كيف يُغير الذكاء الاصطناعي حياة البشر؟
ربما لاحظت مؤخراً انتشار صور أصدقائك التي صممها الذكاء الاصطناعي، عبر تطبيق Lensa، أو ربما تكون قد صنعت واحدة خاصة بك. تكمن فكرة هذه الصور في تحميل عدة صور شخصية لك، ويقوم الذكاء الاصطناعي بتحويل مجموعة الصور إلى لوحات تبدو وكأنها من صنع فنان في عوالم متعددة وشخصيات مختلفة.
لم يتوقف الأمر إلى هذا الحد، فقد رُسمت لوحات عالمية بواسطة الذكاء الاصطناعي، ففي مسابقة ولاية كولورادو الفنية السنوية، مُنحت جائزة الشريط الأزرق للرسّام «ألين» في معرض الفنانين الرقميين الناشئين، مما يجعلها واحدة من أولى القطع التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي للفوز بمثل هذه الجائزة، وذلك عن طريق برنامج يُحوِّل النص إلى صور ورسومات فائقة الوضوح والواقعية، إضافة إلى تحويل صور ثابتة إلى صور متحركة، وتوسيع صورة صغيرة إلى لوحة كاملة، وميزات عديدة أخرى.
ظهر الذكاء الاصطناعي المُنتج للصور مع بداية الألفية. ولكن التطور الحقيقي ظهر في عام 2015، ضمن مشروع شركة جوجل الذي سُمي «الحلم العميق».
وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2018، تم بيع لوحة إدموند دي بيلامي في دار المزاد العلني «كريستيز» بنيويورك بمبلغ قدره 432 ألف دولار، اللوحة التي وُصفت أنها أول عمل فني أنتجه الذكاء الاصطناعي بواسطة خوارزمية تستند إلى سلسلة بيانات مستمدة من 15 ألف لوحة فنية تم رسمها ما بين القرنين الرابع عشر والعشرين.
لكن الانقلاب الحقيقي حدث عام 2021، عندما أنشئت شركة كبرى للذكاء الاصطناعي التابعة لـ«شركة الذكاء الاصطناعي المفتوح»، برنامج Dall-E، الذي مكّنها من رسم صورة عن طريق مجموعة من نصوص توضيحية تصف الصورة، وخلال عام كامل صنعت العديد من الشركات ومطوري البرامج مواقع تساعد في توليد صورة من النص.
الأمر الذي أثار دهشة الفنانين والمُبرمجين، وفتح تساؤلات واسعة حول مستقبل الفن، وفيما إذا سيصبح تهديداً له، أم طريقة جديدة في التعبير عنه.
ربما الرسم السابق هو نسخة متقدمة في عالمنا الجديد، ولكن استخدام التكنولوجيا في الرسم يعود الى بضع سنوات، حيث أتاحت برامج التصاميم العديدة سرعة في إنجاز الرسم، وأعطت فرصة للإبداع والابتكار إلى شريحة أوسع من الناس، مثل برامج Adobe (الفوتوشوب واليستريوتور) على الحواسيب أو Canva، وأنشأت طريقة جديدة في استخدامنا للفن وإبداعنا فيه، وضَمِن للرسّامين المحترفين انتشار أوسع لهم وتعريف الناس برسوماتهم.
ولم يتوقف دخول الذكاء الاصطناعي في جوانب حياتنا على الرسم، إنما دخل في شتى المجالات، وأصبح عنصراً مهماً في بعض الجوانب، دون أن نستطيع التخلي عنه، وذلك في مجالات الصناعة والرعاية الصحية، وكذلك في معالجة اللغات وتمييز الأصوات وتمييز وتحليل الصور، وأصبح المُحرِّك الأساسي لجميع التقنيات الناشئة، مثل جمع البيانات الضخمة، وصناعة الروبوتات، وإنترنت الأشياء، ومواقع التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث.
