ربيع تونس: كيف نفهم نتائج الانتخابات التونسية الأخيرة؟
انتهت المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية، وأعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات عن جولة للإعادة بين المرشحين الحاصلين على أكثرية الأصوات، وهما قيس سعيد، الأكاديمي القانوني غير المنتمي لأي تيار سياسي ويملك ميولًا معادية لخطابات الديمقراطية والحريات، الحاصل على 18.4% من الأصوات، وبين نبيل القروي، رجل الأعمال وصاحب قناة «نسمة» التونسية، والذي تم حبسه قبل الانتخابات بـ 10 أيام بتهمة غسل الأموال والتهرب الضريبي، والحاصل على 15.5% من الأصوات.
هي نتائج تعتبر صادمة نوعًا ما للمتابعين للشأن التونسي، حيث ذهبت التوقعات أكثر لصالح رموز التيارات السياسية الرئيسية مثل عبدالفتاح مورو نائب رئيس حركة النهضة، ويوسف الشاهد رئيس حزب تحيا تونس ورئيس الحكومة الحالي، وعبدالكريم الزبيدي وزير الدفاع الحالي والقيادي بحزب نداء تونس.
اختارت تونس في أزمتها السياسية بعد الثورة الوصول للتوافق وإدارة الصراعات السياسية حول شكل الحكم والإسلام السياسي والعلاقات المدنية العسكرية بالتفاوض والوصول لصيغة سياسية ديمقراطية تضمن التواجد لكافة الأطراف، مهما كانت نتائج ومسارات الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فالتونسيون يتمتعون بمكتسبات ديمقراطية حقيقية، وينتخبون حاليًا الرئيس الثالث بعد الثورة في انتقال ديمقراطي سلس وسلمي للسلطة دون انقلابات أو احتراب أهلي، وهذا هو المعلم الأوضح والأبرز في المسار السياسي التونسي بغض النظر عن أي تعقيدات.
في قادم السطور نحاول الإجابة على سؤال الدلالات السياسية الأبرز لهذه الانتخابات والمتوقع فيما هو قادم في تونس.
دلالات نتائج الانتخابات
أولًا: ما حدث من هزيمة لمرشحي التيارات السياسية في تونس هو بمثابة صفعة قوية للنخب التقليدية، من صعود مرشح شعبوي لا يملك تيارًا سياسيًا يسانده ماديًا أو سياسيًا، وصاحب خطاب معادٍ للأحزاب والديمقراطية، وبين مرشح آخر صاحب قناة تلفزيونية ويواجه اتهامات بالفساد وتواجد في الساحة على خلفية تقديمه للإعانات المالية والصحية لمناطق تعاني من الفقر والحرمان.
كل هذا يعكس تململًا في أوساط الشارع التونسي من الصراع السياسي بين حركة النهضة الإسلامية وحزب نداء تونس، خاصة مع عدم تحسن الوضع الاقتصادي في تونس واستمرار المعاناة الكبيرة من البطالة ومعدلات الفقر وانخفاض مستويات الدخل والخدمات الصحية. هذا التململ كانت له شواهد من ارتفاع نجاح القوائم المستقلة في الانتخابات المحلية الأخيرة، وانخفاض نسب التصويت من 65% في الانتخابات الرئاسية السابقة إلى 43% في الانتخابات الحالية.
ثانيًا: لم يختفِ نظام بن علي من المشهد السياسي التونسي، لكن ما جرى من انشقاقات حزبية واختلاف المصالح وظهور زعامات جديدة داخل هذا التيار أدى لوجود أكثر من مرشح، ما بين يوسف الشاهد، وعبدالكريم الزبيدي وعبير موسى، وربما بدرجة أقل نبيل القروي باعتباره كادرًا سابقًا بحزب النداء. إذا جمعنا أصوات كافة المنتمين لنظام بن علي وشبكات مصالحه فلن نجد تباينًا كبيرًا عن النسب أو الأرقام التي صوتت للرئيس السابق الباجي السبسي، كل ما حدث أنه كان هناك تفتيت للأصوات ووُزعت النسبة بين أكثر من مرشح. ( مجموع الـ 4 مرشحين = 37% من أصوات الناخبين، وأصوات السبسي في الجولة الأولى في انتخابات 2014 = 33%).
