالم في روسيا وقطر. رغم أن القضية بعيدة نسبيًا عن فكرة دفع الدولتين رشوة للحصول على حق تنظيم البطولة، فإنه فتحت الأعين مرة أخرى على هذه النقطة الشائكة. ففٌتحت كل الملفات المتعلقة بالفساد المحتمل في التصويت الذي حدث عام 2010.
قطر اشترت كأس العالم؟
كشفت لائحة الاتهام أن عضوي الفيفا السابقين البرازيلي ريكاردو تيكسيرا، ونيكولاس ليوز، من البراجواي تُوفي حاليًا، حصلا على رشوة في مقابل التصويت لقطر. كما حصل جاك ورنر على رشوة بقيمة 5 ملايين دولار من أجل التصويت لروسيا 2018، كما حصل الغواتيمالي رافاييل سالفيرو، على مبلغ مليون دولار من أجل التصويت لروسيا كذلك.
الأمر الذي دفع الصحف البريطانية لتقود حملة تقصي حول المبالغ التي دفعتها روسيا وقطر للفوز بالبطولتين. أظهرت تلك التحقيقات أن قطر دفعت ما إجماله 880 مليون دولار للفيفا، بأشكال متعددة أغلبها سري، قبل فترة وجيزة من فوزها بتنظيم مونديال 2022. ربما تفتقد تلك الوثائق حتى الآن للمصداقية الرسمية، فلم يجر تحقيق مستقل في الأمر. لكن هناك عديدًا من الخيوط التي إذا اجتمعت معًا تكشف أن شيئًا ما قد حدث بين قطر والفيفا.
فقد نقل أحد أعضاء الفيفا أن الرئيس الفرنسي، نيكولاي ساركوزي، تدخل شخصيًا لحث أعضاء الفيفا للتصويت لقطر. وقال آخر إن قطر ربما لم تشتر أصوات أعضاء الفيفا، لكنها منحت امتيازات والعقود التجارية للبعض. ووصفه بأنه أمر معمول به في الكواليس. فقد ثبت أن قطر قدمت علاوات مالية قدرها 5.5 مليون يورو لعديد من نجوم الكرة، وموّلت مؤتمر الكونفيدرالية الأفريقية لكرة القدم الذي عُقد في يناير/ كانو الثاني 2010 في أنجولا.
ومن المثبت أيضًا أن قطر أنفقت 33 مليون دولار في ملف العلاقات العامة والاتصالات من أجل الترويج والدفاع عن ملفها لاستضافة كأس العام.
رغم غياب أدلة ملموسة على أن قطر قدمت تلك الرشاوي، ومع وجود نفي قطري قاطع وحاسم لدفع أي رقم، فإنه حتى بعد انطلاق البطولة يتم التلميح لهذه الاتهامات عند الحديث عن قطر، ربما لأن البطولة قائمة بالفعل، أو لأنها جزء من الانتقادات العديدة التي تُوجه لقطر. لكن مهما تكن نتيجة قضية شراء قطر لكأس العالم، فإنه يمكن القول إن الدفع للفوز بتنظيم كأس العالم ليس أمرًا جديدًا على الفيفا.
الكواليس لها قواعدها
يمكننا اجتزاء تصريح عضو الفيفا وإخراجه من سياقه لنقول أن الدفع لتنظيم كأس العام هو أمر معمول به في الكواليس. من أبرز الفضائح التي تثبت ذلك ما حدث عام 2015 حيث اعترف رئيس الاتحاد الألماني السابق تيو زفانزايجر أن بلاده قامت بعملية دفع أموال، على حد وصفه، من أجل حملة بلاده لاستضافة كأس العالم عام 2006.
فقد كشفت الوثائق المسربة عن صندوق أسود اختفت فيه بعض بنود الإنفاق في ملف ألمانيا لكأس العالم. هذا الصندوق أسهم بطريقة ما في تفوق ألمانيا على جنوب أفريقيا بفارق صوت واحد. كُشف لاحقًا أن هذا الصندوق أُودع فيه 6.7 مليون يورو بتمويل من شركة أديداس. وكان هدف الصندوق هو شراء أصوات آسيا الأربعة في اللجنة التنفيذية للفيفا. وللمفارقة قُدمت تلك الرشوة في وقت كان الفيفا غارقًا منذ شهور في فضائح متعددة متعلقة بالرشاوى والفساد.
مزيد من التحقيقات التي قادتها الصحف الألمانية كشفت أن ألمانيا قد أرسلت إلى السعودية شحنة قذائف صاروخية في مقابل الحصول على دعمها. فقد رضخت حكومة جيرهارد شرودر، المستشار الألماني آنذاك، لطلب الاتحاد الألماني لكرة القدم بإرسال تلك الشحنة كي لا تصطف السعودية مع ملف المغرب لاستضافة البطولة. كما تعهدت شركات فولكس فاجن، وشركة باير، برفع استثماراتهم في تايلاند وكوريا الجنوبية، ووضع شركة دايملر 100 مليون يورو في شركة هيونداي الكورية الجنوبية، من أجل دفع الدولتين للتصويت لألمانيا.
