كيف نتحكم في المركبات الفضائية في أعماق الفضاء؟
هل واجهتكم صعوبة يومًا في التحكم في سيارتكم، أو في موازنة أوزانكم على الدراجة؟ هذه مشاكل محتملة لمن يقود السيارة أو يركب الدراجة لأول مرة. ولكن بالتدريب والتعلم تصبح قيادة السيارة شيئاً روتينياً وركوب الدراجة من البديهيات.
ولكن هل تساءلتم يوماً عن كيفية التحكم في نوع أكبر من المحركات؛ أكبر كثيراً! مثل تلسكوب هابل على سبيل المثال أو محطة الفضاء الدولية ISS. إن كان البشر على الأرض يواجهون مشاكل بالتحكم في محركات مثل السيارة أو الدراجة، فما بالكم بمحركات أكبر بكثير غير مأهولة بالبشر و في عَرض الفضاء؟!
لحسن الحظ، هناك الكثير من الحلول التي ابتكرها المهندسون لحل مشكلة التحكم في الأجسام التي تُبعَث إلى الفضاء (مركبات فضائية، أقمار اصطناعية، تلسكوبات). بعض هذه الحلول يصلح لجميع أنواع المحركات الفضائية وبعضها يصلح لفئة خاصة.
مايسترو التحكم؛ محركات الدفع
محركات الدفع Thrusters هي العمود الفقري للتحكم في معظم الأجسام في الفضاء. وتعمل محركات الدفع على أساس فيزيائي بسيط للغاية ألا و هو قانون نيوتن الثالث الذي ينص على أن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة و يعاكسه في الاتجاه. فلتتذكروا معي فيلم الحركة المفضل لديكم، وكيف عندما يُطلق أحدهم النيران فإن صاحب المسدس يُلاقي رد فعل للوراء جراء انطلاق الرصاصة للأمام. هذا تماماً هو قانون نيوتن الثالث، وهو أيضاً ما يحدث في محركات الدفع عندما تُوجَه في اتجاه معين وتحرق الوقود لتنشأ حركة في الاتجاه المعاكس.
اعتماد محركات الدفع على قانون جميل وبسيط كقانون نيوتن الثالث قد يبدو دعوة للاستخفاف بقدراتها، ولكن أحذركم أعزائي القراء، فمحركات الدفع ليست بالشيء الهين على الإطلاق! محركات الدفع تستخدم في إحدى أهم و أعنف المناورات الفضائية على الإطلاق وهي ما تسمى بالـgravity assisst الذي يمكن أن نفهمه باللغة العربية على أنه التسارع/التباطؤ بمساعدة الجاذبية.
الدفع باستخدام الجاذبية gravity assisst هي مناورة فضائية يتم استغلالها لتغيير سرعة المركبة الفضائية دون الحاجة إلى حرق الكثير من الوقود. حيث يتم تغيير مسار المركبة باستخدام محركات الدفع لتقترب من مجال جاذبية كوكب وسيط، حينها يتم تبادل طاقة الحركة بين الكوكب والمركبة الفضائية مما يؤدي إلى تغيير سرعة المركبة. ثم تتدخل محركات الدفع مرة أخرى بعد تبادل طاقة الحركة لتساعد على تضخيم تأثير الجاذبية. ولتتسارع المركبة، يجب أن تتحرك في نفس اتجاه دوران الكوكب، أو في عكس اتجاه دورانه للتباطؤ.
هذه المناورة قد استُخدمت على متن الكثير من مركبات الفضاء التي نقرأ عنها دومًا مثل فوياجر 1 Voyager 1 التي تجوب الفضاء الخارجي، ومسبار روزيتا الذي زار المذنب شوريموف غرايزمنكو أو المركبة نيو هورايزونز New Horizons التي زارت بلوتو و غيرها الكثير.
فيديو يشرح عملية الدفع باستخدام الجاذبية
تحكم أرخص وصديق للبيئة: Reaction Wheels
بالرغم من سهولة استخدام محركات الدفع في الكثير من المحركات، فإن تكلفة الوقود و وزنه قد تكون في بعض الأحيان من الرفاهيات التي لا يمكن أن نتحملها، تماماً كالحال على تلسكوب هابل. فتلسكوب هابل يعمل منذ 29 سنة، ولم يكن من المعقول أن يحمل كمية وقود تكفي لكل هذه المدة. كما أن محركات الدفع تنشأ عنها سحب من الغازات نتيجة لحرق الوقود مما يمكنه أن يُخِل بعمل الآلات و المعدات الدقيقة على متن هابل.
