من أنطونيوني إلى محمد خان: كيف تسافر الفكرة السينمائية؟
في عام 1967 تقريبًا صدرت قصة تكبير (blow up) للكاتب الأرجنتيني «خوليو كورتاثار» وسط مجموعة قصصية، تدور أحداث القصة حول مصور يذهب للتصوير في حديقة عامة، أثناء التقاطه صورة للمنظر الطبيعي يحتل الكادر عنصران بشريان: امرأة وشاب، بعد تدقيق يكتشف أن الشاب يكاد يكون طفلًا، يبدأ المصور في تحليل الموقف وتوقع الممكنات للمشهد، هل تستغل المرأة الولد أم هل هما حبيبان؟ خارج إطار المشهد يرى المصور رجلًا في سيارته يراقب كذلك، تبدأ السردية في أخذ أبعاد أعقد، يحلل المصور المشهد باعتباره حدثًا من أجل أعين الرجل في السيارة، وأن كلًّا من المرأة والصبي مدفوعان رغمًا عنهما، في لحظة المراقبة من خلال عدسته يقرر أن يأخذ صورته أخيرًا وفي لحظة قراره تهيمن المرأة على الولد، لكن حين يسمعان صوت انطلاق زر الالتقاط يأخذ الصبي في الجري والهروب سريعًا، يشعر المصور أنه شارك في عمل بطولي، ضغطة على زناد الكاميرا قد أنقذت حياة، بعدها تنتقل الأحداث إلى معمل التحميض، يبدأ في التدقيق الإضافي، يكبر المشهد أضعاف حجمه، تتحول القصة من سردية إلى أخرى، يبدأ في رؤية حركة من داخل الثبات، يبدأ في تصور احتمالات لانهائية تكلل قراره بالبطولة، فهو ليس مراقبًا سلبيًّا، هو شخص فعال، وتوثيقه للحظة ما في الزمن هو فعل مغير لجريان الأحداث.
عملت تلك القصة كبذرة لفيلم المخرج الإيطالي «مايكل أنجلو أنطونيوني» الشهير الذي حمل الاسم نفسه، غيَّر بها بعض التفاصيل والمعاني، وبعد نجاح تكبير أنطونيوني أصبحت السردية الرئيسية له فكرة سينمائية تنتقل في الزمان والمكان، أصبح تأثير الفيلم الذي يستكشف طبيعة النظر والمراقبة والتوثيق ممتدًّا فلسفيًّا وبصريًّا، وعمل كنقطة انطلاق لأفلام جريمة وإثارة أو أفلام تستكشف الوحدة وصناعة الفن وطبيعته الوظيفية، ليس من مبدأ الاقتباس السينمائي ولا الأدبي، لكن باعتبار الفكرة السينمائية مثل الفكرة الفلسفية يمكن الانطلاق منها إلى مساحات أخرى، يمكن الإضافة لها والحذف منها، واستخدامها كأرضية للأنواع المختلفة، يمكن تتبع خيط سير فكرة أنطونيوني التي أشهرها لأبعد من القصة القصيرة بداية من فيلم «المحادثة – The Conversation» للأمريكي فرانسيس فورد كوبولا، حتى وصلت إلى مصر في أول أفلام محمد خان «ضربة شمس»، ثم إلى أمريكا مرة أخرى في فيلم «انفجار – Blow out» لبريان دو بالما، وفي كل إضافة جديدة تبدو الفكرة طازجة، لكنها لا تفقد أبدًا تأثير أنطونيوني الرئيسي، بل يستخدمها كل فيلم كنقطة بداية للتجريب الشخصي والتطويع النوعي حسب السياق الاجتماعي.
رعب انعدام الخصوصية
ما يجعل الفكرة السينمائية المجردة التي قدمها أنطونيوني من خلال قصة كورتاثار لا تزال صالحة للتناول هو التطور الدائم للوسائط وارتباطها بشكل خاص بالمراقبة وانعدام الخصوصية، التقاط الصور وتسجيل الصوت أصبحا أسهل من أي وقت مضى، قلق الستينيات والسبعينيات من المراقبة الحكومية أصبح قلقًا مجردًا من السلطة، هو قلق من كل شخص يحمل في يده أداة تصلح للتوثيق، لم يعد التوثيق أو التسجيل وظائف تتطلب مهارات متميزة، إلا في حالات خاصة جدًّا وممنهجة، لكن الشخص العادي يلتقط الصور باستمرار ويسجل الصوت وكأن جهازه جزءًا من يده، وكل من في متناول بصره أو سمعه هو محط تهديد بفضح خصوصيته.
