من تركي إلى جهيمان: عن العشرة الذين سقطوا في ذات البئر
الفرقة الراقصة تقدم عرضًا على أنغام الموسيقى. يدخل شخص ما مسرعًا ويطعن رجلين وامرأة من الفرقة، ويحدث بعدها هرج ومرج على المسرح. يؤدي المشهد السابق إلى تدافع الحضور في محاولة منهم للهرب لاعتقادهم بأن تفجيرًا ما سيرسم نهاية المشهد.
كانت أحداث الاثنين 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي على مسرح حديقة الملك عبد الله بالرياض مؤشرًا هامًّا على حالة السخط (الدينية) من حفلات الرقص والغناء، التي تقيمها الهيئة العامة للترفيه لإحياء موسم الرياض المستمر لشهرين.
ذهب البعض لاعتبار أن ما فعله المقيم اليمني الذي قام بحادثة الطعن ما هو إلا إنكار للمنكر وأمر بالمعروف، تشابهت هذه المعضلة وما حدث في منتصف الستينيات من القرن الماضي عندما ظهرت الجماعة السلفية المحتسبة، التي اقتحمت الحرم بنهاية السبعينيات، لتعلن ظهور المهدي.
اقرأ أيضًا: زلزال جهيمان: قراءات في الذكرى السنوية لاقتحام الحرم
الانسلاخ من الإرث الوهابي
بُنيت شرعية الحكم في المملكة على ائتلاف حاكم بين السلطان المتمثل في آل سعود، وبين المؤسسة الدينية الوهابية، الذي كان أحد أعمدتها الشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ محمد بن إبراهيم، والجيل الثاني ابن باز وابن عثيمين.
ذلك الإرث مكن المملكة من الهيمنة على العالم الإسلامي السُّني، منذ منتصف الستينيات، فكانت المؤسسة الدينية فيها تدير وقفًا ضخمًا سهَّل لها الاستقلال النسبي عن سلطان الدولة، وكانت تتحكم في مؤسسات التعليم والقضاء. لكن مع تضخم الدولة السعودية وحداثتها وعمليات البقرطة[1]، وظهور التعليم المدني في مواجهة التعليم التقليدي، ضعفت المؤسسة الدينية وأصبحت خاضعة للدولة، تزامن هذا مع طفرة البترول التي أدت إلى ارتفاع نسبة الترف والعلمنة والانسلاخ من الإرث الوهابي.
في منتصف الستينيات ظهرت ثلة من الشباب رفضت تلك العمليات، واتخذت من فتاوى العلماء بتحريم الصور والأغاني نقطة انطلاق لمواجهة عمليات التحديث، فكسرت صور الملك فيصل في المدينة. حاربت محلات بيع أشرطة الأغاني، وأسمت نفسها الجماعة السلفية، كان مرشدها ابن باز الذي أضاف لاسمها الاحتساب، فأصبحت الجماعة السلفية المحتسبة.
تتشابه تلك الفترة وما تُحدثه هيئة الترفيه التي يتولى رئاستها المستشار تركي آل الشيخ، المقرب من محمد بن سلمان ولي العهد الحالي، إذ ظهرت بعض الحوادث الرافضة لذلك الانسلاخ الديني، انطلاقًا من إقامة مثل هذه الحفلات ومظاهر الترف.
تتمتع مظاهر الاحتجاج بانتشارها الواسع على مستوى العالم الإسلامي، فأداة السيطرة السلفية التي كانت تقود من خلالها السعودية العالم الإسلامي أصبحت اليوم أداة نقمة مُوجهة ضد الحكم فيها، ما ينعكس على الداخل نفسه، حيث يعيش في السعودية أكثر من 12 مليون مقيم من جنسيات مختلفة، غالبيتهم من العالم الإسلامي، فلا عجب أن وجدنا في حادث اقتحام الحرم مصريين كثاني أكثر جنسية مشاركة، والعديد من اليمنيين، وهو ما يتشابه اليوم في حادث المقيم اليمني، سالف الذكر.
يشير أحد المشاركين في حادث الحرم إلى[2] أن انضمامه للجماعة السلفية المحتسبة ومساهمته في اقتحام الحرم كان بسبب رؤيته لأحدهم يبيع أشرطة (كاسيت) لأغاني أم كلثوم وعبد الحليم بجوار الحرم المكي في الحج. مثلت هذه اللحظة ذروة انهيار الصورة التي بُنيت سلفًا للمملكة كدولة محافظة على حوزة الدين، وحمايتها للحرمين الشريفين. تبدلت بصورة أخرى مناقضة، ترى في حاكم المملكة مبددًا لأهليتها في حماية الحرمين وقبر الرسول والإرث الديني القويم، وهو ما تشابه وما يحدث في يومنا هذا.
موقف ديني
وكما موقف ابن باز من تحريم الصور ورفضه لعمليات العلمنة والتحديث وظهور الرفاهية الاجتماعية التي أحدثتها ثورة البترول الاجتماعية، ظهر بعض الشيوخ الذين صرحوا برفضهم لتلك العمليات اليوم، أحدثهم الشيخ عمر المقبل، الذي زُج به في السجن من جراء موقفه من هيئة الترفيه.