أسباب كثيرة لهذا التفتت منها حالة عدم الوفاق بين يوسف الشاهد وحزب نداء تونس، والخلافات التي بسببها انشق الشاهد عن الحزب وأسس حزب تحيا تونس، برئاسته. كانت أبرز ملامح هذا الخلاف والتفتيت المتوقع الفيديو الشهير لانتقاد الرئيس السابق الباجي السبسي لرئيس حكومته على أدائه بعد خطاب للشاهد يشرح فيه إنجازات الحكومة، بالإضافة للكثير من الأخبار المعلنة عن الخلافات بين الشاهد ونجل الرئيس السبسي، الذي ترددت حوله أنباء وإشاعات عن تحضيره لسيناريو توريث لوالده، وهو ما دفع الرئيس التونسي السابق الباجي السبسي لرفض هذا الحديث وضغطه لانسحاب نجله من هذا الصراع، بل دعوته للشاهد بالعودة مجددًا لصفوف حزب نداء تونس، ومطالبته قواعد وهياكل الحزب باستيعابهم مرة أخرى حتى لا تنفرط السلطة وأصوات مؤيدي نموذج بورقيبة والنظام القديم وتبتعد من المشهد، لكن دعوته لم تلقَ استجابة من أي طرف.
الرغبة الطبيعية في تجديد الأدوار لأي كادر سياسي والخلافات الشخصية والسياسية كانت دافعًا لترشح وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي لقطع الطريق أمام الشاهد (المنشق) عن حزب النداء، ويحمل الزبيدي علاقة وارتباطًا جيدًا بالرئيس السبسي.
دوافع الزبيدي لم تختلف كثيرًا عن طموح المحامية عبير موسى لتصبح أول رئيسة جمهورية في تونس والوطن العربي، ورصيدها السياسي في عدائها لحركة النهضة والإسلام السياسي وانتماؤها السابق لحزب التجمع الدستوري «حزب زين العابدين بن علي» كان أيضًا دافعًا لهذا الترشح. البحث عن دور سياسي جديد كما هي طبائع الأمور، وتجدد شبكات المصالح السياسية والمالية ساهمت في تشرذم نظام بن علي وتفتيته بصورة ديمقراطية.
ثالثًا: ظاهرة رضا لينين. ورضا لينين هذا ناشط يساري في الحركة الطلابية في الثمانينيات، مقرب من المرشح قيس سعيد، ويبدو أنه صاحب دور كبير في حركة المرشح وسط المواطنين في الأسواق والمقاهي الشعبية، وبناء قاعدة انتخابية جماهيرية من اللا شيء لهذا المرشح البعيد تمامًا عن أي تجارب سياسية أو حزبية.
ظاهرة التواصل المباشر مع المواطنين كسرت في الانتخابات التونسية الحالية أفكار التسويق أو الخطاب السياسي أو الحملات التقليدية أو الإلكترونية. المرشح بنفسه يخاطب الناس في أماكن تواجدهم وبلغة يفهمونها جيدًا وبخطاب مفاده أنه شخص غير حزبي وانحيازه فقط للتوانسة، وأنه ضد المنظومة الحزبية والسياسية ولا يسعى للتقرب منها بأي شكل. ثمة علامات استفهام حول هذا الارتباط التنظيمي مع وجود خلافات فكرية مفترضة بين يساري تقدمي وبين مرشح انحيازاته شديدة العداء للديمقراطية والحياة الحزبية ولمكتسبات المرأة بعد الثورة، ولحقوق الإنسان.
رابعًا: قواعد النهضة لم تكن متحمسة لمرشحها. لم يكن قرار حركة النهضة بالدفع بمرشح رئاسي من بين صفوفها قرارًا محسومًا أو مدروسًا بشكل سابق، فكانت الحركة أقرب لاختيار مرشح آخر، وكان هناك أحاديث كثيرة متداولة في الأوساط السياسية بتونس عن تقارب ما بين الرئيس الأسبق للحكومة ويوسف الشاهد، لكن لم يصل الطرفان لاتفاق حول شروط دعم النهضة للشاهد أو مرشحين آخرين.
لم يكن هناك إجماع داخل حركة النهضة لترشح عبدالفتاح مورو، وتجاذب بعض المرشحين أصواتًا ليست بالقليلة من قواعد النهضة، منهم مثلًا المحامي سيف مخلوف الذي يلقبه البعض بـ «محامي الإرهابيين» لدفاعه عن الأصوليين والسلفيين وبعض المنتمين لحركة النهضة في قضايا قانونية، واتخاذه مواقف متشددة ضد النظام السياسي باعتباره مثلًا يحارب مدارس تحفيظ القرآن ورواج خطابه المحافظ داخل الحركة وبعض الأوساط المحافظة في المجتمع.