تتعامل الفكرة السينمائية يتمثيلاتها المختلفة مع كون كل ما يطلق عليه فن تم اختراعه لاقتباس الحياة، للقبض عليها وحفظها في مكان يمكن الرجوع إليه لاحقًا، التصوير الفوتوغرافي هو فعل ضد سير الحياة ومرور الزمن، ما هو عابر بطبيعته يصبح ثابتًا يمكن استعادته، هو عملية ضد الحياة نفسها وطبيعتها، سمحت إمكانية التصوير بشكل يستعيد الأحداث بتشكيل حقائق جديدة ومراجعة ما أبصرته العين في الوضع الطبيعي لسير الزمن، يعمل التسجيل الصوتي بشكل مشابه لا يدع مجالًا للذاكرة لاسترجاع ما قيل بل يصبح الصوت شيئًا ماديًّا يمكن حمله واسترجاعه وتضخيمه، أصبح كل من الوسيط البصري والسمعي مرتبطًا بصناعة الممارسات الفنية بجانب كونهما أدوات للتجسس والمراقبة.
من الوظيفة الخيالية إلى الحقيقية
عالج أنطونيوني قصة كورتاثار القصيرة في صيغة فيلم طويل محملًا إياه أفكاره الخاصة، أسكن أحداث blow up 1966 ستينيات لندن بعيدًا عن بلده الأم إيطاليا، في وقت كانت إنجلترا فيه حية بالحركات الفنية التحت أرضية، من موسيقى وأزياء متمردة كردة فعل على حالة من الخمول وانعدام المعنى بعد الحروب، بطل الفيلم توماس (ديفد هيمينجز) مصور أزياء ناجح لدرجة أن الفتيات الشابات يترجونه لأخذ صورهن، وهو بدوره يستغل سذاجتهن، لا يرى أن عمله الحالي هو نداؤه الحقيقي، بل يريد أن يكون مصورًا أكثر ذاتية وجدية وأقل تجارية، مثل القصة يقرر الذهاب للتصوير وحده بعيدًا عن قيود الاستوديو في حديقة عامة مفتوحة، هناك يصادف زوجين متعانقين، رجلًا وفتاة، يلتقط بعض الصور المتتابعة حتى تلتفت له الفتاة وتترجاه بإعطائها الفيلم، يشعر أنه التقط قصة مصورة رائعة تصلح لوضعها في كتابه، لكن رد فعله يتغير بعد الذهاب إلى المعمل.
بعد عملية تحميض الصور يبدأ في تكبيرها أضعاف أضعافها، يطبع النسخ المكبرة ويدقق فيها، تتحول الصور الخام إلى حبيبات لا تكاد ترى تشبه مدرسة الرسم التنقيطية، تنتقل الصور من التمثيل الجسدي إلى التجريد، بعدما كانت كل صورة تحوي منظرًا طبيعيًّا ورجلًا وامرأة أصبحت تحوي حبيبات يمكن إعادة تكوينها من جديد، في ذلك التجريد يجد توماس ضالته، يرى وسط الحبيبات يدًا مختبئة في الشجر مصوبة سلاح تجاه الزوج المحب، يوقن أنه أنقذهما من القتل، ضغطة على زناد الكاميرا أنقذتهما من زناد المسدس، يرغب توماس في جعل وظيفته أكثر فعالية، يرغب في التصديق أن الفن بشكله العام له دور حقيقي على الأرض، وأنه هو كفرد قادر على الفعل، وأن أفعاله قادرة على التغيير، على التدخل ومنع جريمة أو إحداث تغيير عارم يغير ما قبله وبعده، يرى توماس وظيفته باعتبارها وظيفة “خيالية”، ويرغب في جعلها “حقيقية”، جزء من ذلك التفريق بين ما هو حقيقي وخيالي هو توق للمعنى المجرد، لتكبير الحياة لتصبح أضخم من الأفعال الصغيرة، تلك النظرة للوظائف باعتبارها سلبية ومحاولة تحويلها إلى الإيجابية تمتد إلى التمثل الثاني للفكرة السينمائية في فيلم المحادثة.
