كيف تحكمت أمريكا والدول الغربية في جائزة نوبل للسلام
خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، ومع إعلان اسم (أسماء) الفائز بجائزة نوبل للسلام، يتجدد الجدل الدائر حول المعايير الحاكمة لمنح هذه الجائزة، ودرجة توظيفها السياسي، واستخدامها كورقة مساومة من جانب الغرب.
ورغم أن فوز الرئيس الكولومبي «خوان مانويل سانتوس» بها هذا العام، 2016، لم يخلق حالة من الاعتراض الدولي، لكنه أثار علامات استفهام عديدة، دعّمت جميعها مؤشرات تسييس هذه الجائزة.
أرقام وحقائق أولية حول جائزة نوبل للسلام
من خلال استعراض تاريخ جائرة نوبل على مدار 116 عامًا، يمكن استخلاص حزمة من الأرقام والحقائق، والتي لها تحمل دلالات تحليلية عدة:
1. جائزة نوبل للسلام هي إحدى جوائز نوبل الخمسة التي أوصى بها ألفرد نوبل، وتُمنح سنويًا في العاصمة النرويجية أوسلو في العاشر من ديسمبر من قبل لجنة مكونة من خمسة أفراد يختارهم البرلمان النرويجي، وقد تم منحها لأول مرة عام 1901.
2. على مدار 116 عامًا، هي عمر الجائزة، تم حجبها 19 عامًا، كان أطول فتراتها المتصلة، خمسة أعوام (1939 – 1943)، خلال الحرب العالمية الثانية.
3. على مدار تاريخها، وحتى عام 2016، تم منح الجائزة 130 مرة، كان بعضها مناصفة بين جهتين، أو شخصين، وأحيانًا ثلاثة.
4. حصدت المنظمات الدولية الجائزة حوالي 25 مرة.
5. حصدت الولايات المتحدة الجائزة حوالي 21 مرة، بنسبة 16% من إجمالي جوائز نوبل؛ لتصبح أكثر دولة في التاريخ حازت عليها. الأولى كانت من نصيب ثيودور روزفلت عام 1906، والأخيرة كانت لباراك أوباما عام 2009.
6. تربعت الدول الأوروبية على عرش الجائزة، حيث حازت عليها مجتمعة حوالي 48 مرة.
7. الدول الآسيوية حصدت الجائزة 15 مرة، وقد تم منح الجائزة لدولة آسيوية للمرة الأولى في التاريخ عام 1973، لدولة فيتنام مُمثلة في «لي دوك ثو»، وهو سياسي ومحارب فيتنامي، قاد بعثة بلاده لمفاوضة الولايات المتحدة في محادثات باريس للسلام، وتوصل معهم إلى وقف إطلاق النار وسحب القوات الأمريكية، وقد فاز بالجائزة مناصفة مع وزير الخارجية الأمريكي، حينئذ، هنري كيسنجر، ولكنه رفض تسلم الجائزة.
8. الدول الأفريقية حصدت 11 جائزة. كانت الأولى عام 1960، من نصيب السياسي الجنوب أفريقي «ألبرت جون لوتولى»؛ لعمله على إنهاء التفرقة العنصرية في بلاده، والأخيرة كانت من نصيب السياسي المصري “«محمد البرادعي»، أثناء ترأسه للوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ اعترافًا بجهوده لاحتواء انتشار الأسلحة النووية.
9. دول أمريكا اللاتينية والوسطى لم تحصل سوى على خمس جوائز، كان آخرها هذا العام، 2016، عندما تم منحها للرئيس الكولومبي «خوان مانويل سانتوس».
