كيف تنشئ طفلًا مريضًا نفسيًا؟
تعلمنا قديمًا أن التربية في الصغر كالنقش على الحجر، لذلك ما هي النقوش التي تغرسها في نفسية طفلك، وتحفرها على ملامح ذاكرته، التي لن تتلاشى حتى وبعد أن يكبر ويصل إلى الشيخوخة؟ أهي ذكريات لتربية صحيحة نابعة من الحب الحقيقي دون أذى أو ضرر نفسي أو جسدي؟ أم إنها تربية تعتمد على الإهانة والضرب وطرق أخرى لا تمت للتربية بصلة وتحت مبرر «ابني وأربيه بطريقتي»؟
لا أنتقد أفعال الآباء وأخطاءهم من زلات بسيطة من حين لآخر عندما يخرج عن مشاعره، فالتربية ليست بالأمر الهين حيث إن تحمل الكثير من الأعباء في الحياة اليومية مع مسؤولية طفل أمر مرهق للغاية.
تدفعنا الحياة أحيانًا مع طرق التربية الخاطئة التي تعلمناها سابقًا إضافة إلى أفكار عدة مغلوطة عن تربية الأطفال إلى السير في الدرب المظلم، الذي قد لا نعود منه بطفل سوي؛ لأنه حينها يكون قد أصبح مريضًا نفسيًا.
كيف تنشئ طفلًا مريضًا نفسيًا؟
قد يسلك بعض الآباء طرقًا خاطئة في التربية ظنًا منهم أنها الطريقة الصحيحة لتعليم الأبناء السلوك الصحيح، وسماع كلام من هم أكبر منهم سنًا، إضافة إلى التخلص من الجدال والنقاش معهم فهم صغار لا يدركون شيئًا.
الوالدان هما مرآة الطفل للعالم ومن خلال طريقة تعاملهم مع الطفل يمكن أن تتبدل حالهم تمامًا، لذا إليك بعض الطرق والأخطاء التي من شأنها بناء جيل كامل لا يمتلك شخصية سوية نفسيًا ومنها:
1. الإهانة والانتقاد
قد يمارس الأب أو الأم طرقًا مختلفة من الانتقاد اللاذع، أو الإهانة، أو المقارنات، بنية تحسين حياة الطفل ودفعه إلى الإنجاز أو تعديل تصرفاته، ولكن على العكس فهي هادمة أكثر مما تتخيل، فكم من عبارات قالها الآباء في لحظات بهدف التحفيز جعلت الطفل عاجًزا ومريضًا نفسيًا مدى الحياة مثل:
«كل شيء تفعله خاطئ»
«لا يمكنني الاعتماد عليك مطلقًا»
«أنت غبي وستظل غبيًا»
«ابن خالتك أكثر مهارة منك»
«لن تنجح فأنت الفشل بعينه»
تتسبب الإهانة والانتقاد في حدوث ما يلي:
- ينشأ عن الانتقاد شعور بالخزي والخجل مما ارتكبه الطفل، وقد يكون خطأً بسيطًا لا يستدعي الانزعاج.
- ينتج عنه ألم نفسي يدوم مع الطفل مدى الحياة، ويتفاقم مع صعوباتها وتراكم الضغوطات بداية من التنمر في المدرسة وصولًا للعمل مستقبلًا، مما يثقل كاهله نفسيًا، ولا يستطيع التقدم دراسيًا أو في الحياة عامة.
- يصدر الطفل على نفسه أحكامًا ويلوم ذاته، فقد علمته من صغره إصدار الأحكام الظالمة المسبقة، وجلد الذات، والتقليل من قدر أي إنجاز وصل له وقد يتطور الأمر حتى يخشى المحاولة، أو التطور والوصول لأهدافه.
- يدمر الثقة بين الطفل ووالديه، فكيف للطفل أن يشعر بالأمان مع أب أو أم ينهرانه دائمًا كلما فعل خطأً ما ولا يرى الحب غير المشروط.
- يُضعف إحساس طفلك بالمسؤولية، ويغير الانتقاد من نظرة الطفل من التركيز على تصرفه أو الخطأ الذي ارتكبه إلى التفكير بمشاعرك تجاهه وكم أنت أم أو أب ظالم وسيئ!