يظهر الاختلاف الأول بين تكبير والمحادثة the conversation 1974 لفرانسيس فورد كويولا في التحول من الصورة إلى الصوت، هاري (جين هاكمان) يعمل كمتلصص سمعي على أفراد حسب الطلب، يثبت الميكروفونات في المنازل وحتى في الشوارع إذا تطلب الأمر، ويجد طرقًا مستحيلة للوصول إلى أصعب المناطق، والفارق الثاني يكمن في الدافع وراء الالتقاط والتسجيل، في الأول الدافع شخصي تمامًا، بل هو تمرد على صيغة تجارية من الفوتوغرافيا وتوجه إلى صيغة أكثر حرية وذاتية، بينما الدافع الرئيسي في المحادثة هو دافع مهني، تسجيل تحت إشراف سلطوي، لا يريد هنري التلصص على الناس، لكنه مجبر على ذلك، وبينما يحدث ذلك رغمًا عنه بحكم وظيفته، يحاول أن يرى عناصره أكثر آدمية، يحاول استكشاف المعنى الخاص به خارج المطلوب منه، يعلم هاري أنه بسبب تجسسه يقتل أناسًا ويعرض آخرين للأذى، وظيفة هاري إيجابية أو “حقيقية”، لكن دوره بها سلبي، فهو لا يملك التدخل فيما سيحدث بعد تسجيله للمحادثات.
في إحدى المرات يشعر هاري بالرغبة في التدخل، يحاول إنقاذ فردين سجل محادثاتهما من التعرض للقتل، مثل تكبير يستخدم هاري فعل التدقيق، لكن في الصوت، عمليات مضنية من الإعادة والتوضيح، وتكبير الصوت محاولًا التوصل إلى حقيقة ما بين ذبذبات الصوت مثل حبيبات الصورة وفصل كلمات معينة عن سياقها، مثل فصل قطعة من صورة وتكبيرها، ذلك للتوصل إلى خيط ما يساعد على التدخل والفعل المباشر، كلا الفيلمين لم يتوصلا إلى حل نهائي، كما أن طبيعتهما ليست نوعية، تجد الشخصيات مفتاح اللغز لكن لا تنجح في حله، بل تستسلم لحالة من احتضان انعدام المعنى.
من انعدام المعنى إلى احتضان النوع
عندما سافرت الفكرة إلى محمد خان قرر استخدامها في أول أفلامه ضربة شمس 1978 بعد أكثر من عشرة أعوام من فيلم أنطونيوني، صرح خان أكثر من مرة أن فيلم أنطونيوني l’avventura هو الفيلم الذي فتح له حدود السينما وأظهر له إمكانياتها، فمن المتوقع أن يتأثر به كمعلم في أول أفلامه، لكن خان لا يستخدم تكبير blow up كفكرة مجردة، يبدأ باستعادة صيغة الصورة مجددًا بعد ما استبدلها كوبولا بالصوت، لكنه يتبع اللغز فعلًا، يعمل فيلمه وكأنه تساؤل: “ماذا لو كانت الجريمة في فيلم أنطونويني حقيقية فعلًا؟” فهو ينزع عن فيلمه الصيغة الغارقة في الوجودية ويصنع فيلمًا نوعيًّا يمكن تصنيفه إثارة سياسية، كما أن طبيعة السينما المحلية التي يعمل بها سوف تواجهه بصعوبة صناعة فيلم دون معنى مثل تكبير، أخذ وحيه الرئيسي من فرضية أن يجد مصور خيطًا أول لجريمة، أن تمتزج الحقيقة الحياتية بصناعة الفن، وأن يتموه الحد الفاصل بين الوظائف المختلفة وطبيعتها وتأثيرها الأرضي الحقيقي، ثم صنع بتلك العناصر فيلم إثارة يتبع اللغز إلى آخره.
