هذا هو الجزء الثاني من سلسلة «ماذا تفعل لو» والتي تهتم بزيادة مساحة الوعي الطبي لدى غير المشتغلين بالمجال الطبي، ولدى الأطباء المبتدئين ومن على شاكلتهم، خاصة في التعامل مع الحالات الطارئة التي قد تصادفهم، والتي يكون للتعامل الأوَّلي السليم معها دور مركزي في إنقاذ الكثير من الأرواح، وتقليل احتمالات حدوث المضاعفات. وكان الجزء الأول عن الحالات الطارئة التي قد يتعرض لها مريض السكر.

وستكون جولتنا هذه المرة مع واقعة قد تصادف أي منا في طريق مروره كل يوم، وهي وجود حالة إغماء في الشارع. كيف نتعامل مع هذه الحالة، وكيف نوفر على المريض وقتاً ثميناً يساوي حياة وأعماراً.


ما المقصود بالإغماء؟؟

لابد أن نفرق هنا بين عدة درجات مما يطلق عليه باللغة العربية الإغماء. هذا التقسيم سيكون تقسيماً واقعياً، ليس الهدف منه التصنيف الطبي العلمي، بقدر ما يهمني إبراز كيف ستقابلنا الحالة في الحياة الواقعية.

في كل الأحوال لابد أن يكون الهاجس الأكبر لمن يتعامل مع مثل هذه الحالات هو استبعاد أن يكون الشخص في حالة توقف في عضلة القلب

أول الدرجات ما يسمى بالمصطلح الأجنبي pre-syncope أو ما قبل الإغماء، والذي يمكن تمثيله أكثر بما يطلَق عليه في اللغة الدارجة الدوخة أو الهبوط العام. وهي واقعة لا يستهان بها، لكنها لا تندرج تحت بند فقدان الوعي، إذ قد يسقط المريض أرضاً أو إلى أقرب مقعد، لكنه يظل محتفظا بكامل وعيه. الدرجة التالية هي الإغماء syncope، وفيها يفقد الشخص وعيه مؤقتاً transient coma ويسقط أرضا loss of posture، وفي غالب الأحيان يستمر الإغماء لثوانٍ أو لدقيقة أو اثنتيْن، وبعد أن يفيق، سيؤكد أنه قد مر عليه فترة من الوقت لم يكن يدري بما يدور حولَه، وهذا عكس ما قبل الإغماء. ويكون السبب الغالب هو انقطاع التغذية الدموية عن المخ مؤقتاً.

أما إذا استمر الإغماء مدة أطول، فقد يستدعي هذا احتمالات أخطر … وفي كل الأحوال لابد أن يكون الهاجس الأكبر لمن يتعامل مع مثل هذه الحالات هو استبعاد أن يكون الشخص في حالة توقف في عضلة القلب Cardiac arrest– أيا كان سبب هذا -، لأن هذا يعني أن الدورة الدموية خارج الخدمة، وأن المخ مقطوع عنه تغذيته الدموية تماماً، وخلايا المخ الحساسة لا تتحمل مثل هذا الانقطاع إلا بحدٍ أقصى دقائق ثلاثة. وإلا فالوفاة الفورية هي المصير، أو على الأقل حدوث أضرار جسيمة بأجزاء حيوية بالمخ.


ما هي أشهر الأسباب التي قد تؤدي إلى حدوث هذا الإغماء المفاجئ؟

هنا أيضا لا يعنينا أن نقدم تشخيصاً مقارناً شاملاً differential diagnosis كأنها إجابة سؤال لطالب في السنة النهائية لكلية الطب، إنما يعنينا أن نحيط بالأسباب الأكثر شيوعاً التي لابد أن تكون معلومة من الحياة بالضرورة، وبالقطع سنهتم بالتدخلات الأولية التي لا يمكن انتظار الطبيب من أجل التعامل الأولي معها، إذ ليس مضموناً أن يتواجد طبيب في طريق كل شخص يصاب بالإغماء في الشارع.

