كيف تعلم طفلك العلوم دون أن تعلمه؟
أول يوم في المدرسة حدث يكاد لا ينسى في حياة غالبية الأطفال، ربما تكون احتفلت بطفلك ذلك اليوم وهو يرتدي الزي الموحد ويحمل الحقيبة التي تعادل نصف حجمه تقريبًا والتقطت له عشرات الصور منذ اللحظة الأولى لاستيقاظه في هذا اليوم الاستثنائي وحتى عودته وهو ممتلئ بالحماسة لهذا العالم الذي غلب سحر كونه عالمًا جديدًا على خوفه من المجهول.
هذا اليوم سيكون بداية الرحلة التي ستستمر لسنوات تقارب العشرين. إذن فهناك سبب وجيه لكل هذا، فالمفترض أنه اليوم الأول الذي سيغير شكل حياة الطفل لسنوات طويلة قادمة. من هذه اللحظة سيتحول الأطفال من صغار مدللين لذوي مسئوليات وواجبات، بل إن هذا اليوم أيضًا قد سبقه فترة إعداد مستقطعة من بضع السنوات القليلة التي تسبقه ليكون مستعدًا لمجاراة ماراثون التعليم، فالطفل ليقف على خط البداية في الماراثون عليه أولًا أن يجتاز اختبارات تقيس مستواه الأكاديمي والمعرفي، وخصائص شخصيته ومهاراته الحياتية، ومستوى والديه الاجتماعي والثقافي والمادي!
المفاجأة هنا أن الطفل عند وصوله لهذا اليوم سيكون عقله قد تطور بالفعل بنسبة 90% من قدراته، وأن هذا اليوم ليس الذي من المفترض أن يكون بداية رحلة الطفل، ولكنها تبدأ منذ لحظة نفخ الروح فيه.
ما قبل محو الأمية
يدور جدل واسع حول تعلم الأطفال في السنوات الأولى من عمرهم فتارة نجد من يعبر عن أهمية التعليم المبكر في حياة الطفل، وتارة نجد من يشدد على مدى الضرر الذي يصيب عقول الأطفال بما تحمل به، بل أحيانًا قد تظن أن هناك من يؤيد الرأيين معًا ليبدو أمرًا شديد التناقض، هل علينا أن نعلم الأطفال الصغار أم نتركهم ونرفع أيدينا عنهم؟ ما يفصل في هذا الأمر هو مفهوم التعليم المبكر للأطفال، والذي يحدد منهجية التعامل مع عقلية الطفل، منظمة «اليونسكو UNESCO» تعرف التعليم المبكر بأنه:
فهم حقيقة أن حشو عقل الأطفال بالمفاهيم المجردة أمر مؤذٍ له لا يتعارض على الإطلاق مع مفهوم التعليم المبكر المستند على إشباع احتياجات الطفل للنمو وتوفير البيئة المناسبة لتطور عقله في مرحلة ما قبل المدرسة.
في هذا المقال سأذكر أمثلة توضح كيف يمكن تحويل كل حدث في حياة الطفل إلى فرصة للتعلم لدعم نموه بشكل صحي، وكيف يمكننا مساعدة الطفل أن (يتعلم كيف يتعلم)، وأن يستخلص من البيئة حوله معارفه وينمي مهاراته في كل المجالات.
اللغة
أحد تعريفات اللغة أنها منظومة من الرموز تسمح للأفراد بالتواصل والتفاعل، قد تتضمن هذه المنظومة الأصوات، والأشكال المكتوبة أو الرموز التوضيحية المرسومة، والإيماءات، ولغة الجسد. هذه المنظومة تتكون في 4 أركان أساسية وهي: الاستماع، التحدث، الكتابة، والقراءة، وهذه الأركان تبنى بنفس الترتيب المذكور بخلاف القراءة والكتابة، فأي منهم قد يحدث قبل الآخر وفقًا لفلسفة التعليم المتبعة، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسبق أيًا من القراءة والكتابة، الاستماع والتحدث، إذن ما يحدث في الروضات من تعليم الأطفال الحروف الأبجدية وقراءتها وكتابتها قبل التمكن من إقامة حوار تام باللغة المراد لهو بالتأكيد أمر خاطئ، خاصة إذا علمت أن الطفل ما زالت مهاراته اللغوية المنطوقة تحت البناء في سنواته الخمس الأولى.