يتبع الفيلم شخصية شمس (نور الشريف) المصور الذي مثل توماس يريد أن يكون أكثر من مصور تجاري، يشعر أن للصورة إمكانية في إحداث التأثير، لكن على عكس توماس فإن له تاريخًا من اكتشاف جريمة فعلًا، جريمة كشفتها إحدى صوره لكنه لم يتورط فيها، في تلك المرة يكتشف شمس لغزًا آخر بعد تصويره لحفل زفاف يلتقط صورة ورقة كتبت عليها كلمة، التقطتها الكاميرا قبل احتراقها وهو ما يجعل آنية التسجيل ذات قيمة أكبر، شمس صديق لمحقق شرطة، يورطه ذلك مع عصابة إجرامية عرفت أنه وثق عدة خطوات من جرائمهم، الكاميرا في ضربة شمس تبدأ سلاحًا كاشفًا للجرائم وتنتهي كإطار ضيق يصعب منه رؤية الحقيقة الكاملة، لا يركض الفيلم وراء المعنى الكامن وراء فعل النظر، فهو رسخ بالفعل لأهميته، لكنه يحول حياة بطله الوظيفية السلبية إلى حياة فعالة، يحقق شمس ما أراده توماس، يصبح فاعل حقيقي وليس مراقبًا، لكن نتيجة لذلك يدفع أثمان كبرى تهدد حياته.
في ضربة شمس لا نرى الأحداث من إطار أعين وآذان البطل القاصرة على تصوراته الشخصية للحقيقة، لكن يتم تصوير أحداث إجرامية بالتوازي مع السردية الرئيسية، فتصبح الأحداث أكثر موضوعية وغير عرضة للنبذ كخيالات، فنحن نراها بأعيننا الخاصة، في الثمانينيات صنع بريان دي بالما نسخته الخاصة من تكبير، والغريب أنها جاءت أقرب لفيلم خان منها لفيلم أنطونيوني، يمكن تصنيف فيلم انفجار blow 1981 out الذي يعمل اسمه كموازٍ لاسم تكبير blow up باعتباره إثارة سياسية كذلك، كما أن اللغز والجريمة يجهز لها خط منفصل نرى من خلاله الأحداث مثلما يحدث في ضربة شمس، فهي ليست أحداثًا نابعة من غرفة مغلقة لكنها أحداث منفصلة عن أعين وإدراك البطل.
يدمج انفجار بين صوت المحادثة وصورة تكبير. معًا يشكلان عملية صناعة الأفلام نفسها أو صناعة الحقيقة، يعمل جاك تيري (جون ترافولتا) مهندس صوت لأفلام رديئة، ثم تتحول حياته إلى فيلم رديء، وهو مثل سابقيه يرغب في تحويل وظيفته من السلبية إلى الإيجابية، يكشف تيري خيطًا للغز ما، ومثل ضربة شمس فإن ذلك اللغز حقيقي تمامًا نراه يحدث في الوقت الحقيقي أمامنا، يركز دو بالما على بطء وتفصيل عملية تفكيك المادة المسجلة والمصورة، عن طريق تكرار السمع والتمحيص في المعلومات المتاحة من صوت وصورة، يدمج جاك الصوت والصورة لمحاولة الوصول إلى حقيقة أكثر تكاملًا، وهو ما يوصل الفيلم إلى حالة من تأمل زيف صناعة السينما وإمكانيات التلاعب اللانهائية بها، كما يربط بين الزيف السينمائي والزيف القومي الأمريكي، وعلى الرغم من شعبوية ونوعية الفيلم إلا أنه عامر بتفاصيل بصرية وصوتية حريصة، مثل هيمنة اللونين الأحمر والأزرق الأمريكية في هيئة إضاءة نيون ترسخ لهيمنة الدولة كفاعل في الفساد، كما تضفي جماليات نوارية على الفيلم.
تقلب كل تلك السرديات طبيعة التوثيق كمضاد للتدخل والفعل، وتضع الأبطال في مكان الفاعل وليس المراقب، أصبحت تلك الفكرة السينمائية المجردة مدخلًا لاستكشاف الأزمنة المختلفة والأوضاع السياسية والاجتماعية الخاصة بكل منطقة سافرت إليها الفكرة، بل واستكشاف مرونة الأفكار وقابليتها للاستخدام بصيغ عدة تمتد من اكتشاف زيف المعنى إلى صياغة أفلام إثارة شعبية ممتعة، وفي عالم يحيا في فرط من المواد التوثيقية يمكن توقع إعادة إحياء الفكرة من جديد في زمن ومكان جديدين.