وهذه أهم الأسباب:

  • الأهم والأخطر كما ذكرنا سابقاً هو توقف عضلة القلب المفاجيء cardiac arrest، والذي نخص منه ما يسمى موتالقلبالمفاجئ sudden cardiac death والذي يكون غالباً نتيجة طواريء حرجة في القلب، كاضطراب شديد في النشاط الكهربي للقلب arrhythmia وأخطر أسبابه جلطات شرايين القلب التاجية بمختلف درجاتها acute coronary syndrome.
  • حالات تباطؤ ضربات القلب bradycardia. إذ يؤدي هذا إلى بطء الدورة الدموية، وبالتالي نقص التغذية الدموية للمخ، فتصل في لحظة معينة إلى درجة عدم قدرة المخ على استكمال عمله بكفاءة، خاصة في حالة بذل الشخص أي مجهود، فيحدث تعطل مؤقت في نشاط المخ قد يبدأ بالشعور بالإرهاق والغثيان والدوخة، وقد يصل إلى فقدان الوعي، وقد يصل في أشد الحالات إلى توقف عضلة
  • جلطات – أو نزيف – بشرايين المخ. Cerebro-vascular stroke.
  • أنواع من النوبات الصرعية atonic seizure s والتي لا يصاحبها تشنجات.
  • غيبوبة سكر، خاصة النقص الشديد في سكر الجلوكوز بالدم hypoglycemia، وغالباً ما يحدث لمرضى السكر نتيجة جرعة زائدة من الأنسولين، أو أن المريض تناول جرعته المعتادة من الأنسولين أو دواء السكر دون إفطار.
  • انفعال شديد، أو مشهد مقزز شديد الوطأة على النفس، إذ تؤدي الإثارة النفس-عاطفية الشديدة في بعض الأحيان إلى ردفعلعصبيزائد عن الحد يؤدي إلى حدوث إغماء مؤقت.

والآن .. إلى تطبيق واقعي بمثال حي يحاكي ما يمكن أن نقابله.

أنت الآن تسير في الشارع، فوجئتَ بتجمعٍ من الناس حول أحد الأشخاص ملقى على الأرض، ويقولون إنه سقط أرضاً فجأة … ماذا تفعل ؟!

طالما عندك خلفية جيدة عن الإسعافات الأولية، لا تتحرّج أن تعلن هذا فوراً، لتبعد الدخلاء والفضوليين الذين يضيعون وقتاً ثميناً، فهم سيكونون كثيرين لكن كغثاء السيل، وسيكتفي بعضهم بضرب كفٍّ بكف، أو سيبدأ بعضهم بالتقاط صور السيلفي مع الشخص الملقى أرضاً!

1. اضمن سلامتك وسلامة المريض، فإذا سقط في منتصف الشارع، أو بجوار حفرة في الطريق.. الخ، انقله بمساعدة الآخرين إلى جانب الطريق على الرصيف مثلاً.

2. إذا كان لديك شكوك قوية أن الشخص قد أصيب إصابة بالغة نتيجة سقوطه أرضاً، لا تنقله من مكانه، لأن بعض كسورالعمودالفقري إذا تعاملت معها يدٌ غير خبيرة خاصة في النقل ، فإنها قد تتطور وتتحول إلى كارثة، إذ قد ينقطع الحبل الشوكي المار بداخله مما قد يؤدي إلى شلل دائم، أو إلى توقف التنفس نتيجة توقف مراكز حركة الحجاب الحاجز الموجودة في الحبل الشوكي العنقي…الخ.

الخطوات السابقة، لابد ألا تستهلك إلا بضع ثوانٍ من الوقت، لننتقل إلى الخطوة الأهم، وهي تبيان حدوث توقف عضلة القلب من عدمه، لأنه كما ذكرنا مراراً وتكراراً الهاجس الأكبر والأخطر في مثل هذه الحالات.

3. قم بالنداء على الشخص لمحاولة إفاقته، فإذا لم يستجب، قم بهز كتفيه، فإذا لم يستجب أيضاً، طبق بمنتهى السرعة استراتيجية انظر، استمع، اشعر look, listen and feel. فعينك تبحث عن حركات الصدر والبطن التنفسية، وأذنك تتبين أصوات التنفس، ويدك تتحسس نبض المريض، وأهمه النبض الوداجي Carotid pulse، المعبر عن الشريان الوداجي common carotid artery المغذي للمخ والذي يتم تحسسه من الرقبة، بوضع إصبعيْك برفق في منتصف الجزء الأمامي من الرقبة. بجوار الغضروف الدرقي.