10. تم منح الاتحاد السوفييتي على مدار تاريخه الجائزة مرتين فقط؛ الأولى كانت عام 1975، ومُنحت للعالم النووي «أندريه ساخاروف» لدفاعه عن حقوق الإنسان وضحايا السياسة، وكان معارضًا لحكومة بلاده، وتم وضعه تحت الإقامة الإجبارية والمراقبة. الثانية كانت للرئيس الأخير للاتحاد السوفييتي «ميخائيل غورباتشوف»، عام 1990؛ وذلك لإنهائه للحرب الباردة. وبعد تفكيك الاتحاد السوفييتي، لم تُمنح روسيا الجائزة ولا مرة.
11. تم منح الجائزة مرة واحدة لدولة «ألمانيا النازية»، عام 1935، ممثلة في «كارل فون أوسيتزكي»، وهو صحفي وناشط سلام عارض تسلح ألمانيا السري خلال تلك الفترة، ونشر معلومات سرية تتعلق بذلك، وطالب هتلر بالديموقراطية والتعددية الحزبية. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تُمنح ألمانيا الجائزة إطلاقًا إلا مرة واحدة، عام 1971، وذلك للمستشار الألماني، حينئذ، «فيلي برانت»، والذي كان أبرز معارضي حكم النازي.
12. حصلت الصين على الجائزة مرتين؛ الأولى: كانت عام 1989، ومُنحت للدلاي لاما الرابع عشر «تينزن غياتسو»، الذي عارض الحكومة الصينية، وقاد حركة «التبت» للحصول على الاستقلال الذاتي. والثانية: كانت عام 2010، ومُنحت للناشط الحقوقي «ليو شياوبو»؛ لكفاحه من أجل حقوق الإنسان الأساسية في الصين، وهو ما اعتبرته الحكومة الصينية، حينئذ، خطأً فاحشًا يتعارض مع أهداف الجائزة.
13. مُنحت إيران الجائزة مرة واحدة فقط، عام 2003، مُمثلة في «شيرين عبادي»، المحامية والقاضية والمدافعة عن حقوق الإنسان في إيران، والمعارضة للنظام السياسي هناك. وقد انتقدت الحكومة الإيرانية حصول عبادي على الجائزة، واعتبرتها مؤامرة غربية، ووسيلة ضغط على النظام.
التوظيف السياسي لجائزة نوبل للسلام
تعرضت جائزة نوبل للسلام على مدار العقود السابق لسيل من الانتقادات؛ كونها جائزة مُسيَّسة بامتياز، تتحكم بها الولايات المتحدة، ودول أوروبا الغربية، ولا تُمنح إلا لخدمة أغراضهم ومصالحهم السياسية، وهو ما يجعل مفهوم السلام يأخذ أشكالًا وتعريفاتٍ مختلفة، وفقًا لرؤاهم السياسية، التي تتغير كل فترة مع تغير خريطة الصراعات والتوازنات، وقواعد اللعبة السياسية في العالم.
تحليل الأرقام والحقائق السابقة، يقودنا إلى مجموعة مؤشرات توضّح أبعاد التوظيف السياسي الغربي لهذه الجائزة:
1. حصلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية على 69 جائزة من إجمالي 130 جائزة؛ أي ما يزيد عن 50% منها. بينما حصدت الدول الأفريقية والآسيوية واللاتينية مجتمعة على 31 جائزة؛ أي أقل من عدد الجوائز التي حصدتها أوروبا فقط. رغم أن هذه القارات الثلاث تمتلك تاريخًا كفاحيًا طويلًا من أجل مناصرة قضايا السلام والاستقلال وحقوق الإنسان، ناهيك عن التفوق العددي لهم فيما يتعلق بعدد السكان.
2. لم تُمنح جائزة نوبل قط لثائرٍ ضد الاستعمار الأوروبي، وفي المقابل تم منحها لزعماء لعبوا أدوارًا دبلوماسية بعينها، ولبعض المؤسسات والمنظمات الحقوقية والدولية، وكذلك لشخصيات معارضة لأنظمة ناصبت العداء للولايات المتحدة والدول الغربية؛ وذلك بغرض تشويه الصورة الدولية لهذه الأنظمة، وإظهار عزلتها الدولية، وتشجيع غيرهم على مواجهتها؛ مثل الاتحاد السوفييتي أثناء فترة الحرب الباردة، والصين كلما تتجدد مواجهتها مع الغرب، وكذلك ألمانيا واليابان (بصورة نسبية) منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإيران مع صعود برنامجها النووي ومواجهتها السياسية مع الغرب وإسرائيل.