يشير ناصر الحزيمي في كتابه «أيام مع جهيمان» إلى أن عمليات الاعتقلات التي تعرضت لها الجماعة السلفية المحتسبة أدت إلى احتقان شعبي وديني وأعطى الجماعة ومشايخها قبولًا شعبيًّا، وأصبحت تلك الحركة مشهورة بسبب عمليات التضييق عليها، ولم تكن حلًّا بقدر ما أزَّمت المشهد.
سيجد المطلع على مواقع التواصل الاجتماعي أن الاحتقان والفصل الحاد بين كل ما هو علماني وديني في السعودية قد بلغ أوجه، وحتمًا ستكون الدولة التي تهرول بشكل متسارع نحو الانسلاخ من هويتها الدينية مبررًا لظهور جماعات عنف ترفض مظاهر ذلك الانسلاخ. هذه الجماعات قد يدعمها بعض النافذين في المجتمع، خوفًا من أن تؤدي مساعي الدولة الحالية إلى انهيار التحالف بين الدولة والمؤسسة الدينية، ما ينذر بانهيار شرعية الحكم في السعودية.
مشكلات مجتمعية
يشير كاتب الأسرة الحاكمة روبرت ليسي في كتابه «المملكة من الداخل» إلى أن أحد أهم أسباب ظهور حادثة جهيمان، هو الحقد الدفين من بدو إخوان من طاع الله الذين انقلب عليهم الملك عبد العزيز، بعد رفضهم لأوامره بوقف الحرب ضد المناطق التي تحتلها بريطانيا، باعتباره فرَّط في الدين، وهادن الكفار فحاربهم وقتلهم وسجن بعضهم، واحتوى البعض بتجنيد أبنائهم في الحرس الوطني.
كان أحد أبناء من احتواهم الملك، جهيمان العتيبي، من قبيلة عتيبة، وتجد علاوةً على ذلك أن ثمة عددًا كبيرًا ممن شاركوا في اقتحام الحرم كانوا من البدو، الذين ينتمون لقبائل عتيبة ومطير. كانت ممارستهم لرفض الدولة تتلخص في تكفير كل من قبل بالوظيفة الحكومية، فاستقال عدد منهم من الحرس الوطني، بل بلغ الأمر حد التسرب من التعليم المدني والاكتفاء بالتعليم التقليدي الذي كانت تديره المؤسسة الدينية.
هذه المشكلة الاجتماعية ما تزال موجودة وحاضرة بقوة، فقد اعتُقل شيخ قبيلة عُتيبة، فيصل بن جهجان بن حميد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وذلك بعد انتقاده على تويتر لهيئة الترفيه وما تحدثه فعاليات الهيئة ورئيسها تركي آل الشيخ من فساد في البلاد.
تزامن ذلك مع اعتقال شعراء بدو انتقدوا هيئة الترفيه، على رأسهم حمود بن قاصي السبيعي، وليس من نفل الكلام أن انتقادات الشعراء وشيخ قبيلة عتيبة لها طابع اقتصادي، لم تقتصر على الديني وعادات المجتمع فقط.
أحلام ورؤى
في دراسته للتخلف الاجتماعي أشار الدكتور مصطفى حجازي إلى ظاهرة الأحلام والرؤى، معتقدًا أن الفرد عندما يُقهر في مواجهة السلطة والدولة، فإنه يلجأ لأسلوب دفاعي يتمثل في الأحلام والرؤى، ليثبِّت فؤاده ويشعر بالسيطرة على مصيره، والقدرة على التحكم فيه، وانتظار المخلص الإلهي من تلك العمليات المقهور عليها ولا يستطيع مواجهتها.
ناصر الحزيمي يؤكد أن الأحلام والرؤى وأحاديث آخر الزمان وظهور المهدي كانت الفكرة المركزية عند أتباع جهيمان، ومن الملاحظ اليوم أن تلك المساحة تسيطر على قطاعات كبيرة في المجتمع السعودي.
سنجد منتديات كثيرة تبشر بقدوم المهدي كسلاح يستخدمونه في مواجهة ما يرونه فسادًا من الهيئة العامة للترفيه، ومن أمثلة ذلك حساب بشارة ونذارة ومنتدى المبشرات بقدوم المهدي، كما أن هناك أعدادًا ضخمة تتفاعل مع تلك الدعوات، الدعوات بأن المهدي آتٍ لانتشال المجتمع من فساده وإفساده، حتى إن هناك رؤى يتفاعل معها البعض تنبئ مثلًا بأن الشهر الحالي نوفمبر/ تشرين الثاني، في الذكرى الأربعين لحادثة جهيمان ستشهد مكة أحداثًا دموية، كحادثة جهيمان.
الدرس المستفاد من ذلك أن تلك الدعوات تؤكد تراجع شعبية الحكم في السعودية، ولن يتبقى له إلا القهر والممارسات الأمنية للمحافظة على وجوده، ما يؤدي إلى المظالم، وقد يطور المجتمع السعودي آليات لمواجهة السلطة ومقاومتها كما في حادث اقتحام الحرم، فهل نشهد نهاية حكم آل سعود؟
- أي ضم تلك المؤسسات الى جسد الدولة.
- مقابلة خاصة أجريناها مع أحد المشاركين المصريين في الحادثة.