لتساعد طفلك في تشييد هذا البناء يمكنك فعل الآتي:
الاستماع والتحدث
1. التحدث مع الطفل بالمفردات الصحيحة للأشياء مع النظر في عينه لتساعده على ربط الأشياء بأسمائها، ولتتذكر أننا نتحدث مع الطفل ليفهم، لا نتنظر حتى يفهم لنتحدث معه.
2. الاستجابة لإشارة الأطفال الجسدية أو لألفاظه غير الدقيقة بعد إذا لم تسعفه قدرته على النطق بما يريد مع إعادة ذكر اسم الشيء الذي يشير له بشكل صحيح والاستطراد في وصفه. فإذا أشار على كلب وقال «قطة» رد عليه «هل رأيت هذا الكلب البني اللون؟ إنه ضخم قليلًا». أنت لا تساعد طفلك حين تتجاهل إشارته باليد لتضطره للنطق، ولا تساعده إن سخرت وضحكت من عدم معرفته للنطق الصحيح للأشياء، فكما ذكرنا الإشارة بالفعل هي جزء من اللغة.
3. القراءة مع الطفل، وقد قصدت أن أقول مع الطفل وليس «للطفل»، هذا يعني أننا نقرأ معه بإرادته وليس غصبًا. يختار هو الكتاب الذي يريده حتى وإن تكرر نفسه كل يوم، ويقلب الصفحات عندما ينتهي هو من تفحصها وليس عندما ننتهي نحن من السرد. قد تتضمن الكتب التي تقرؤها مع الطفل أي مجال تريد بداية من القصص المصورة الخيالية البسيطة حتى الشعر الفصيح، وعلوم الطبيعة.
4. تجنب إدخال أكثر من لغة في نفس الجملة الواحدة، فهذا يشوه التكوين اللغوي للجملة ويجعلها لا تمت بصلة لأي لغة منها. إذا أردت أن يتعلم الطفل أكثر من لغة، فحدد لكل منها فترة زمنية منفصلة عن الأخرى تمامًا.
5. غناء الأناشيد وخصوصًا المصاحبة بحركات إيقاعية، وحكي القصص وتمثيلها بالمجسمات أو مسرح العرائس والملابس التنكرية ومحاولة تقليد أصوات الحيوانات.
6. ألعاب الذاكرة اللغوية. كأن تطلب من الطفل الذهاب لغرفة أخرى وإحضار غرض محدد تكون متأكدًا أنه يعرفه ويعرف مكانه، فالاحتفاظ بالأمر في ذهنه حتى الوصول للغرفة الأخرى ينمي ذاكرته اللغوية كثيرًا.
الكتابة والقراءة
1. الرسم على الرمال، وتشكيل الطين، واللعب بالحجارة، ولمس الأشجار والورود، والتقاط الحشرات، والتربيت على الحيوانات بأنواعها، كل هذه الأشياء التي تؤدي بالطفل للتفاعل بيده مع ما كل حوله تساعده على التحكم بعضلات يده ويقويها ويعدها بشكل جيد للكتابة لاحقًا.
2. لعبة اصطياد الحروف والأرقام، حاول أنت وطفلك أثناء المشي معًا في أي مكان أن تجدوا أي حروف أو كتابة موجودة، قد تكون على لوحات إعلانية أو على اللوحات المعدنية للسيارات أو في زر المصعد أو على الهاتف، لا يشترط أن تقرأ ما هو مكتوب، المطلوب فقط أن ينتبه الطفل ويستطيع تمييز هذه الرموز دون غيرها.