اقرأ أيضًا: كيف تقتل طفلك ببطء؟ العنف اللفظي مثالاً
2. الضرب
من منا لم يسمع إحدى المقولات الشهيرة للآباء والأجداد «كنا نُضرب وكبرنا ولم يحدث شيئًا ولم نصب بأمراض نفسية» والحقيقة أنها جملة خادعة كثيرًا، فمن قال إنكم لستم مرضى نفسيين؟
كذلك ما هو معيار المرض النفسي؟ فهل نحن بالقدر الكافي من العلم بالطب النفسي لتحديد مستوى السواء النفسي لكل شخص من عدمه؟ وما هو مدى معرفتنا بأنواع الأمراض أو السلوكيات النفسية السوية وغير السوية؟
يؤثر الضرب سلبًا على الأطفال حيث ينتج عنه ما يلي:
- يسبب نمو سلوك عنيف لدى الطفل فلا تتوقع من طفل يُضرب ألا يضرب ويستخدمه كطريقة أساسية للتعامل مع المشكلات والأزمات، فتذكر أننا مرآة أطفالنا.
- يؤثر على الصورة الشخصية للطفل تجاه نفسه، فعندما يتعرض الطفل للضرب لا يتضرر جسديًا فحسب بل يتأثر نفسيًا ويتسبب في جرح عاطفي لا يلتئم.
- يعطي أسبابًا منطقية للطفل بالتسلط على من هو أكبر منه وضربه، فلا تتعجب من ضرب الطفل لزملائه في المدرسة، أو شجاره بالأيدي مع إخوته.
- يقلل الضرب من مكانتك لدى الطفل وهذا ستجده مع دخول الطفل في مرحلة المراهقة أو الشباب، ثم نعود لنتساءل لماذا هو عاق لوالديه؟ وهذا ليس مبررًا بالطبع، لكنه أحد الأسباب المنطقية لتصرفات الشباب مع الأهل فيما بعد، فمن لم يعطنِ حنانًا في الطفولة كيف سأقدم له فيضانَ مشاعر؟
- ينتج عنه طفل منعزل عن المجتمع ويشعر بعدم الاستحقاق الذاتي، أو قد يكبر ويتحول إلى شخصية نرجسية.
- يسبب الضرب الإصابة بالاكتئاب ومشاكل متعلقة بالوزن، حيث إن الاضطراب النفسي قد يدفع بالطفل إلى الانغماس في تناول الطعام للهروب من مشاكله، ومن ثم يزداد وزنه وقد يدمن المخدرات فيما بعد.
- يستمر الأذى النفسي الناتج من الضرب أو الإهانة بمختلف أنواعها مدى الحياة ولا يتمكن الطفل من تجاوزها، إضافة إلى أن الضرب لا يجد نفعًا مع الأطفال.
3. عدم الاستماع للطفل
إذا كنت أمًا ولديك مسؤوليات عديدة من عمل بالمنزل وخارجه، أو كنت أبًا وتعود من عملك وأنت منهك تمامًا ولا تستطيع التحدث مع أحد أو سماع أي كلمات، ثم يأتي طفلك مهرولًا ويقول لك:
«انظر يا أبي ما صنعته!»
«ماما! ما رأيك في رسمتي؟»
لا ينظر الأب أو الأم حينها للطفل ولا يبديان أي إعجاب أو اهتمام، ثم ماذا؟ يحزن الطفل ويشعر بأنه غير مقدر.
قد يحدث هذا الأمر كموقف عابر مرة أو مرتين على فترات متباعدة دون قصد من الآباء لكنها تؤثر نفسيًا فيهم، وتظهر المشكلة الحقيقة من عدم الاستماع للطفل عندما يكون الأمر متكررًا من الآباء وليس مجرد مرة عابرة في ظروف خارجة عن إرادتك.
يشتكي الطفل من مرض أو ألم فلا يلقى أي اهتمام، ويعاني من زملائه في الدراسة ولا يجد من يسانده، ويعتاد على أنه نكرة وغير مرئي مما يجعله يشعر بالدونية وأنه لا يستحق، فهو لم يحظَ بوقت أبويه واهتمامهما فهل يمكن أن يكون شخصًا ذا أهمية ويستحق حقًا أي شيء بالحياة؟
ستجد أن الطفل غير المسموع لن يسمعك في المستقبل، وسيفقد الثقة بنفسه وشعوره بالاستحقاق الذاتي، وعلى النقيض فعندما يشعر الطفل بأنه مسموع وله الأولوية سينمو لديه الشعور بالاستحقاق الذاتي والثقة بالنفس.
4. اكتئاب أحد الآباء أو كليهما
نحمل جميعًا أثقالًا على كاهلنا من أزمة اقتصادية تعصف بالعالم إلى مشقة العمل والحياة، مما قد يصيبنا بالاكتئاب والقلق والتوتر، لكن ما علاقة الأبناء باكتئاب أحد الوالدين؟
وجدت بعض المدارس في الآونة الأخيرة أن هناك كثيرًا من الأطفال لديهم مشاكل في التركيز والانتباه والتحكم في النفس ولهم تصرفات أقرب إلى الاكتئاب، وبعد البحث وجد أن وجود الأطفال مع آباء يعانون الاكتئاب يصيبهم بالتبعية بالحزن والاكتئاب أيضًا.
