كيف نصنع مريض اكتئاب؟
فلتتخيل معي عزيزي أي الدول أعلى في معدلات الاكتئاب؟ بالطبع هي الدول الأفقر، أليس كذلك؟
حسنًا فلتفكر ثانيةً؛ لأنه ليس بالضرورة، فالصين والولايات المتحدة تسجل أعلى معدلات في الاكتئاب واضطرابات القلق والإدمان بأنواعه. في حين أن دولًا مثل نيجيريا وبنجلادش والمكسيك تأتي في ذيل قائمة أكثر الدول إصابةً بالاكتئاب، فهي بالفعل موجودة. ولكن هناك دولًا متقدمة ولا تعاني من معدلات فقر أو بطالة مرتفعة، ومع ذلك تعاني من الاكتئاب، فلمَ هذا؟
قبل أن تُتابع القراءة أرجو منك تفهُّم أنني لا أحاول أن أنفي أن الاكتئاب أو اضطرابات القلق أمراض بالفعل تحتاج إلى علاج، ولا أحاول قول إن المصابين بها لا يجب أن يحصلوا على العلاج والرعاية الكافيين، أو أنها أمراض للمرفهين فقط من العامة، ولكنني أتحدث عن أسباب الاكتئاب.
بالطبع الاكتئاب مرض قد يُشكِّل خطورة شديدة على حياة الشخص في بعض الأحيان. تخيَّل عزيزي أن تحاول الهرب من عدوك وتنجح بالفعل في هذا، ما مدى الراحة النفسية التي ستشعر بها؟ ولكن ماذا إذا لم توجد فرصة للفرار من هذا العدو، فهو بداخلك؟ أليس هذا مؤلم بالفعل؟
الاكتئاب واللغة
لا شك أن قدرة الإنسان على التعبير عن نفسه شيء في غاية الروعة، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى ما نراه من إبداعات ومُؤلفات تحظى بالجوائز، ولكن الأهم أننا نتأثر بها. فمن ضمن صفات الإنسان والحيوان على حد سواء، ولكن بالطبع هي في الإنسان بنسب عالية للغاية، هي القدرة على التعاطف، ودعنا هنا نفكر قليلًا عن معنى التعاطف في الأصل.
أليس التعاطف هو القدرة على الحزن أو الفرح بناءً على ما يتطلبه الموقف، فإذا رأيت أو قرأت عن حادث بشع، فإنك تشعر بالحزن، ولكن لمَ؟
الإجابة هي أنك تشعر بما يمكن أن يتسبَّب به هذا الحدث إن حدثَ في حياتك أنت، فتشعر بالأسى للمُصاب، وتشعر بالأسى لأقاربه. ولكن سرعان ما يزول هذا الشعور لأنه في الغالب لم يُحرِّك بداخلك أي شيء معروف بالنسبة إليك، بمعنى أنك لا تعلم شيئًا على الأرجح عن الألم الذي يتسبَّب فيه حادث انقلاب سيارة على سبيل المثال، ولكنك واعٍ بما فيه الكفاية لتعرف أن هذا حدث غير سعيد بالمرة وتشعر بتعاطف طفيف مع منْ مر به.
ولكن ماذا عمَّن كتب عنه؟
سأصف لك الآن كيف تشعر إذا مررت بهذا الموقف، فأنت تأمل أن تعود لبيتك وتقضي وقتًا مع أسرتك بعد يوم طويل، لديك طموحات تبذل الكثير من الجهد لتحقيقها، العديد من المسئوليات التي لا تتوقع من أحد سواك تلبيتها، والآن كل ما يمكن أن تأمل به هو أن ترى ضوء الشمس مرة أخرى، أن تخطو خطوة أخرى، أن تحتفظ ببصرك، بسمعك، ألَّا تصبح قعيد الفراش.
الآن فقط تتذكر كل المواعيد التي قررت تأجيلها. تعد نفسك بأنك لن تفعل هذا ثانية، هذا إن كان هناك ثانية. تتذكر الآن كل الأشخاص الذين آذيتهم وتدعو الله أن يسامحوك، بل تدعو أن تنجو من هذا حتى تطلب منهم الغفران بنفسك.
ولكن كل ما كان قبل هذا اليوم كان فرصًا تتكرر بشكل يومي وأنت من كان يركلها بعيدًا، ضامنًا أن الفرص لا تنتهي.