غياب حركات التنفس، والنبض = توقف في عضلة القلب = سنبدأ الإنعاش القلبي – الرئويCPR, Cardio-pulmonary resuscetation

4. الخطوة الأولى في الإنعاش القلبي هي طلب النجدة والإسعاف فوراً، فإذا تم هذا، ابدأ الانضغاطات الصدرية chest compressions فوراً. وهذا مقطعمصوربسيط يبين الطريقة السليمة الفعالة ..

https://www.youtube.com/watch?v=cPEFskCrdhQ

5. هذه الانضغاطات هدفها الحفاظ على الحد الأدنى من الدورة الدموية، فهي تضغط القلب بواسطة عظمة القص الصدرية فتحاكي انقباضاته وانبساطاته. حاول ألا تُجهد نفسك، وقم بالتبادل مع غيرك ما أمكن لحين وصول المختصين. إذا كنت ذا خلفية جيدة في التعامل مع مثل هذه الحالات، بإمكانك بعد كل ٣٠ ضغطة صدرية، أن تعطي المريض نفَسين بفمك، بعد أن تميل رأسه للخلف head tilt وتحرك فكه السفلي لأعلى برفق chin lift. كما في هذا الفيديو المبسط.

إذا لم يتيسر هذا، اكتفِ بالضغطات الصدرية compression only CPR. وعندما يصل المختصون، سيقومون هم بالدعم التنفسي باستخدام نافوخة أمبو Ambu bag، أو تركيب أنبوبةحنجرية …الخ، ويقومون بنقله إلى المشفى في أسرع وقت ممكن لاستكمال جهود الإنعاش، والتعامل الفوري مع الأسباب المحتملة لإنقاذ حياة المريض.

الدعم التنفسي باستخدام Ambu bag

ملحوظة: من الأسباب الشائعة لتوقف عضلة القلب، الذبذبات البطينية القلبية pulseless ventricular tachycardia و ventricular fibrillation، وهي تستجيب جيداً للصدمات الكهربائية. في بعض المدن الكبرى حول العالم يتوافر في الشوارع جهاز أتوماتيكي للصدمات الكهربائية automated external defibrillator، يكون المطلوب من المارة وضع قطعتيه على صدر المريض، فيقوم الجهاز بعمل رسم قلب كهربائي تلقائي، فإذا تعرف على أحد هذين النوعين، يقوم بإصدار تحذير، ثم يعطي الصدمة تلقائياً، ويعطيك دقيقتين لتواصل الضغطات الصدرية، وبعدها يقيم مرة أخرى، فإذا استمرت الحالة، كرر الصدمة، وهكذا دواليك.

AED

ولغياب مثل هذه الإمكانية عندنا، فلنكتفِ بالضغطات الصدرية لحين وصول النجدة.

نحن الآن تعاملنا أولياً مع أخطر السيناريوهات.. فماذا عن باقي السيناريوهات؟

سيختلف تعاملنا حسب ملابسات كل حالة…
  1. إذا تم استبعاد توقف عضلة القلب، لكن طال بقاء الشخص في غيبوبة لدقائق، ولم يستجب لمحاولات الإفاقة، اطلب النجدة فوراً، إذ لا مفر من النقل للمشفى للاطمئنان على العلامات الحيوية، واستكمال التشخيص. لا تحاول أن تُطعم أو تسقي بالفم من في غيبوبة ولو جزئية، وإلا عرضته لخطر وصول هذه المواد للجهاز التنفسي وحدوث الالتهاب الرئوي aspiration pneumonia.
  2. إذا أفاق الشخص، وذكر أنه مريض بالسكر، وكان يبدو عليه العرق الغزير، فالمحتمل أن السبب غيبوبة سكر ناجمة عن زيادة أو نقص السكر. ولأن الأخطر هو نقص السكر، فأعطه قطعة من الحلوى أو عصير مُسكَّر وبعدها ينقل بالإسعاف، أو وسيلة أسرع إلى أقرب مشفى طواريء لقياس السكر العشوائي واستكمال التعامل مع الحالة.
  3. إذا أفاق الشخص، وذكر أنه مريض بالقلب، أو أصابه آلام في الصدر قبل الواقعة، فالمحتمل أن السبب هو جلطة جزئية أو كلية في إحدى شرايين القلب. لا تدعه يبذل أي مجهود حتى المشي ببطء، إنما يظل مستريحاً لحين النقل الفوري إلى أقرب طواريء للقلب لاستبعاد هذا السيناريو الخطير.
  4. إذا اشتكى الشخص بعد إفاقته من اعوجاج بالفم، أو ضعف بأيٍّ من أطرافه، فالهدف سيكون إرساله إلى أقرب طواريء للأمراض العصبية، لبحث سيناريو الجلطة الدماغية cerebro-vascular stroke.

في كل الأحوال، من يتعرض لمثل هذا الإغماء المؤقت حتى إذا لم تصحبْه مضاعفات كالسابق ذكرها، فعليه أن يعرض نفسه على طوارئ القلب والعصبية على الأقل بشكل عاجل لاستبعاد وجود سبب خطير.