3. تجلت حالة التوظيف والانتقاء السياسي للجائزة عام 2000، حينما تم منح الزعيم الكوري الجنوبي «كيم داي جونك» لدوره في توطيد السلام مع كوريا الشمالية، دون أن تشاركه فيها شخصية كورية شمالية، وكذلك حين تم منح الجائزة لثلاثة قادة إسرائيليين؛ هم مناحم بيجن وإسحاق رابين وشيمون بيريز، رغم ما ارتكبوه من مذابح وجرائم ضد الإنسانية في حق الفلسطينيين، وذلك لمجرد الترويج لعمليتي السلام اللتين قادتهما الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط؛ كامب ديفيد وأوسلو.
4. تم منح الجائزة لزعماء لم يسهموا في واقع الأمر في حل أية منازعات حول العالم، وتجلى ذلك عام 2009، حينما حصل أوباما على الجائزة، قبل أن يحقق أي إنجاز على أرض الواقع. وكأنها مُنحت فقط من أجل نوايا وخطط السلام.
وعلى ذلك، يتضح أن الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية هي من تقوم بإدارة هذه الجائزة العالمية، وتوظيفها سياسيًا؛ لخدمة مفهومها الخاص للسلام، دون الاكتراث بالقضايا الإنسانية، والتحرر الوطني، وحقوق الإنسان، والتي إن اُستخدمت، فلا تكون سوى أداة عقاب ومساومة للأنظمة المارقة عن المعسكر الغربي.
نوبل للسلام 2016: الابتعاد عن الملفات الشائكة
يمكن القول إن عام 2016 كان استثنائيًا في تاريخ جائرة نوبل للسلام، حيث للمرة الأولى في التاريخ بلغ عدد المرشحين لهذه الجائرة 376 مرشحًا، بينهم 228 شخصًا، و148 مؤسسة، متجاوزًا بذلك الرقم القياسي الذي تحقق عام 2014، وهو 100 مرشح.
ومن خلال استعراض أبرز مرشحي هذا العام، يبدو أن المنافسة كانت على أشدها، بينما كان النتيجة غير متوقعة على الإطلاق.
جاءت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على رأس المرشحين؛ بسبب قرارها باستضافة نحو 800 ألف لاجئ على الأقل في ألمانيا، وكذلك ترشح عناصر «الدفاع المدني السوري» المعروفين باسم «الخوذات البيضاء»؛ لما قاموا به من دور إنساني جليل في إسعاف وإنقاذ آلاف الأشخاص في سوريا جراء قصف النظام لهم.
وضمت القائمة أيضًا بابا الفاتيكان فرانسيس، بعد نجاح وساطته في إعادة العلاقات بين كوبا والولايات المتحدة الأمريكية. بجانب المفاوضين في اتفاق السلام حول الملف النووي الإيراني، أرنست مونيز، وعلي أكبر صالحي.
بالإضافة إلى سكان الجزر اليونانية الذين قدموا يد المساعدة لآلاف المهاجرين المتدفقين على الحدود الأوروبية، وكذلك الإيزيدية الناجية من تنظيم داعش، «نادية مراد». والكاهن الكاثوليكي الإريتري «موسى زراي»، الذي ساعد الآلاف من اللاجئين الإثيوبيين. والطبيب الكونغولي «دينيس مكويغي»، بسبب الخدمات الطبية التي قدمها لضحايا العنف الجنسي في بلاده.
