كيف نتعامل مع الآثار النفسية لطفل مريض بالسرطان؟

كان هذا جزءًا من حوارٍ دار بين رائدي الفضاء «كوبر» و«براند» في لحظة ما، على كوكبٍ ما خارج المجرّة. حوار صغير يتجلى فيه معنى الأبوّة بشكلٍ مذهل. ببساطة، أنت تتحاشى إخبار طفلك بأن العالم كله سينتهي مهما كان صعبًا، ليس لشيء سوى أنه من المحرّم في العُرف الإنساني أن تقتل طفولته. أن تدسّ الرعب في قلبه الصغير، فماذا لو اضطررت إلى إخباره -عاجلًا أم آجلًا- بأن عالمه هو، حياته وأحلام طفولته البريئة كلها يمكن أن تنتهي؟

يعرف الآباء كيف يواسون أطفالهم الذين تضربهم الحمى أو نزلات البرد وآلام المعدة مثلًا بين فترة وأخرى، بإخبارهم أنهم سيكونون على ما يرام، لكن ماذا عن هؤلاء الذين حاولوا فقط تعريف المرض لأطفالهم. كيف يستطيع طفل فهم معنى كلمة «سرطان»، أو أنه على وشك استقبال جرعة العلاج القادمة، أو أن كل هذا الألم الحارق والإنهاك والتعب المستمر؛ هو علاج لشيءٍ ما؟

بداية مؤلمة للغاية، فماذا يمكن أن نفعل -ولو جزءًا بسيطًا- كي تمر هذه المرحلة الحرجة قدر الإمكان؟

إخبار طفلك بأنه مريض بالسرطان!

أمام غرفة الطبيب، كانت تقف، تنتظر وعلى وجهها -إن لم تكن على كل خلية فيها- علامات توتر وعصبية. «هنادي» تنتظر، تروح وتجيء في مكانها وكأنها بندول ساعة يتحرك في مساره دون أن يحيد عنه، لتأتي كلمات الطبيب مُنهية ذلك كله بعبارة واحدة:

صمتٌ وذهول، لن ندخل في تفاصيل كثيرة لا تُهم، سوى أن حنين لم تتجاوز السابعة من عمرها. الأهم في هذه المرحلة في المقام الأول هي والدتها «هنادي»، كونها أول من تلقى الخبر. بماذا تفكر؟ ماذا ستفعل؟ كيف ستخبر «محمد» -والد حنين- والجميع بهذا؟ كيف سيتعامل الجميع معها وطفلتها؟ حنين نفسها، كيف ستخبرها؟ أو بمعنى أدق: كيف ستشرح لها والدتها ما ستمر به مستقبلًا؟

إذا أسقطنا مثال الرائد كوبر في البداية هنا، فبالفعل يفضل الكثير من الآباء عدم مصارحة أطفالهم بالمرض، ويبدءون في الصمت والتبرير غير الموضوعي لما يعانيه أطفالهم، اعتقادًا منهم أن ذلك سيحميهم. لكن جميع الأطباء ينصحون بضرورة مصارحة الأطفال المرضى بذلك.

أكثر تحديدًا، أن يسمي الوالدين المرض باسمه لطفلهم المصاب؛ «سرطان العظام، سرطان الدم، سرطان الدماغ… إلخ»، لأن ذلك سيزيد من ثقة الأطفال في والديهم، ويساهم في تعاون الطفل مع الأطباء عند إجراء الفحوصات، والعلاج، بالإضافة إلى أن هذه الكلمات ستمر على أذني الطفل حتمًا شاء الجميع أم أبوا. لذا يجب أن يعي الطفل ما الذي يجري، وما الذي يتحدثون عنه.

أما عن طريقة إخبار الطفل ذاتها؛ فهي تعتمد على عمره. فالأطفال دون الثالثة، لا يمكنهم فهم معنى «سرطان»، لكنهم يخشون المستشفيات، الأطباء، وأيضًا يخشون ابتعاد أو تخلي آبائهم عنهم. لذا فالمطلوب منك في هذه المرحلة، هو أن تكون موجودًا برفقة طفلك على الدوام في المشفى، وأن تزيد من ثقة طفلك فيك بترديدك عبارات تدل على أنك ستظل بجانبه، وأنه سيعود للمنزل حال الانتهاء من العلاج. أما الأطفال فوق الثلاثة الأعوام، فيمكنهم فهم السرطان عند شرحه بعبارات طفولية بسيطة، مثال:

خطوات بسيطة للحديث

اتفقنا على أن الأطفال فوق الثالثة يمكنهم فهم السرطان، هنا يجب أن تتحدث هنادي مع طفلتها عن المرض، لكن باتباع هذه الإرشادات:

1. يجب أن تقرأ وتحضّر نفسها جيدًا قبل بدء الحديث، وأن يكون لديها معرفة قليلة بالمرض. فالجهل والضعف والبكاء والتوتر سيزيد الأمر سوءًا، لن تفهم الطفلة ما يجري.

