كيف نكتسب علومنا ومعارفنا؟
يسأل سائل:
الدين يأمرنا أن نصدّق أمورا لا نراها، وليس هناك من سبيل إلى المعرفة بأن هذا الدين صحيح أم باطل. كيف لي أن أؤمن بأشياء لا أراها؟ أو أتبّع نبيا ليس إلا فردا من أفراد التاريخ القديم؟ ما هي الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها لإثبات صحة الدين؟
إذا كنت أنا وأنت في بيت واحد معا، واختلفنا في عدد الكراسي في هذا البيت مثلا.. فإننا سنقوم معا ونذهب إلى كل غرفة من غرف البيت فنعدّ ما فيها من كراسي. وسنحسم الأمر غالبا في دقائق. وقد ينشأ بيننا بعض الاختلافات. فنختلف مثلا: (هل نحسب الأريكة (الكنبة) في العدّ أم لا؟) فقد أزعم أنا أنها داخلة في ضمن الكراسي وقد تزعم أنت أنها ليست بداخلة. فيجرّنا ذلك إلى الاتفاق على تعريف الكرسي وهل هو: (كل ما يُجلس عليه مطلقا؟)، أو هو: (كل ما يَجلس عليه شخص واحد)؟.. وهكذا.
المهم أن الخلاف بيننا حلُّه سهلٌ لأننا اتفقنا على (معيار) لمعرفة الحقيقة. فكلانا معترف أن الطريق إلى معرفة هذه الحقيقة (حقيقة عدد الكراسي في البيت) هو: الحصر والعدّ والاستقراء.
فقبل أن نخوض في جواب سؤال: هل للكون إله خالق أزلي أبدي قادر عالم مُريد أمرنا بأشياء يبدو بعضها غريبا علينا، وأرسل إنسانا يخبرنا أنه رسول من عند الإله، ينبغي أن نتفق على بعض الأمور المتعلقة بالإدراك الإنساني للعلوم والمعارف عموما، وبعضها متعلق بسبيلنا إلى العلم بهذا الإله. وهذا سنتناوله في عدة مقالات تناقش مقدمات في “نظرية المعرفة”، وذلك لأن كثيرا من الخلاف في المسائل الدينية يحصل بسبب عدم مناقشة هذه المقدمات والأصول، فوجب مناقشة الأصول قبل الخوض فيما سيُبنى عليها.
فإن المنهجية العلمية الصحيحة تكون بتناول مسائل نظرية المعرفة – والتي تسمى في الفلسفة: الابستمولوجياepistemology- أولا ، قبل الخوض في مسائل الوجود – والذي يسمى في الفلسفة: الأنطولوجيا ontology .
إن الكلام في نظرية المعرفة طويل ومتشعب، وسنحاول تلخيص مسائل محددة نتكلم فيها في هذه المقالات لنمهد البحث في المسائل الدينية على أرضية سليمة. وسيكون حديثنا في أربع مقالات:
المقالة الأولى: تتكلم عن مصادر المعرفة ، وخاصة: الحواس والعقل
والثانية: تتكلم عن الأحكام التي يحكم بها العقل.
والثالثة: تتكلم عن الأخبار والنقل التاريخي ، ومتى يصح مصدرا للمعرفة
والرابعة: تتكلم عن التجربة والعلوم التجريبية وعلاقتها بالدين ، وما قد يُظن من “صراع” بين الدين والعلم.
أنت موجود، والعالم موجود، وبإمكانك معرفة أشياء عنه:
نبدأ فنقول:
أنت تدرك أشياء في ذهنك، وهناك أشياء موجودة خارج ذهنك، وأنت دائم السعي لمعرفة ذلك الواقع الخارجي ومطابقة ما يحصل في ذهنك للواقع الموجود خارج ذهنك أو عدم مطابقته. فأنت موجود، وذهنك موجود، وهناك أشياء خارج ذهنك تحاول أن تعرفها. لا ينبغي النزاع في هذا.
وهذا المُسَلَّم الذي يبدو واضحا بدهيا قد جادل فيه طائفة من الناس سُمُّوا بالسوفسطائية، وقد أكثر علماء الإسلام وغيرهم من الفلاسفة من الرد عليهم. ولا يهمنا من هذا النقاش الطويل أكثر مما ذكرناه، وهو: أنك موجود، وأن هناك أشياء موجودة خارج ذهنك، وأن باستطاعتك أن تعرف عن بعض هذه الأشياء معرفةً صحيحة. فاقتناعك مثلا بأن (1+1) لا بد أن يساوي = ( 2) ، يستلزم أنك مُسَلِّم بأنك موجود، وأن هذه المعلومة (1+1=2) موجودة في ذهنك، وأنها معلومة صحيحة في نفسها ، ثم أنها كذلك تعبر عن الواقع بحيث لو أتيت في الواقع بتفاحة وتفاحة فإنهما يكونان اثنتين، ولو جئت برجلِ ورجل فإنهما يكونان رجلين، وهكذا.