وبات استخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات جزءاً أساسياً من عالم الإنترنت، إذ يعتمد اليوتيوب على الخوارزميات في تحليل بيانات المشتركين والفيديوهات المنشورة وتحديد المقاطع التي تستحق الترويج، ومن المتوقع أن يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً أكبر خلال السنوات المقبلة.
ولكي نفهم أكثر حول قيمة الذكاء الاصطناعي ومستقبله، علينا التفكير في منْ يُؤثر؟ ومنْ المستفيد؟ وكيف سيساعدنا على التعاطي مع الواقع؟ وهل سيمنحنا طرقاً جديدة في التعامل مع العالم أم سيكون أداة للهيمنة؟
الذهب الرقمي
وفّرت مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الميزات الرائعة، وسهّلت الاتصال والتواصل دون عناء الدفع مقابل تلك الخدمات، لكن في عالم المال كل شيء له مقابل. فقد ساعد اجتياح مواقع التواصل الاجتماعي في معرفة ودراسة المستخدمين واهتماماتهم وآرائهم، إذ في كل نقرة وكل تعليق نقوم به تجمع الخوارزميات بياناتنا، تُحلِّلها وتستخدمها في إدارة الإعلانات وتوجيهها لنا بشكل شخصي لتقديم مقترحات، تضمن بقاءنا على مواقع التواصل لأطول وقت ممكن.
في الماضي كان الترويج لمنتج ما يتم بالطريقة التقليدية، من خلال دراسة الجمهور المستهدف. أمّا اليوم فقد أصبح من السهل دراسة هذه البيانات، مع اختصار الوقت والمال بسبب الخوارزميات التي سهّلت للمواقع معرفة اختيارات كل فرد وتفضيلاته.
أظهرت دراسة قامت بها شركة Annie لمراقبة التطبيقات بالولايات المتحدة أن الانسان الاعتيادي يقضي حوالي 4.8 ساعة يومياً في تصفح منصات التواصل. وقضاء مزيد من الوقت يعني المزيد من التأثر بما يعرض لك أو بما تشاهده أثناء تصفحك، وكلما ضغطت على زر المتابعة أدخلتك الخوارزميات بالمزيد من هذه الاعلانات، والمزيد من الإعلانات تعني المزيد من الربح للممولين والمُعلنين.
وقد بلغ إجمالي أرباح كبرى شركات التكنولوجيا خلال الربع الثاني من عام 2021 من الإعلانات وعائدات المبيعات نحو 189.4 مليار دولار، بزيادة بنسبة 39% مقارنة بنفس الفترة من عام 2020.
ومن الجدير بالذكر أن المعلنين لا يحاولون بيع المنتجات فقط، ولكن يستهدفون أيضاً توجيه الرأي العام وتغيير الأفكار، حيث تعتبر قيمة البيانات اليوم أشبه بالذهب بالنسبة للشركات، لما تملكه من قدرة في التأثير على توجه الناس ضمن اتجاهات معينة. تماماً كما حدث في فضيحة كامبريدج أناليتيكا في أوائل عام 2018، عندما تم الكشف عن أنّ شركة كامبريدج أناليتيكا قد جمعت بيانات شخصية حولَ ملايين الأشخاص على موقع «فيسبوك» من دون موافقتهم لاستخدامها لأغراض الدعاية السياسية والتأثير على الرأي العام.
ربما تظن أنه مع ظهور قانون حماية المستخدم وخصوصية البيانات (GDPR) عام 2018، لن تتمكّن الشركات أو أصحاب الأعمال من شراء بياناتك أو استخدامها، ولكن ليس بالضبط صارت الأمور، حيث لم يكن القانون معنياً بمنع الشركات من التوقف عن جمع بيانات المستخدمين، بل يُنظِّم الخصوصية، أي إنه على الشركة أن تُوضِّح للعميل أنها تجمع عنه بيانات معينة وتقوم باستخدامها في أغراض معينة، ويحق لها مشاركة البيانات مع جهات أخرى.