2. في المرة الأولى التي ستخبر فيها حنين يجب أن يكون برفقتها أحد الأشخاص المقربين للغاية، الوالد، الجدّة… إلخ من الأقرباء، خاصة الذين تفضلهم الطفلة.

3. يجب أن تتحدث طوال الوقت مع حنين عن المرض، من الخطأ الاكتفاء بمحادثة واحدة. أن تحكي لها قصصًا عن أناس خاضوا التجربة وانتصروا.

4. يجب أن تدع طفلتها تسأل ما تشاء، وتجيبها على كل سؤال حتى لو لم تكن لديها إجابة صحيحة. الصمت سيكون خطوة مؤذية للطفلة.

5. عليها أن تكون موجودة مع طفلتها طوال الوقت، تشاركها مشاعرها كافة، وتعطيها كل الدعم اللازم.

6. يجب أن تصارح طفلتها تمامًا بخطوات العلاج والفحوصات الطبية اللازمة، مواعيد الأطباء، ولماذا سنذهب اليوم للطبيب.

7. أهم خطوة هي أن تصارحها تمامًا عن الألم، الآثار الجانبية للعلاج؛ أبرزها سقوط الشعر كله، تغير الملامح، عدم الإحساس بطعم الأكل، الغثيان، الإنهاك، وغيرها من الآثار. هي أمور صعبة على هنادي للغاية لكنها حتمية. هناك خطوة أخرى سنؤجلها للنهاية.

نفسيًا: كيف ستعاني حنين؟

الرحلة الأصعب لحنين بالطبع حين تبدأ رحلة العلاج، ويبدأ العلاج الكيماوي رحلته في الدم، ويستقبل جسدها الصغير الإشعاع، ويصبح مرتعًا لمقابض الجراحة الطبية إذا لزم الأمر. سيكون هناك إنهاك مستمر، جروح وآلام كثيرة في الجسد، جدران مستشفى طوال الوقت، وأنابيب تمتد من أغلب جسدها تقريبًا. جو هذا النوع من المستشفيات القاتم.

التأثير السلبي المجهول والأكثر صعوبة هو تأثير ذلك كله على الأداء الإدراكي، والتطور العصبي للطفلة. وفي دراسة أجريت على عدد من الأطفال والمراهقين الذين أصيبوا بالسرطان في طفولتهم لملاحظة هذه التغيرات، وجدَت أن الأطفال يعانون وبشكل ملحوظ، سواء خلال فترة العلاج أو بعد الشفاء، من تغيرات عصبية، القلق، المزاج السيئ، ضعف الإدراك المعرفي والانتباه، العنف في بعض الأحيان، وأعراض ما بعد الصدمة، كما أن العديد من مناطق الدماغ، مثل اللوزة والحصين، تبين أنها تتغير باستمرار.

تنتج هذه الآثار والتغيرات العصبية عن مراحل العلاج (نوعه والجرعة)، والذي يؤثر مباشرة على بنية الدماغ ووظائفه. وبالطبع كما هو معروف فإن أي تعرض لمحنة في مرحلة الطفولة مهما كان شكلها، فإن نتائجها تنعكس على سلوك الشخص، تفكيره، قدراته على التعلم، وصحته العقلية.

يعاني الأطفال عاطفيًا واجتماعيًا أيضًا، وقد يتفاقم الأمر إذا ما تعرض الطفل لعملية استئصال جزء بارز من الجسد مصابًا بالورم؛ مثل الأطراف، نأمل ألا تصل إليها حنين. هنا يبدأ الطفل في مرحلة صعبة من الشعور بأنه مختلف عن الآخرين، أو أقل منهم، والذي ينتج عنه بالتأكيد الشعور بالوحدة، الانعزال، الخوف من العودة والظهور مجتمعيًا، البقاء في المنزل، الاكتئاب، الذي يؤثر مباشرة على تحصيله الدراسي ونشاط عقله.