كما ترشح الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، والأمريكي «إدوارد سنودن» الذي كشف برامج المراقبة الإلكترونية التي تطبقها وكالة الأمن القومي، و«دونالد ترامب» المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية.
بينما ذهبت الجائزة إلى الرئيس الكولومبي، «خوان مانويل سانتوس»؛ لتوقيعه اتفاق السلام مع متمردي «فارك» بعد أعوام من التفاوض، وبعد صراع تسبب في مقتل 260 ألف شخص، وتشريد أكثر من ستة ملايين آخرين.
ورغم رفض الكولومبيين لهذا الاتفاق بهامش ضئيل في استفتاء عام تم إجراؤه، إلا أن رئيسة اللجنة المانحة للجائزة، ذكرت أن الجائزة مُنحت لسانتوس بسبب جهوده الحثيثة لإنهاء الحرب الأهلية الدائرة في بلاده منذ أكثر من 50 عامًا.
وبالطبع لم تخلُ الجائزة هذا العام من ملامح التوظيف السياسي، وإن كان توظيفًا سياسيًا سلبيًا، يحافظ على توازنات القوى، ولا يقترب من المناطق والقضايا الساخنة.
فرغم الحديث الذي كان دائرًا عن حظوظ ميركل الكبيرة في نيل الجائزة، لكن يبدو أن عدم رضا عدد كبير من دول أوروبا عن سياستها الاستيعابية للاجئين قد حال دون ذلك؛ لأن نيل ميركل الجائزة كان سيبدو دعمًا واضحًا لسياستها المرفوضة أوروبيًا، وهو ما يقوّض بالفعل أسطورة أن القضايا الإنسانية غالبًا ما تظفر بهذه الجائزة.
أما مفاوضي اتفاق الملف النووي الإيراني، فقد ابتعدوا عن الجائزة نتيجة المواجهة الأمريكية الغربية الدائرة حاليًا في سوريا ضد إيران، حيث إن منح الجائزة لإيران (مناصفة مع الولايات المتحدة) كان ليحمل دلالات كبيرة حول رضاء الغرب تجاه سياساتها، وهو أمر غير متوافر حاليًا.
أمّا منح الجائزة لذوي «الخوذات البيضاء» كان ليُعد انحيازًا عالميًا ضد نظام الأسد وكذلك روسيا وإيران، وهو ما لا ترغب به الولايات المتحدة والمجتمع الغربي؛ مراعاةً لتوازن القوى الدائر حاليًا في الملف السوري.
لذا، كان الابتعاد عن هذه الملفات الشائكة هو الحل الأمثل هذا العام، من خلال منحها لبقعة لا يهتم المجتمع الدولي حاليًا بما يجري بها، ولا يتنازع حول قضاياها.
ملاحظة أخيرة: قد تكون ساخرة، لكنها تحمل دلالة عميقة حول جائزة نوبل بوجه عام. صاحب هذه الملاحظة هو جابرييل جارثيا ماركيث، الأديب الكولومبي، والحاصل على جائرة نوبل في الأدب عام 1982، حيث ذكر أن جائزة نوبل للأدب لا تُمنح للشخص إلا على أعتاب الموت، وأحصى عددًا من الأدباء الذين حصلوا على الجائزة، وفارقوا الحياة بعدها بسنوات، أو أشهر قليلة. وفي السياق ذاته، عندما سأل أحد الصحفيين بول سارتر الفيلسوف الفرنسي الذي رفض الجائزة عام 1964، عما إذا كان نادمًا على رفضه الجائزة، أجاب سارتر: «على العكس تمامًا، فقد أنقذ ذلك حياتي».
رغم سخرية الملاحظة الفائتة، إلا أنها تشير إلى أن تلك الجائزة (السلام) لم تُبتدع للأحياء، بل لتجميل صورة الموت والدمار ومآسي العالم، وترميم ما تبقى من حياة البشر، ولتحتفظ بصورة العالم كما أرادته الولايات المتحدة والمجتمع الغربي.