طرق المعرفة ثلاثة:
إذا علمت هذا .. فاسأل نفسك: ما هي الطرق التي توصل إلى المعرفة؟ ما هو السبيل الذي يمكن أن أسلكه لأدرك في ذهني أشياء مطابقة للواقع؟
نقول: هناك ثلاث طرق أساسية للوصول إلى المعرفة يعتمد عليها كل البشر. هذه الطرق هي:
- الحواس الخمس
- الخبر الصادق
- العقل
فالحواس الخمس هي البصر، والسمع، والشم، واللمس، والذوق. فالبصر سبب من أسباب المعرفة يدرك به الإنسان ألوان الأشياء وأشكالها وأحجامها، والشمّ وسيلة أخرى من وسائل المعرفة يدرك الإنسان عن طريقها نوعا آخر من الإدراكات وهي روائح الأشياء، واللمس وسيلة أخرى يدرك بها الإنسان نوعا من الإدراكات كالسخونة والبرودة، والخشونة والنعومة، وما إلى ذلك.
والسبيل الثاني هو الخبر الصادق. فمن أين عرفت مثلا أن هناك بلدا تسمّى (تايلاند) وأنت لم تزرها؟
هل العقل يجزم بلزوم وجود بلد بهذا الاسم؟ الجواب: لا.
هل رأيت تايلاند بعينيك أو اختبرتها بإحدى الحواس الخمس؟ الجواب: لا.
فالحقيقة أنك عرفت بوجود بلد تسمّى تايلاند من الأخبار الصادقة.
وكذلك معرفتك بأنه كان هناك شخص يسمّى نابليون بونابارت أنت متأكد من وجوده وأنه كان قائدا لفرنسا على الرغم من أنك لم تره بعينك ولا يجزم عقلك بأنه (لابد أن يكون موجودا) ، بل وصلت إلى ذلك بإخبار الناس الذين رأوه لأبنائهم ومعارفهم، ثم إخبار هؤلاء لأبنائهم ومعارفهم، وهكذا.
والعقل هو السبيل الثالث للمعرفة. فالعقل هو قوة للنفس الإنسانية بها تستعد للعلوم والادراكات ، أي تتمكن من العلم و الادراك.
لماذا ذكرنا هذه الأسباب الثلاثة للمعرفة؟
نقول: السبب الموصل للمعرفة إن كان من خارج الإنسان فهذا هو الخبر الصادق
وإن كان من الإنسان نفسه عن طريق آلة فهذا هو العلم الحاصل بالحواس الخمس
وإن كان من الإنسان نفسه من غير اعتماد على آلة فهذا هو الإدراك الحاصل بالعقل المحض.
فأي قضية معرفية: إذا التفتت نفس الإنسان إليها، وكانت آلات إدراكه سليمة، فإما أن يكون مجرد تصور أركانها كافيا في حكم العقل بأنها صحيحة. وما كان كذلك فهو ما يعرف: (بالبديهيات).
ومثاله معرفتنا أن: الكل أكبر من الجزء. فلو كان شيء ما متركِّبا من أجزاء، فإننا نعلم بالبداهة أن جزءه أصغر من كلِّه، لأن الكُل يحوي الجزء وزيادة. فهذا الحكم لا يحتاج إلى دليل أكثر من مجرد تصور المسألة. فمتى تصورها الإنسان حكم بإثباتها.
وكذلك استحالة اجتماع النقيضين ، كأن يستحيل أن يكون الشيء موجودا وغير موجود في نفس الوقت ونفس المكان ، فهذا مستحيل معلوم بالبداهة.
وإن لم يكن تصور أركان القضية المعرفية كافيا في إثباتها، فالعقل يحتاج إلى دليل أو سبب آخر ينضم إليه ويعينه في الحكم على هذه القضية
وذلك السبب: إما أن يكون من الحواس الخمس، ثم ينظر فيها العقل
أو يكون دليلا مركبا من الحواس والعقل معا: كالتجارب العلمية ( وسيأتي الكلام على التجريبيات في مقالة مفصلة )
أو يكون دليلا مركبا من السمع والعقل معا ، وهو: الأخبار، أي عن طريق سماع أخبار منقولة، ثم ينظر العقل في هذه الأخبار وهل هي صحيحة أم خاطئة. ( وسيأتي الكلام على الأخبار والنقل التاريخي في مقالة مفصلة كذلك)
وسنتناول في هذه المقالة الكلام عن: الحواس الخمس ، والعقل.