الحصن الأكبر

العائلة؛ تحدثنا عمّ ستعانيه حنين خلال رحلة مرضها وعلاجها، فماذا عن وضع العائلة وسط ذلك كله؟

للإجابة على هذا السؤال؛أجريت دراسة في عائلات مختلفة لديها أطفال لا زالوا يتلقون العلاج، وآخرون تعافوا بشكل كامل من السرطان، وأشقاؤهم الذين تتراوح أعمارهم بين 8-17 سنة.

أتت النتائج لتخبرنا أن العلاقات الأسرية للأطفال المرضى الذين لا زالوا يتلقون العلاج، وأولئك الذين شُفُوا بالكامل تكون مضطربة دائمًا. هذا الاضطراب ناتج عن وجود تفاعل أقل بين أفراد الأسرة، وظهور أعراض الاكتئاب على أشقاء المريض بسبب مرضه، أو حتى بسبب قلة رعاية الوالدين لباقي الأشقاء. وبناءً على هذه النتائج يجب أن يتوفر الدعم النفسي بشكل مكثف ليس لحنين فحسب، بل لأفراد العائلة أيضًا.

اللحظة الأخيرة!

ذكرتُ في الإرشادات في الأعلى أن هناك خطوة مؤجلة للنهاية، هذه الخطوة هي الحديث عن الموت. أن تصارح هنادي طفلتها بحقيقة الموت، وأن تتحدث كثيرًا عنه. رحلة طويلة من الألم والإرهاق يتحملها جسدها الصغير، لذا من النُّبل تهيئتها لنهاية هذه الرحلة مهما بدت قاسية. سيقول والدا حنين ما شاءا -وقُل أنت ما شئت- من الحكايات عن الموت، ما بعد الموت من راحة أبدية، جنّة وأطفال وضحك ولعب… إلخ، كل حسب معتقده وما يؤمن به.

اللحظات الأخيرة قبل وفاة حنين

ستموت حنين بعد أن أنهكها المرض والعلاج دون أمل في الشفاء. هذه اللحظة من أقسى اللحظات التي ستمر على هنادي ومحمد، والجميع. هم الآن في مرحلة تعرف باسم «end-of-life care period»، وهي الفترة الزمنية التي يدرك فيها الأهل أن طفلهم لا يمكن شفاؤه، وأنه حتمًا سيموت. متوسط هذه الفترة الزمنية يقدر بـ ​​8 أسابيع ونصف.

يستعد الوالدان لمرحلة الموت هذه، لذا سيحتاجان بشكل طارئ لتدخل ودعم من جهة طبية متخصصة في الدعم النفسي، لتقبل حقيقة رحيلها. أجريت هذه الدراسة على ذوي 158 طفلًا توفوا بالسرطان في الفترة بين 2005 – 2006، وجدت أن نحو 52% من الآباء تقبّلوا حقيقة وفاة طفلهم، بعد لجوئهم للدعم النفسي الذي جهزهم لهذه اللحظة.

تبدأ مرحلة الاتصال بالدعم وطلب المؤازرة الطبية عند ظهور أعراض مثل الألم والتعب الذي يمثل نحو 65% من حياة الطفل الأخيرة، الغثيان بنسبة 63.6%. يبدأ الطفل أيضًا بطرح أسئلة يمكن لا يجد الأهل إجابة لها، مثل ما الفائدة من العلاج إذا كنت سأموت في النهاية في كل الأحوال؟

في اللحظات الأخيرة هذه قد يفضل والدا حنين إبقاءها في المنزل، فمعظم الآباء يفضلون أن يقضي الطفل لحظاته الأخيرة على فراشه بوجود كامل المستلزمات الطبية، حيث توفي نحو 50% من أطفال الدراسة السابقة في المنزل.

أخيرًا؛ مرض السرطان، خاصة سرطان الأطفال، متعدٍ خبيث على هذه النفوس الصغيرة. تطول الحكايات عمّن خاضوا التجارب، محاربون صغار استطاعوا قهره، وآخرون رحلوا ملائكة لعالم آخر. كذلك هناك أولياء أمور قرروا صنع حياة كاملة من مأساتهم، ملهمة لغيرهم، يملؤها الأمل في الشفاء، والرضا بالقدر عن الوفاة.

لا يسعني سوى تمنّي الشفاء لجميع الأبطال الصغار، ولترقد حنين في سلام..