«الأمير» و«سياست نامة»: كيف يرى مكيافيلي والطوسي دور الحاكم؟
رجلان أحدهما في أصفهان، والآخر في سانت أندريا، بفارق زمني 500 عام، لكن لهما نفس الهدف، كتابة دليل يستند إليه الحاكم في تدبير شئون مملكته، كلٌّ حسب مرجعيته وأهدافه، ينصح الحاكم بما يجب أن يكون عليه، وما يجب أن يفعله.
«نظام الملك الطوسي» الذي كتب «سياست نامة» أو «سير الملوك»، و«نيقولو مكيافيلي» وكتابه الشهير «الأمير»: ما مدى اختلافهما؟ وما مدى اتفاقهما؟ وكيف يرى كلٌّ منهما دور الحاكم؟
الطوسي ومكيافيلي
نظام الملك الطوسي، المولود عام 480 هجريًّا في مدينة طوس الخراسانية (تقع في إيران حاليًّا)، هو الوزير الأشهر في الدولة السلجوقية، حيث كان وزيرًا في عهد السلطان «ألب أرسلان»، وابنه السلطان ملك شاه.
كتب الطوسي كتابه هذا بناءً على طلب السلطان ملك شاه، الذي طلب من علماء وحكماء دولته عمل دستور للحكم يتضمن مواطن القصور في الممالك وسير الملوك، ليجعل هذا الدستور مرجعًا له في الحكم، واختار السلطان كتاب الطوسي من بين الكتب المقدمة له.
أما نيقولا مكيافيلي، فقد وُلد في فلورنسا عام 1496 ميلاديًّا، وهو سياسي ودبلوماسي إيطالي، أهدى كتابه «الأمير» إلى «لورنزو دي مديشي» أمير فلورنسا، أملًا في أن يكون الكتاب دليلًا للأمير في توحيد إيطاليا، وطمعًا في أن يعود مكيافيلي لفلورنسا وللعمل السياسي بعد نفيه.
سياق الكتابين
عند مقارنة الكتابين لا يمكن إغفال السياق الذي جاء بكل منهما، فكتاب «سياست نامة» هو نتاج دولة قوية، يُخاطب كاتبه السلطان بـ «سيد العالم»، وكانت الدولة السلجوقية آنذاك تشمل إيران وأفغانستان والشام وتتوسع في الأناضول، وكانت تدعم الدولة العباسية وتأخذ شرعيتها منها، وبرغم ذلك كانت تواجه تهديدات الحشاشين والحروب الصليبية.
أما كتاب «الأمير» فهو نتاج دولة مُفكَّكة معرضة للسطو والنهب، يتصارع أمراؤها على الممالك لتوسيع نفوذهم، فيقول مكيافيلي عن الوضع آنذاك:
ويمكن بذلك تفسير ميل مكيافيلي للحديث عن الحرب وضمان ولاء الجنود والسيطرة على البلاد، بينما لا تأخذ تلك الأفكار الحيز نفسه من كتاب «سياست نامة»، الذي يركز على دور السلطان نحو رعيته، وإرساء النظم للحفاظ على تماسك الدولة، دون إغفال الحديث عن الباطنية كأكبر تهديد للدولة.
استند كلا الكتابين على سير ملوك سابقين، كلٌّ بما يناسب فكرته، فاعتمد مكيافيلي على سير الحروب وقصص الانتصارات، واعتمد الطوسي على قصص ملوك اشتهروا بالعدل والحكمة في التعامل مع الرعية وتدبير شئون الحكم.
ورغم اختلاف الظروف فإنه يمكن بالمقارنة الوقوف على المبادئ التي تحكم السياسة الشرقية مقابل السياسة الغربية، ومعرفة رؤية كل من الطوسي ومكيافيلي لما يجب أن يكون عليه الحاكم.
تعليم الحاكم وصفاته
يختلف الرجلان حول أولويات الحاكم في التعليم، وهو اختلاف يمكن تفسيره باختلاف موقع كل من السلطان والأمير، والظروف المحيطة بهما، لكنه أيضًا يُفسِّر أولويات الرجلين، فالطوسي ينصح بضرورة عقد مجالس علم يحضرها السلطان أسبوعيًّا، يحضر فيها علماء الفقه والحديث والسيرة، ويتناظرون أمامه فيما اختلفوا فيه، لكي يعرف السلطان أحكام الشريعة، وبذلك تستقيم دنياه وآخرته بالحكم العادل.
أما مكيافيلي فينصح الأمير بفنون الحرب والقتال، فلا حاجة له بأي فن آخر للبقاء في سلطته، حتى عند ذكره لقراءة التاريخ، فالتاريخ عند مكيافيلي هو قصص ظفر الأمراء واستيلائهم على السلطة، وعند الطوسي هو قصص الأنبياء والصالحين من الناس أو الملوك.
عند ذكر الصفات التي يجب أن يمتلكها الحاكم، لا يرى مكيافيلي فضائل ورذائل، بل يرى ما يجلب النفع للأمير وما يضره، فبعض الفضائل – حسب قوله – مُهلِكة، وبعض الرذائل تجلب الأمان والسعادة. فلا يهم ما يتصف به الأمير فعليًّا، بل المهم ما يراه الشعب ويجلب رضاه، والأهم هو ما يضمن استمرار الأمير في الحكم.