الحواس الخمس:
أما الحواس الخمس، فهي كما ذكرنا: قنوات اتصال الإنسان بالعالم الخارجي، يعطي كل منها للإنسان تقريرا مختلفا عن جانب من جوانب هذا العالم. فالبصر يعطيه تقريرا عن الأشكال والألوان والأحجام، والسمع يعطيه تقريرا عن الأصوات، والشم يعطيه تقريرا عن الروائح، والتذوق يعطيه تقريرا عن الطعوم، واللمس يعطيه تقريرا عن البرودة والسخونة، وعن الخشونة والنعومة.
لكن: هل هذه الحواس هي المدركة بنفسها؟
التحقيق أن سبب المعرفة أو العلم هو: العقل (أو النفس) لا غير، أما الحواس والأخبار فهي آلات وطرق في الإدراك.
فالإنسان مثلا يرى بعينه النملة صغيرة ويرى القمر صغيرا، ولكن حكمه بأن النملة في حقيقة الأمر صغيرة، وأن القمر في حقيقة الأمر كبير هو للعقل. فليس البصر إلا آلة للرؤية، والعقل هو الذي يكمِّلُ حكمه.
والإنسان كذلك يرى الشيء أحمر، ولكن إدراكه بأن هذا الشيء في نفس الأمر ليس بالضرورة أحمر، وأنه ربما يكون مصابا بعمى ألوان، أو أن رؤيته للشيء على اللون الأحمر راجع إلى انعكاس الأشعة عليه بشكل معين، أو غير ذلك من الاحتمالات هو من عمل العقل.
ونفس الكلام يقال في باقي الحواس.
فالتذوق يدرك أني أشعر بعذوبة أو مرارة هذا الماء مثلا.
أما الحكم على كون الماء مُرَّا في نفس الأمر كما ذقته، أو أنه عذب وأني إنما شعرت بالمرارة لمرض في فمي إنما هو بسبب العقل.
فسبب المعرفة أو العلم هو العقل، والحواس آلات للإدراك.
وكذلك بالنظر في ما نشعر به من جوع وعطش وأحاسيس وجدانية ، فالعقل هو سبب علمنا بجوعنا وعطشنا، ويكون هذا بمجرد الالتفات إلى ذلك الشعور الذي نشعر به ، ثم بعد ذلك العقل يحكم على أن هل هذا الجوع بسبب خواء البطن ، أو بسبب أمر آخر كمرض؟
فحكم العقل هنا على ذلك الشعور بأمور كأي شيء هو ؟ وما سببه ؟ ليس هو نفس الشعور الذي نجده بوجداننا.
العقل: ماهو؟
ولنحاول أن نشرح قليلا هذه القوة المسماة بالعقل فنقول:
الإنسان عنده قوة يرى بها الأشياء وهي البصر. فإذا رأى الشيء تبقى صورة الشيء محفورة في ذاكرته ، فأنت ترى بعينيك الحصان، فإذا غاب عن عينيك فإنك قادر على استحضار صورته من ذاكرتك.
ثم إن الانسان يستطيع بعد هذا أن يقطِّع ويركب الصور المحفورة في ذهنه. فيركب مثلا صورة الحصان على جناحي الطائر فيتخيل حصانا بجناحين. فهذه صورة خيالية اخترعها الإنسان. وليس في وسع قوة الخيال هذه أن تخترع صورة بدون الاعتماد على ما في ذاكرة الإنسان من صور أولية، فلا يمكنها اختراع صورة لما لا يدركه الحس أبدا، بل ولا يمكنها اختراع صورة لـِمَا لم يدركه حس الإنسان المتخيل نفسه. فالمواد الأولية لقوة الخيال إنما هي ما شاهده الإنسان بحواسه، ثم يقوم الإنسان بالتصرف في هذه الصور بالتفريق والتأليف.
ونحن لا نعني بالعقل هذه القوى الختلفة، بل أن هناك قوة تدرك المعاني المجردة، وتنتزع من الأمور المعاني الكلية ، وهي: العقل.
فإن جميع أحكام الحس جزئية، بمعنى أنها لا يمكن أن توصلنا إلى قوانين ونظريات عامة؛ لأن الحس لا يفيد إلا أن هذه النار المعينة التي نلمسها بأدينا الآن حارة ، وأما الحكم بأن كل نار في الدنيا حارّة فهو حكم عقلي وصل إليه العقل، حيث قام بتعميم ما عرفه عن طريق الحس من الإحساسات الجزئية. فقد نظر في هذه الإحساسات الجزئية، وبحث عن علة وسبب لها، ثم حكم بوجود نفس الأثر – الحرارة – كلما وجد السبب أو العلة – النار.
فالعقل ينتزع المعاني ويجرِّدها من الإحساسات الجزئية.