بعد قراءتك للفقرة السابقة عزيزي، والتي أعلم أنها كان بها الكثير من الإطناب والأساليب الأدبية، ولكن ألم تبدأ تشعر بالتعاطف بدرجة أكبر مع منْ يمرون بتلك التجربة القاسية مهما كان مصيرهم؟
الآن فلتتذكر عزيزي القارئ عدد المرات التي سمعت أو قرأت أو شاهدت فيها تجربة شخص مكتئب أو فيلمًا عن الاكتئاب أو وصفًا دقيقًا ومُفصَّلًا للغاية لما يمر به مريض الاكتئاب. ربما أنت لم تُصَب بالاكتئاب بعد قراءتك أو مشاهدتك لتلك المادة مباشرةً. وربما أصلًا – وعلى الأرجح حدث – سجل أي مُصاب حالي للاكتئاب كل ما رآه وسمعه عن الاكتئاب، وربما حين أتى الوقت المناسب شعر به.
تلخيصًا للفقرة السابقة، فالاستخدام الصحيح للغة قد يؤدي إلى تعاطف من جانب المُتلقي، ربما يتعدى حد التعاطف ويصل إلى تبني تلك المشاعر.
رفاهية الاكتئاب
على الرغم من أن هناك العديد والعديد من الدول التي كنت تتوقع أن تجدها على قائمة الدول الأكثر اكتئابًا، ولكنك لم تفعل، فهذا الأمر بالفعل يبدو أكثر منطقية، فطبقًا لهرم «ماسلو» النفسي الشهير: لا صوت يعلو فوق صوت غريزة البقاء.
فأين الفرصة لشعور الإنسان بالاكتئاب والحاجة للعلاج النفسي، أو حتى التواصل العائلي، إذا ما كان جل احتياجه هو أن ينجو ليوم جديد أن يتأكد أنه لن يموت فيه جوعًا، أن يشعر بالأمان؟
وعلى العكس من هذا تأتي الدول الأكثر رفاهيةً، فبعد استقرار العديد من البشر في وظائف مناسبة، والحصول على تعليم ورعاية صحية مناسبين، وبمواجهة الأسباب العديدة للاكتئاب، كالبيئية والجينية وغيرها، يأتي الإنسان للغوص داخل الذات، ومراقبة المشاعر والأفكار بدقة مدهشة، والتأثر بكل ما يحدث من حوله، والتأثر حتى بالأحداث العالمية التي يشعر بالعجز عن تغيير أي منها.
وعلى العكس من الشخص الأول الذي يتعامل مع محيطه من وجهة نظر الفريسة التي عليها أن تنجو، أن تنجو فقط، لا أن تقف للتساؤل عن السبب الذي يجعلها فريسة في المقام الأول، أو أن تقف لتقول لن أصبح فريسة للظروف أكثر من هذا، فلقد عاش الثاني حياة مليئة بالتحكم والسيطرة على ظروف حياته، وغير العادي بالنسبة إليه هو تلك السقطات في قدرته على التحكم في البيئة المحيطة به.
في حين أن منْ يعيش في بلد يعاني من حرب من أي نوع، وعلى الرغم من أنه أكثر من أي شخص آخر في الحياة لديه أسباب للاكتئاب، ستجده لا يُصاب به في أوقات الحرب نفسها، وهذا بالفعل ما كان يحدث مع الجنود وإصابتهم باضطراب ما بعد الصدمة، فهو كما يُرجِّح الاسم يُصيب الشخص بعد مرور الكارثة وانتهائها، لا أثناء حدوثها.
في النهاية، أقول إن الاكتئاب مرض خطير، يمكن أن يتسبَّب في إنهاء حياة الإنسان لنفسه، وفي بعض الحالات التي تصاحبها ضلالات إنهاء حياة الآخرين، ولكن العصر الحالي هو الأعلى تسجيلًا لمعدلات الاكتئاب، بالطبع لم يكن هناك إحصاءات عن الاكتئاب في العصور الغابرة، ولكن بالنظر إلى نوعية الأدب المُقدمة في تلك الأزمنة سنكتشف ندرة تعبير أي مبدع ترك عملًا أدبيًّا عن الاكتئاب بشكله الحالي، حتى إن لم يكن يُدعى كذلك حينها.
ومن المتوقع أن تتزايد معدلات الاكتئاب على الرغم من تزايد الجهود المادية والتوعوية المبذولة في الوقاية منه وعلاجه، وهذا الأمر بالفعل يطرح تساؤلًا سأتركه لك عزيزي القارئ، أتساعد تلك الجهود بالفعل في الحد من الإصابة بالاكتئاب أم أنها بطريقة ما تساهم في صنعه؟