وهذا ما فعلته بعض المواقع، حيث قبل السماح بتصفحها تظهر لك نافذة تُخبِرك بأن هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط الكوكيز، ويُتيح لك التحكم بالقدر الذي ترغب في مشاركته.
كل هذا يدفعنا إلى التساؤل: كم من الأشياء حولنا هي من اختيارنا الفعلي؟ وكيف يمكن السيطرة على ما يُعرَض لنا؟
هويتنا الرقمية
مع بدء اجتياح الانترنت العالم، وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، انتقد الكثيرون آلية عمل مواقع التواصل بسبب تأثيرها الواضح على الناس من النواحي النفسية والاجتماعية، إذ أتاحت إنشاء حسابات بأسماء وهمية وهويات مختلفة عن الواقع، وباتت فرصة كذلك للبعض في إظهار أنفسهم وأعمالهم بشكل أكثر حرية، وصارت مكاناً للتجارة الرقمية بالنسبة للشركات ودعم المشاريع الصغيرة أيضاً.
لعبت مواقع التواصل الاجتماعي كذلك دوراً مهماً في طريقة تداول الأخبار وصياغتها، حيث ظهر ما يُسمى «المواطن الصحفي»، وبات «التريند» كحدث يفرض نفسه مُولّداً موضوع نقاش موحّد يشغل المستخدمين حول العالم أو في منطقة معينة، مع قدرتها على حشد الناس لقضية معينة وإشعال شرارة الثورات التي اجتاحت العالم، وأصبح هذا التداخل والتشابك ما بين العالم الافتراضي والعالم الحقيقي جزءاً أساسياً من واقعنا.
فتح عالم مواقع التواصل الاجتماعي كذلك الباب لصانعي المحتوى والمؤثرين في تحويل مهاراتهم إلى عمل يومي يُدر عليهم الملايين، وخلال الفترة من 2018 إلى 2021، دفع يوتيوب لصنّاع المحتوى إجمالياً تراكمياً قدره 30 مليار دولار. وفي عام 2021 حقّقت المنصة إيرادات قدرها 28.1 مليار دولار لنفسها، ودفع ذلك إلى تزايد صنّاع المحتوى، وأجبّر المواقع إلى النشر بوتيرة مستمرة لإبقاء الخوارزميات المتعطشة سعيدة.
وبالعودة إلى مسألة تحويل الكتابة إلى صور؛ يجدر التأكيد أننا نعيش اليوم في عالم الفضاء الرقمي، وقد أصبح من الضروري أن تتوافر لديك هوية رقمية ومعلومات أساسية، تفيدك في بناء عملك الخاص وأثناء التقديم إلى شركات العمل. فعلى سبيل المثال العمل كصحفي وكاتب مستقل، يفرض على الفرد أن يكون له هوية رقمية، بما يشمل ذلك حسابين على الأقل على مواقع التواصل الاجتماعي وأعمال منشورة وقدراً كافياً من المعلومات الرقمية الأساسية، ناهيك عن استبدال بعض المعاملات الحكومية إلى الفضاء الرقمي لتُضاف إلى هويتك الرقمية. ومن جهة نظري أنتج كل ذلك نوعاً من التقييد الرقمي، وكأن وجودك يرتبط بمن أنت عليه في ذلك العالم الافتراضي.
وضمن كل تلك التجديدات في وجودنا الرقمي، يبقى سؤال كيف ستتشكّل هويتنا في مستقبل يقوده الذكاء الاصطناعي؟
في السنوات القليلة الماضية وصلنا إلى مراحل متقدمة من صناعة الروبوتات، التي غيّرت من شكل الحياة الحديثة اليومية، وصولاً إلى الروبوتات التي تشبه البشر إلى حدٍ مخيف، فتحاكيهم في الحركة والتفاعل وتعابير الوجه.