فالعقل الذي نتكلم عنه هو:
القوة القادرة على إدراك معنى (اللون) من غير تخيل لون مخصوص في جسم مخصوص، وإدراك معنى (الحيوانية) مجردة من غير تخيل حيوان معين، وإدراك معنى (الجسمية) المجردة من غير تخيل جسم معين. فإذا أدرك الإنسان المعنى المجرد للحيوانية فإن نفسه لا تلتفت بالضرورة إلى حيوان دون حيوان، أو إلى كونه حيوانا عاقلا كالإنسان أو حيوانا غير عاقل، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين. وإذا فكر في معنى (اللونيّة) المجردة ، فإنه لا يلتفت إلى الأسود خصوصا أو الأبيض خصوصا. بل هو قادر على انتزاع (اللونية) كمعنى ، من غير قيد معين ، وبدون الالتفات إلى تشخص هذا المعنى ووجوده في جسم معين.
وهذا من عجيب خواص الإنسان وبديع أفعاله، فإنه إذا رأى فرساً واحدا استطاع بعقله أن ينتزع من ذلك الفرس معنى (الفرس المطلق) الذي يشترك فيه الصغير والكبير، والبعيد عنه في المكان والقريب، فيدرك (الفرسية) المجردة المطلقة ويعرف معناها، ويفرق بين هذا المعنى المجرد وبين غيره من المعاني ككبر حجم الفرس ، وطول ذيله، وما إلى ذلك ، مما يتصف الفرس ببعضها أو لا يتصف ، وذلك لأن القدر المخصوص، واللون المخصوص في الفرس ، ليس أمرا ذاتيا لمعنى ” الفرس ” المجرد، بل إنه أمر يعرض له في الوجود.
وليس هذا من باب التمييز الإحصائي للصفات (pattern recognition) الذي يوجد في نظم التعليم الصناعي
(Machine learning) كما فهمناه من المتخصصين في هذا المجال. فما يحصل في حالة التعليم الصناعي حتى الآن بحسب من رجعنا إليهم من أهل الاختصاص هو أن الحاسوب يقوم ببناء نموذج إحصائي للصفات المتكررة في الكلب مثلا، فإذا عرضت عليه آلاف الصور للكلب استطاع تحسين هذا النموذج بحيث يمكنه تحديد ما إذا كانت الصورة التي تعرضها عليه صورة كلب أم ليست صورة كلب بدقة كبيرة. وينقسم التعليم الصناعي إلى موجه (supervised) أو غير موجه (unsupervised)، وفي كلا الحالتين لا يمكن للحاسوب أن يدرك معنى الكلب المجرد، بل ولا يمكنه – إلى الآن – إذا أدخلت له صورة واحدة للكلب أن يميز غيرها، بل لابد من بناء هذا النموذج الإحصائي عن طريق آلاف من المدخلات حتى تتحسن دقته.
أما الإدراك العقلي الإنساني فإنه بخلاف ذلك. فإنه يدرك المعاني المجردة من مشاهدة جزئية واحدة. فإذا رأى كلبا واحدا، فإنه يدرك معنى الكلب مجردا من الصفات التي قد تتغير فيه، فإذا رأى عشرات الكلاب بعد هذه المشاهدة الواحدة استطاع أن يميزها. فالعقل الإنساني يدرك المعاني المجردة، وليس فقط الصفات المتشابهة.
فالعقل هو القوة القادرة على إدراك الكليات ، فترى الطفل الصغير يفرق بين الكرسي والأريكة (الكَنَبة) مع كونه لم ير كل كراسي العالم ، ولا كل أرائك العالم.
وأمر بسيط كهذا – معرفة الكرسي وتمييزه من غيره – هو مما ظلت تجري فيه المحاولات في الذكاء الصناعي كثيرا لنمكن الحاسوب مثلا من التفرقة بين الكراسي وغير الكراسي حال كون الكرسي الذي يعرض عليه ليس له نفس الأبعاد التي للكراسي التي عرضت عليه من قبل وسُجّلت في ذاكرته. فمثل هذا التفريق يفعله الانسان دون أن يشعر بفضل هذه القوة التي نسميها العقل.
وهنا لسائل أن يسأل: قد علمنا ما هو مقصودكم بالعقل.. ولكننا نسأل:
ما هي الأمور التي يستطيع أن يحكم بها العقل؟ وهل يمكن للعقل أن يحكم على أشياء لم يرها؟ وما هي أحكامه تلك؟
هذا هو ما سنتكلم فيه في المقالة القادمة بإذن الله تعالى.
فخلاصة ما نريد أن نقوله في هذا المقال أننا قبل أن نبحث في العقائد الدينية لابد أن نتفق على مصادر المعرفة. وأن أهم مصادر المعرفة التي يستند إليه الإنسان هي: الحواس الخمس، والخبر الصادق، والعقل. وأن المدرك في الحقيقة هو العقل مستعينا بالحس وبالخبر الصادق.