3. اللعب بأصوات الحروف. فتقول مثلًا: «لسان»، ويحاول الطفل أن يستبدل بالصوت الأول للكلمة أصواتًا أخرى كأن يقول: «حسان، دسان، أسان…»، حتى وإن نتج عن هذا كلمات بلا معنى، لكن هذه التراكيب تساعد على ضبط لسان الطفل لاحقًا عند تعلم القراءة.
4. تمييز الرموز المختلفة كالإشارات المرورية والعلامات التحذيرية، وعلامات ماركات السيارات، شعارات الشركات وغيرها، فالحروف الأبجدية ما هي إلا رموز أيضًا لتوصيل معنى أو رسالة.
5. محاولة استخراج شكل محدد من الطبيعة، مثال: قل للطفل «لنجد أشياء تشبه الحيوانات» فقد يرى في أغصان شجرة شكل قرون الأيائل، أو في أعمدة الإضاءة شكل رقبة الزرافة، أو في حبل متدلٍ شكل ذيل فأر يختبئ. القدرة على استنباط شكل ما من خلفية معقدة يساعد الطفل لاحقًا على تمييز الرموز بسهولة والتفرقة بينها.
الرياضيات
أحد تعريفات المهارة الرياضية هو القدرة على استنباط بيانات عددية ومعالجتها، وإبرام حسابات رياضية عليها معتمدًا على تلك البيانات، لكي نساعد الطفل على تنمية المهارات الرياضية والحسابية لديه قبل سن التعلم الأكاديمي ممكن أن نفعل التالي:
1. استيعاب المفهوم العددي للأرقام من خلال الحياة اليومية، فإذا كان الطفل يرافقك في إعداد الطعام فمن الممكن أن تعد معه عدد البيض المراد وضعه في وصفة الكعكة التي تخبزونها، أو تعدا معًا الكراسي الموجودة حول الطاولة لتناسب عدد أفراد الأسرة كلهم.
2. المقارنات العددية. كأن تعُدّا معًا الإطارات في الشاحنات، وتقارناها بعدد إطارات الدراجة البخارية.
3. المقارنات الفيزيائية. كأن تقارنا الشجرة بالوردة فالشجرة أكبر، وأن تقارنا القطن بالحديد فالحديد أثقل، وتقارنا السحاب بالأرض فالسحاب أبعد.
4. المطابقة لجسم بجسم. كأن تضعا البرتقالة في سلة البرتقال، والتفاحة في سلة التفاح، أو مطابقة جسم بصورة كمجسم لحيوان بصورته، أو مطابقة صورة بصورة.
5. الترتيب التسلسلي المنطقي. كأن تتأملا مجموعة نباتات، واستنتاج دورة حياته من الأطوار المختلفة التي هو عليها.
6. التصنيف طبقًا للون أو الحجم أو النوع أو أي متغير آخر.
7. الترتيب والتنظيم. كأن تطويا الملابس معًا لينتج عنها نفس الشكل والحجم، ووضع كل مجموعة متشابهة معًا.
8. التعرف على الأنماط المتكررة كألوان رصيف الطرقات مع محاولة استنتاج وتطبيق النمط عند انقطاعه.
العلوم المختلفة
علوم الحيوان والنبات
1. البيئة متصلة كلها ببعضها، وأنت يمكنك أن تنمي الوعي البيئي لطفلك عن طريق رعاية البيئة والحفاظ عليها. فلا تهدر المياه، وعلمه كيف يحافظ عليها، وحاول أن تقلل من مخلفاتك اليومية التي تقضي على آلاف الحيوانات سنويًا. فمساهمتك ممكن أن تكون عن طريق شراء الأغذية الطازجة بدلًا من المعلبة، واستخدام المواد الطبيعية في التنظيف كمستحضرات للعناية بالجسم بدلًا من المواد المصنعة التي يستخدم مصنعوها الحيوانات للاختبار مما يؤذيها.
2. استنبت مع طفلك نباتات من بذور الفاكهة والخضراوات التي تأكلانها، وعلمه كيف يعتني بها.