الاسم الأبرز الذي تكرر في تلك التحقيقات هو فرانتس بكنباور. بكنباور هو أسطورة من أساطير الكرة الألمانية، ويعرفه المشجعون باسم القيصر، وكان مدرب المنتخت الألماني سابقًا. ثم عاد بكنبارو عام 2016 ليتصدر الصحف الألمانية بفضيحة جديدة مرتبطة بالقضية القديمة. كشفت الصحف أن الرجل حصل على عمولة قدرها 6.2 مليون دولار ضمن اتفاق حدث بينه وبين أحد رعاة البطولة. كل هذه المبالغ التي حصل عليها الجميع أتت رغم أن بكنباور ظل طوال عشر سنوات يُعلن أن قاد اللجنة المنظمة لكأس العالم في ألمانيا بشكل تطوعي لأجل بلاده.
طلب رسمي لاستعادة الرشوة
التحقيقات كشفت كذلك عن فضيحة أخرى. فقد صرّح المدير التنفيذي للاتحاد الأيرلندي لكرة القدم أن الفيفا دفع 5 ملايين يورو لأيرلندا كي لا تقوم الأخيرة بمقاضاة الاتحاد بعد فوز فرنسا على أيرلندا بهدف من لمسة يد واضحة لتييري هنري، وبناءً على ذلك الفوز تأهلت فرنسا لكأس العالم 2010.
شارك بليزر عاد للواجهة مرة أخرى باعتراف موثق أنه، ومعه عدد كبير من أعضاء الفيفا، قد تلّقوا رشاوى تتعلق بملفات استضافة بطولة كأس العالم 2010، في جنوب أفريقيا. وكذلك حصلوا على مبالغ مالية لترجيح كفة فرنسا في تنظيم بطولة عام 1998. يُدعم اعتراف بليزر كلام وزير الرياضة الجنوب أفريقي فيكيل مبولولا بأن ثابو مبيكي، رئيس جنوب أفريقيا آنذاك، هو من أمر بدفع رشوة بقيمة 10 ملايين دولار للحصول على حق تنظيم البطولة العالمية.
الفيفا اعترفت بهذه القضية ضمنيًا. فأصدرت مذكرة مؤلفة من 21 صفحة قدمتها للسلطات الأمريكية. مذكرة الفيفا تقول إنه دائمًا ما استغل الموجودون في اللجنة التنفيذية مناصبهم لتحقيق الثراء بشكل غير شرعي. الأمر الذي ألحق الضرر بالفيفا وبصورتها. لهذا فهى تطلب الحصول على تعويض من أموال هؤلاء التي صادرتها السلطات الأمريكية، وحددت التعويض بقيمة 10 ملايين دولار. وقالت كذلك إنها تطلب المبلغ جزافًا، لكنها تنتظر أن تعيد إليها السلطات الأمريكية كل الأموال التي سوف تثبت أن المقبوض عليهم، الذين يجري التحقيق معهم، بخصوص أي رشاوى.
تكشّف أيضًا أثناء التحقيقات أن المغرب دفعت كذلك رشوة للفوز بتنظيم بطولة عام 1998. سربت الصحف الأمريكية تلك الوثائق، واعترف شارك بليزر صراحةً بالأمر لاحقًا. الرجل قال إنه حضر شخصيًا اتفاق بين لجنة المغرب وشخص آخر، وصفته التحقيقات بالمتواطئ رقم واحد وأنه كان يشغل منصبًا مهمًا في اتحاد الكوناكاف، أمريكا الوسطي والشمالية والكاريبي.
وقال بليزر إن المتواطئ رقم واحد طلب منه الاتصال باللجنة المغربية لمعرفة متى وكيف يتم الدفع. بالفعل أجرى الرجل عدة اتصالات بعضها من مكتب الكوناكاف، مقره نيويورك آنذاك. وأقر الرجل أن الدفع تم للمتواطئ رقم واحد، لكنه لاحقًا فضل الملف الفرنسي على الملف المغربي.
إصلاح الفيفا أولًا
تلك الفضائح المتتابعة كانت تطيح بالرؤوس تباعًا. فمع القيصر الألماني الذي انتهت مسيرته، انتهت مسيرة قرابة 39 مسئولًا على مدار السنوات التالية. وأبرز من أطيح بهم كان جوزيف بلاتر الذي وضع استقالته بين يد الجمعية العمومية بعد 4 أيام فحسب من انتخابه لولاية خامسة. كما سقط جاك وارنر النائب السابق لرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، وغادر سجنه بعد دفع كفالة مالية.
ولا يبدو أن الأمور تتجه لنهاية قريبة. فالمنظمة غير الربحية، نظريًا، والهادفة لتوحيد الشعوب ودعم مستقبلهم، نظريًا كذلك، تستمر في التلاعب بكل ما تتحكم به. لذا فتوجيه اللوم للدول التي تدفع كي تميل الكفة لصالحها، متهمة بنفس قدر اتهام المسئول الذي يتلقى الدفعة المالية.
والحديث عن إصلاح سياسي في الدول التي تُمنح حق بطولة كأس العالم، ربما يجب أن يسبقه منع تلك الدول ابتداءً من الفوز أو المنافسة على استضافة البطولة. ولا يأتي ذلك إلا من تنقية عملية الاختيار من شوائب الانحيازات والرشاوى، والمراقبة الشديدة على الموارد المالية والإنفاق المُعلن وغير المُعلن للفيفا.