كذلك شخصيات مثل حمادي الجبالي رئيس الحكومة السابق والأمين العام السابق لحزب حركة النهضة، والمنصف المرزوقي الرئيس التونسي الأسبق الذي كان يحظى في السابق بدعم حركة النهضة بشكل معلن، كل منهم له أنصاره داخل الحركة وقواعدها والاثنان يتمتعان بعلاقات جيدة مع العديد من قيادات الحركة.
حتى المرشح صاحب أعلى الأصوات قيس سعيد حصل أيضًا على تأييد من داخل قواعد النهضة المتشددة، نظرًا لعدم تنازله عن مفاهيم إسلامية أساسية مثل رفض المساواة في الميراث أو المصالحة مع النظام السابق، وهو خطاب راديكالي شعبوي له مريدوه.
خامسًا: لم يعلن أي مرشح رفضه للنتائج المعلنة بل اعترف الجميع بالنتائج دون أي تلميح بالتلاعب أو التزوير أو التحريض ضد المرشحين الآخرين، وعلى العكس بدأ الجميع يحضر نفسه للانتخابات التشريعية التي ستقام في نفس موعد جولة الإعادة (مطلع أكتوبر القادم)، وهو تحدٍ كبير للأحزاب والكتل السياسية الرئيسية بتشكيل أغلبية أو أكثرية برلمانية تضمن المشاركة في الحكم خلال الفترة الرئاسية المقبلة. لكن ما المتوقع من خطوات للفاعلين السياسيين في الجولة الرئاسية والبرلمانية القادمة؟
قراءة في المستقبل القريب
قد يفطن بعض السياسيين لنهاية أدوارهم وقد لا يفطن البعض لذلك، وهو ما يتربط بسياسيين كثر مثل الرئيس الأسبق منصف المرزوقي الذي لا يبدو في الأفق أن له دورًا سياسيًا حقيقيًا أو جديدًا يقدمه.
نفس الأمر ينطبق على حمادي الجبالي، وربما من المناسب أن تعيد التنظيمات اليسارية التي لم يكن لها أي تواجد يذكر في الانتخابات الأخيرة على الرغم من الدفع بالسياسي المخضرم حمة الهمامي، الذي حل ثالثًا في الانتخابات الرئاسية السابقة، ولم يستطع هذه المرة أن يكون حتى ضمن الـ 10 مرشحين الأوائل. وهو ما يستلزم من اليسار التونسي إعادة الحسابات للمرحلة المقبلة وطرح وجوه جديدة وتطوير خطاب اليسار وآليات تواصله مع الجماهير، خاصة مع نسب الفقر والبطالة التي من المفترض أن تشكل بيئة مناسبة لخطاب العدالة الاجتماعية والمساواة، وهو تحدٍ قوي لليسار.
من المتوقع بشكل كبير كثافة التصويت للمرشح قيس سعيد بدوافع انحيازاته الأصولية والرجعية من جانب قواعد النهضة والإسلاميين، ومن جانب آخر فقد يتصور البعض أن ضمان كتلة برلمانية كبيرة ونجاح مرشح لا يملك كثيرًا من مهارات المناورة السياسية وإدارة التوازنات والعلاقات مع الآخرين فرصة عظيمة للتفوق على مرشح قليل الخبرة والتجربة والإمساك بالسلطة من أروقة البرلمان وليس قصر الرئاسة، وهو وضع قائم ويعتقد أن قادة النهضة يفكرون به.
الوضع القانوني الغامض للمرشح نبيل القروي يضع علامات استفهام عديدة، استثمرت زوجته ومديرة حملته سلوى السماوي حبسه قبل جولة الانتخابات الأولى في الترويج له باعتباره ضحية رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وضحية النهضة الإسلامي، وأن الطرفين سعيا لإقصائه من الانتخابات بشكل واضح، معتبرةً حبسه في قضايا فساد مالي بمثانة اعتقال سياسي. نجح هذا الخطاب في جذب الأصوات في الجولة الأولى بالإضافة لمرتكزات نبيل القروي من الإعانات الاجتماعية، لكن ماذا لو فاز بالرئاسة وأُدين قضائيًا؟ سيشكل هذا بالطبع ارتباكًا غير مفهومة نتائجه، ومن الوارد أن يصب بشكل واضح لمصلحة قيس سعيد صاحب الحظوظ الأوفر حتى الآن.
سلمت تونس من الانقلابات والمحاكمات الثورية والاقتتال، لكنها الآن تصاب بمشكلات الديمقراطية، الشعبوية وكراهية السياسة والضجر من النخب والخطابات التقليدية للسياسة كما هو الحال في الموجة اليمينية التي تضرب العالم بأسره في السنوات الأخيرة.