3. لاحظ مع طفلك تغير شكل شجرة محددة على مدار فصول السنة، وكيف يمكن أن تملأها الزهور في فصل الربيع ثم تكون خضراء وارفة في الصيف، فبرتقالية وصفراء في الخريف، فعارية أغصانها تمامًا في الشتاء.
4. قارنا معًا صحة النبات الذي ينمو في مكان مظلم، ونفس النبات إن نبت في الشمس.
5. شاهد مع طفلك وتأمل معه الاختلافات المبهرة في الشكل والحجم، واللون والرائحة والملمس بين أنواع الزهور وأوراق الشجر المختلفة.
6. علم طفلك أن النباتات والحيوانات كائنات حية تتغذى وتكبر وتتزاوج وتشعر، وواجب علينا رعايتها والاعتناء بها.
7. ضع أكلًا يجذب الحيوانات والحشرات والطيور حولك أنت وطفلك لتستطيعا أن تتأملاها وتراقباها عن قرب وبتفحص.
الجغرافيا
1. راقب مع طفلك الاختلافات بين أنواع التربة التي تسيران عليها، هل هي رملية تنغرس أرجلكما فيها، أم طينية ذات ذرات ناعمة ودقيقة، هل هي صخرية صلبة تحت أقدامكما.
2. ارسم مع طفلك غرفته بأثاثها في ورقة ثم ضع شيئًا مميزًا في منتصفها، وبعد ذلك وقعه على الخريطة المرسومة، ذلك ليفهم طفلك ما معنى الخريطة، ثم بعد ذلك استخدم معه تطبيق الخرائط وحددا مكانًا عليها واتبعا الخريطة للوصول إليه، هذا بالنسبة للطفل لعبة مثيرة وممتعة، وفي الوقت نفسه ستعلمه الاتجاهات وقراءة الخرائط.
3. تسلق معه تلة صغيرة واحفرا واديًا ضيقًا، ثم اصنعا مدينة رملية بها بحيرة، وبداخل البحيرة جزيرة، ولا مانع من مضيق ونهر عليه سدود خشبية.
علم الفلك
1. راقب مع طفلك الإيقاع اليومي لشروق الشمس فيأتي النهار، ثم غروبها فيحل الليل.
2. شاهد كل ليلة مع طفلك القمر في السماء، استنتج معه أطوار القمر ومتى وأين يشرق ويغرب، ناقشه في علاقة هذا بالشمس، وليفهم لما يحدث هذا جرب أن تضيء مصباحًا على نصفك العلوي فقط واسأله هل اختفت رجلي أم أنك فقط لا تراها، لا تعطه حلولًا وحقائق جاهزة مجردة، فقط أثر فضوله فهو لا يحتاج لأكثر من هذا.
3. تأمل مع طفلك سماء الليل، ومواضع النجوم والتشكيلات التي تكونها، وكيف تتغير الخريطة النجمية على مدار العام، انظر معه وتأملا الظواهر الكونية وكيفية التفرقة بين جسم وآخر.
الأحداث اليومية لا تنتهي، والأفكار التي تمكنك من استخدام هذه الأحداث لتساعد طفلك على إعداده نفسيًا وجسديًا واجتماعيًا ومعرفيًا وثقافيًا لا حصر لها، لا تسجن عقل طفلك في كلمات يقرؤها أو أرقام يرددها غير واعٍ، هناك الكثير مما يمكنك فعله لتغذية هذا العقل النشط المتقد بالفضول.
لا يتطلب التعليم المبكر الصحي أموالًا طائلة لشراء أدوات، فحولك في كل مكان منحة مجانية ربانية اسمها الطبيعة يمكنها أن تقدم لطفلك كل ما يحتاجه، فقط عليك أن تراها، ولا يتطلب التعليم المبكر الصحي أيضًا ساعات طويلة في إعداد الأنشطة، ولا في صراعات قوة بينك وبين طفلك لتحمله على مجاراة أقرانه.