لهذا الغرض، قامت العقول البشرية الهندسية بتصميم وسائل أخرى تسمح لنا بالقيادة والتحكم في المركبات الفضائية عن بعد.
إحدى هذه الوسائل و المستخدمة على متن هابل هي ما يسمى بعجلة رد الفعل reaction wheels و هي عبارة عن عجلات ضخمة (أربعة في العادة) تدور بسرعات مختلفة وفي اتجاهات مختلفة مما يُنتج قوة عزم تضمن حركة هابل في الاتجاهات المعاكسة لاتجاه القوة.
صورة توضح أماكن ال reaction wheels و الجيروسكوبات على متن هابل التي تساعده على معرفة سرعته و اتجاه دورانه
وبالفعل كما توقعتهم، فعجلات رد الفعل تعتمد أيضاً على قانون نيوتن الثالث أو قانون حفظ طاقة الحركة الدائرية. حيث إن دوران جسم بسرعة دورانية معينة في اتجاه معين يولد حركة لها نفس السرعة الدورانية في الاتجاه المعاكس. لهذا السبب يوجد حد أقصى للسرعة التي يمكن أن يدور بها هابل وهو ذاته الحد الأقصى لسرعة دوران العجلات على متنه.
video يوضح شكل الـreaction wheels على متن هابل
وبالطبع، فاستخدام عجلات رد الفعل reaction wheels لا ينحصر على تلسكوب هابل فقط، ولكنها تُستَخدم في الكثير من المهمات الفضائية مثل تلسكوب كبلر ومركبة كاسيني على سبيل المثال.
بالرغم من أنه يبدو أن جميع مشاكل التحكم يمكن أن تُحَل باستخدام محركات الدفع Thrusters أو العجلات reaction wheels، ولكن هناك فئة محددة للغاية من الأجسام الفضائية التي يمكن أن تدمر كلياً لولا وسيلة التحكم التالية.
الدوافع المغناطيسية Magnetorquers
تحدثنا عن التحكم فيما هو كبير وعملاق مثل تلسكوب هابل أو كبلر، ولكن هناك فئة من الأجسام الفضائية ذات نفس الأهمية بأحجام أصغر بكثير ألا و هي ما يُسمى بالـpicosatellites أو الـcubesats وهي أقمار اصطناعية ذات حجم صغير جداً مقارنة بالحجم الطبيعي للأقمار الاصطناعية.
تستخدم الدوافع المغناطيسية magnetotorquers على متن هذه الأقمار كوسائل للتحكم في حركتها وتعديل مسار الدوران الخاص بها، ويعتمد عملها على وجود قضيب معدني يسير به تيار كهربائي مما يولد مجالًا مغناطيسيًا حوله والذي يتفاعل بدوره مع المجال المغناطيسي لدى الأرض.
عندما يتفاعل المجالان المغناطيسان، وبما أن مجال الأرض أقوى بكثير، فإنه يؤثر على حركة واتجاه القمر الاصطناعي الذي – لولا الدافع المغناطيسي- كان سينحرف عن مساره المداري شيئاً فشيئاً، وينهار تحت قوة السحب drag force التي تبذلها جزيئات الغلاف الجوي عليه حتى يكون لنا حفلة شواء جوية من شدة احتكاكه بالغلاف الجوي، قبل أن ينضم إلى الملايين من قطع الحطام الفضائي space debris الذي يتخذ المسار المداري المنخفض للأرض منزلاً له.
وبالطبع، يمكن الاستنتاج أنه لكي تعمل الـMagnetorquers يستلزم وجود الجسم الفضائي على مسار مداري منخفضLow Earth Orbit حيث يكون تأثير المجال المغناطيسي للأرض ملحوظاً. ومن المفاجئ، أن تلسكوب هابل يستخدم أيضًا أربعة من تلك الدوافع، لكنها لا تقوم بالتحكم في الحركة بشكل رئيسي كما هو الحال في الأقمار الصغيرة بسبب ضخامة جسم هابل والذي يحتاج إلى ملف ذي وزن كبير، إنما تستخدم لتحد من سرعة العجلات رد الفعل عندما تصل إلى أقصى سرعة لها؛ 90 درجة/15 دقيقة.
صناعة المحركات الفضائية يتطلب قائمة طويلة من العلوم، ولن نبالغ إن قلنا إن علم التحكم يتربع أعلى القائمة؛ تخيلوا معي بذل الكثير من الوقت والأموال ببناء وتصميم جسم فضائي يفشل عند الإقلاع، أو يتحطم عند الاحتكاك بالغلاف الجوي، أو يُضل طريقه في ظلمة الفضاء! هنا يقول العلم والهندسة كلماتهم لكي ننجح مهمتنا، غزو الفضاء.