أما الطوسي، فمرجعيته إسلامية في الأخلاق والفضائل، فعلى السلطان أن يتبع النهج النبوي في التوسط في كل شيء، وأن يطيع الأوامر الإلهية، ويُطبِّق أحكام الشرع، لتكون المقياس الوحيد لأفعاله.
نقطة اختلاف أخرى هي التملك وكنز الأموال، حيث يرى مكيافيلي أن حب التملك طبيعة بشرية، ولا عيب أن يسعى الأمير إلى تملك المزيد من الأشياء، سواء كانت أراضي أو أموالًا، بينما يلوم الطوسي تشجيع رجال بارزين في البلاط على مبدأ مماثل لكنز الأموال، ويذكر من القصص ما يؤكد حق الرعية في المال، وأن أخذهم لحقهم هو من ضمان العدل وبالتالي استمرار الملك.
أصدقاء الحاكم
لا يختلف الاثنان على ضرورة اختيار الحاكم لمنْ يصادقونه، ومنْ يقضي معهم وقته، فمكيافيلي يُقيِّم الحاكم بمن يحيطونه من رجال، وتقييم كفاءة هؤلاء الرجال من الأمناء والوزراء هو اهتمامهم بمصلحة الأمير قبل مصلحتهم، وينصح مكيافيلي الأمير باتخاذ رأي الحكماء ومنحهم الحرية في قول الحقائق، حتى يمكنه اتخاذ القرارات بعد ذلك.
لكن الأمر عند الطوسي أكثر صرامةً، فاختيار الحاشية من الحكماء أمر مفروغ منه، ولكنه يرى ضرورة أن يأخذ السلطان لنفسه أصدقاء، ليس لهم مهام رسمية في الدولة، لكن عندهم من العلم والحكمة وحسن الخلق ما يسمح لهم بمجالسة السلطان ومحاورته بدون التدخل في شئون الدولة، فتلك متروكة لأهل الرأي والخبرة.
التعامل مع الشعب
الشعب في تعريف مكيافيلي هو ملاذ الأمير، وعلى الأمير ضمان رضا الشعب بالطريقة التي تتلاءم مع ظروفه، وعليه أن يتجنب ما يُغضِبهم، وأن يُوفِّر لهم الأمان اللازم ليمارسوا عملهم أيًّا كان، ويقع على عاتق الأمير الاهتمام بالمبدعين من شعبه وتكريمهم.
ويتفق الطوسي مع مكيافيلي في دور الحاكم تجاه شعبه، خصوصًا الاهتمام بالماهرين في أي مجال وأصحاب الخبرات. ويزيد الطوسي، فيُوصي السلطان بتخصيص يومين في الأسبوع لرد المظالم، وأورد في أكثر من موضع من كتابه قصصًا تفيد بحرص الملوك على رد المظالم حتى لو قام بها الولاة، بل سعيهم للوقوف على طلبات الرعية والاستماع إلى مظالمهم.
الجيش والحرب
يُشدِّد مكيافيلي على ضرورة استخدام جيش وطني من جنس واحد لضمان ولائه للأمير، ويُحذِّر من القوات المرتزقة وحتى القوات المعاونة، لأن ولاءهم إما للمال أو لأمراء آخرين. أما الطوسي فلم يكن بحاجة لأن ينصح «ملك شاه» بنصيحة مماثلة فهو يمتلك جيشًا قويًّا بالفعل، لكن النصيحة التي تُخالف مكيافيلي، هي تكوين جيش متعدد الجنسيات، وهو ما يتفق مع الدولة السلجوقية الواسعة التي ضمت الفرس والترك والتركمان. بل يحذر من أن تكوين الجيش من جنس واحد هو مدعاة للخراب والفساد، وحجته أن التنافس بين تلك الفرق يجعل كلًّا منهم ترغب في أن يكون أداؤها الأفضل، وألا تُلصَق تهمة التكاسل بها مقارنةً بالفرق الأخرى.
بالرغم من قول مكيافيلي إن حب الشعب أهم من قوة الجيش عند السيطرة على أي بلد لم تكن تحت سيطرة الأمير، فإنه يُفضِّل نموذج المستعمرات، ويُقر بوجود متضررين ممن أُخذت ممتلكاتهم، ونصيحته هي أن يحافظ الأمير على ضعف وفقر هؤلاء المتضررين، حتى لا يقدروا على التمرد ضده، وللناس عنده حلان: إما الاستمالة أو الإبادة، والحل الوحيد للمدن عند مكيافيلي هو الدمار، وإلا فستشكل خطرًا على الأمير.
وبينما يشجع مكيافيلي الأمير على التخلص من الأعداء بالإبادة، فإن الطوسي يشجع على أخذ السلم بعين الاعتبار في حالة الحرب، وأخذ الحرب بعين الاعتبار في حالة السلم، ودور السلطان عنده، الذي أكد عليه مرارًا، هو رفع المظالم لا فرضها.