هناك علاقة وطيدة بين سلوكيات الطفل واكتساب الأمراض النفسية من الآباء كالإصابة باكتئاب الأطفال إضافة إلى التسبب في الإدمان والانعزال عن المجتمع.
أثبتت الأبحاث أن الأم المصابة بالاكتئاب لديها قدرة أقل على التفاعل والارتباط برضيعها، إضافة إلى ضعف قدرتها على فهم احتياجات الطفل وتلبيتها، حينها ينشأ طفلٌ يتصف بما يلي:
- أقل سعادة.
- يصعب إطعامه.
- نومه صعب للغاية.
- كسول.
لا يقتصر الأمر على عدوى الأطفال بالاكتئاب فحسب بل يكبر الطفل ثم يصعب التعامل معه من قبل الآباء، ويرفض سلطة أبويه مما يزيد شعور الوالدين بالضعف والفشل، ويبدأ علاج هذا الأمر بعلاج الاكتئاب الذي أصاب الوالدين.
اقرأ أيضًا: كيف تجعلنا الأزمات الاقتصادية أشخاصا أسوأ؟
5. التسلط أو التساهل
عندما ينشأ الطفل في بيئة متساهلة ولا يوجد بها أي ضوابط لمعرفة الصواب من الخطأ ينتج عن ذلك شخص لا يفهم ماهية الحدود، وما يجب فعله وما لا ينبغي، وما عواقب الأفعال؟
قد يقفز البعض إلى حتمية تربية الأطفال في بيئة حاسمة وشديدة كي يتربى ويتعلم جيدًا، ولكن نشأة الطفل في بيئة أسرية شديدة تصل لحد التسلط يحد من قدرات الطفل فلا تجعله يستكشف عالمه وقد يسبب له مشاكل مثل:
- الخوف.
- العصيان والثورية.
- التوتر.
أفضل النصائح لتربية الأبناء
معظم الآباء إذا لم يكن جميعهم يرغبون في تربية أبنائهم تربية صحيحة فبداخلنا الحب الفطري، لكن تربية طفل سوي نفسيًا صعب للغاية، لذا إليك بعض النصائح التي قد تساعدك في تربية طفلك وتجنب الأمراض النفسية والاضطرابات الناجمة عن التصرفات السابقة الخاطئة، ومن هذه النصائح ما يلي:
- استمع لطفلك: اجعل طفلك يتحدث عن كل شيء وعن مشاعره وأفكاره، وأنت منتبه له تمامًا ولا تصدر أحكامًا عليه أو تنفعل، قد يكون الأمر صعبًا في البداية خاصة إن كنت شخصًا عصبيًا، لكن تذكر أنك تحبه حقًا ولا ترغب في تدميره نفسيًا.
- انتقد الفعل وليس الشخص: فبدلًا من أن تهين الطفل على تصرفه، حاول التوضيح بهدوء أن سلوكه خاطئ وإرشاده إلى التصرف الصحيح ولا تستخدم الضرب مطلقًا.
- صمم لوحة للمكافآت: إذا كان الطفل مُلامًا على فعله الخاطئ، فمن حقه الحصول على مكافأة على أفعاله عند سيره في الطريق الصحيح، وعدم تكرار الأخطاء السابقة التي تحدثت معه بشأنها.
- تجنب التجاهل أو الابتعاد: قد يعاقب الآباء الابن من خلال الابتعاد أو التجاهل لكن الأفضل هو توضيح السلوك الخاطئ للطفل مع إظهار حبك له دائمًا دون شروط.
- اترك لهم مساحة للخطأ: لا تنزعج من الأخطاء ولا مانع إن أخطأت أن توضح لهم أنك إنسان يمكن أن يخطئ، ونحن في الحياة في رحلة مستمرة من التعلم.
أخيرًا، تذكر أن الأشخاص لديهم قدرة كبيرة على استرجاع الذكريات السيئة أكثر من الجيدة، فاحرص على تكوين أكبر قدر ممكن من الذكريات السعيدة والإيجابية مع طفلك كي يتمكن من استرجاعها، ونسيان التقصير والهفوات البسيطة السيئة التي قد نتعثر بها في رحلة تربيتنا لأطفالنا.
اقرأ أيضًا: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية؟