ولم تعد صناعة الروبوتات مُقتصرة على أرض الواقع فقط، إنما استخدمت منصات التواصل الاجتماعي لصانعي المحتوى الآليين، حيث أنشأت فتاة هندية حساباً على الانستغرام باسم kyraonig، وفي يومين بات يتابعها الآلاف، وكانت تنشر دورياً عن الأزياء ومغامراتها في العالم، ولكن إذا أمعنت النظر ستعرف بأن الفتاة ليست حقيقة، إنما صُمِّمت كلياً عبر البرامج والخوارزميات.
وقد نشرت ناشيونال جيوغرافيك، عام 2017، سلسلة من ست حلقات تحت عنوان (العام مليون)، تناول موضوع مستقبل الذكاء الاصطناعي، وعن الشكل الذي سيكون عليه البشر بعد مليون عام من الآن، عندما يندمج الإنسان مع الآلة ويصبح الذكاء الاصطناعي لا حدود له.
ربما الوثائقي تعمّد إظهار الجانب السوداوي في بعض الأحيان لإيصال رسالة للمشاهد حول جدية هذا الأمر، الذي ربما نراه طبيعياً الآن، ولكنه قد يكون مُخيفاً حقاً في حال تعرّفت الآلة على كل هذا القدر من المعلومات عنك، بدءًا من هاتفك وكل استخداماتك داخل عالم الإنترنت.
ففي الصين استخدم الذكاء الاصطناعي في تقنية التعرف على الوجوه في الأماكن العامة، حيث أُدمجت في نظم شبكات كاميرات المراقبة استناداً إلى وجوههم وسمات مظهرهم الخارجي، وتحتفظ بتسجيلات عن جميع تحركاتهم لأغراض البحث والمراجعة.
وقد شجّعت بعض الشركات موظفيها في استبدال مفتاح المكتب بشريحة مزروعة داخل اليد البشرية، واستبدل البعض للبطاقة الائتمانية بالشريحة المزروعة في اليد، ويمكنك استخدامها في أي مكان. هذه الشريحة الجديدة تستخدم نفس التكنولوجيا التي يستخدمها الناس حالياً بشكل يومي، من مفاتيح المنازل، حتى وسائل المواصلات، وبطاقات المصارف، ويقل وزنها عن واحد جرام، ولا يتعدّى حجمها حبة الأرز، وتضم شريحة إلكترونية مُدمجة، وهوائياً، داخل كبسولة من البوليمر الحيوي، وهي مادة طبيعية تشبه البلاستيك.
وتسعى الشركات إلى تقنين عمل هذه الشرائح على نطاق أوسع بين الناس، حيث تشير التقديرات إلى قيام حوالي 2000 سويدي من العاملين في مجال صناعة التكنولوجيا، بزرع الشرائح الإلكترونية. وعملت شركة «نيورالينك» الأمريكية على زرع رقائق في الدماغ للتحكم في الجسم، ووضعت الشرائح داخل دماغ القرد، وأثارت تجاربها نقاشاً واسعاً عالمياً حول الرقاقات واستعمالها.
وذلك يعني أن ليس البيانات فقط والأشياء التي يُصمِّمها الذكاء الاصطناعي ستصبح أكبر همنا، إنما نحن على أبواب عصر من الهيمنة والسيطرة البشرية، التي سوف تمتلك الحق، حتى في تفكيرك. ومن غير الممكن ضمان ردات الفعل البشري وتوجهاته تماماً، ولكن ما نقرؤه اليوم مخيف حقاً، إذ بات من الممكن خلق عالم وهمي كاملاً دون تمييز حقيقته من عدمه.
وأخيراً إذا أردنا الاجابة عمّا إذا كان الذكاء الاصطناعي جيداً أم سيئاً، أظن أن يمتلك الأمرين معاً؛ قد يصبح مُخيفاً، وقد ويكون في أحيان أخرى مفيد. ومن الضروري تقبل أن كل ما رأيناه في أفلام الخيال العلمي قادم لا محالة، المهم أن نكون على قدر كبير من الوعي في معرفة ما نحن مُقدمون عليه، وكيفية التعامل والتفاعل معه.