كيف انتقلت الخلافات الفقهية إلى العقيدة والسياسة؟
الباحث في حوليات التاريخ الإسلامي سيلاحظ أن العديد من النقاط الجدلية الفقهية قد استطاعت أحيانًا أن تنتقل إلى ميادين السجال السياسي، تمهيداً لأن تتطور مع مرور الوقت لتصبح من السمات المميزة لبعض المذاهب أو الفرق.
هذا التطور الجدالي الثلاثي (الفقهي، والعقائدي، والسياسي) تواكب وتوافق مع تطور السياقات التاريخية والاجتماعية التي مر بها المسلمون، ومن ثم فقد أصبحت تلك التركيبة الجدلية المعقدة، ملمحاً مهماً من ملامح الهويات المذهبية والسياسية التي لا تزال قائمة حتى اللحظة الراهنة.
من أشهر النقاط الفقهية التي تطورت لتأخذ أبعاداً عقائدية وسياسية مسألة الاختلاف في صيغة الأذان، وحكم دفع الأخماس، والجهر بالبسملة عند قراءة الفاتحة، وإسبال اليدين في الصلاة.
في هذا المقال سنناقش مسألة الاختلاف في الوضوء والمسح على الخفين، لنرى كيف انتقل هذا الخلاف الفقهي السائغ من صفحات المصنفات الفقهية، وكيف جرى استخدامه في الصراع السياسي على السلطة في دولة الخلافة، إلى أن استقر في نهاية المطاف في متون الكتابات العقائدية والمذهبية السنية والشيعية الإمامية.
أصل الإشكال
يعود الخلاف الفقهي فيما يخص مسألة مسح/غسل الرجلين في الوضوء في المقام الأول إلى الالتباس الحاصل في فهم الآية السادسة من سورة المائدة، والتي ورد فيها:
علماء القراءات القرآنية انقسموا إلى فريقين عند قراءتهم لتلك الآية، الفريق الأول، ويضم نافع وابن عامر والكسائي وحفص، قرءوا الآية بنصب كلمة «وأرجلَكم»، وهو ما يعني أنها معطوفة على «وجوهكم» و«أيديكم»، ومن هنا فقد ذهب الكثير من الفقهاء والعلماء إلى أن حكم الرجلين في الوضوء هو الغسل، مثلها في ذلك مثل الوجوه والأيدي.
أما الفريق الثاني من علماء القراءات القرآنية، ومنهم ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وشعبة، فقد قرءوا كلمة «وأرجلِكم» بالخفض، أي أنهم قد كسروا حرف اللام فيها، في إشارة إلى أنها معطوفة على كلمة «برءوسكم»، فلما كان المعطوف يتوافق مع حركة المعطوف عليه فقد كان من الطبيعي أن تأخذ الرجلين هنا حكم المسح.
فيما يخص الجانب السني، فقد وقف جمهور علماء السنة في جانب الحكم بغسل الرجلين، واستندوا في موقفهم هذا إلى رواية مشهورة ومتواترة عن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وقد وردت تلك الرواية في صحيحي البخاري ومسلم، وتذكر تلك الرواية وضوء عثمان بشكل واضح، فتؤكد غسله لرجليه.
على الجانب المقابل، فإن فقهاء وعلماء الشيعة الإمامية الاثناعشرية، قد فهموا الآية وطبقوها بحسب ما ورد عن أئمتهم، فعلى سبيل المثال، يحكي النسائي المتوفي 303هـ في كتابه السنن الكبرى، أن علي بن أبي طالب قد توضأ ذات مرة «فمسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه»، وأخبر من حوله أن هذا هو وضوء رسول الله، فيما نقل الكليني المتوفي 329هـ، في كتابه «الكافي» أن الإمام الشيعي الخامس محمد الباقر لما سُئل عن وضوء رسول الله فقد قام بمسح رجليه ولم يغسلهما.
من الأمور الجدلية المرتبطة بمسألة غسل/ مسح الرجلين في الوضوء مسألة الأمر بالمسح على الخفين، ففي حين يقرها أهل السنة والجماعة لما تواتر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من الموافقة عليها ودعوة المسلمين إليها، فإن الرأي الشيعي التقليدي يذهب إلى أن الأمر بالمسح على الخفين كان معروفاً في بدايات الإسلام إلى أن تم نسخه بأحكام الوضوء الواردة في سورة المائدة، ويستدلون على ذلك بما أورده محمد بن الحسن الطوسي المتوفي 460هـ، في كتابه «تهذيب الأحكام»، من أن عمر بن الخطاب لما جمع أصحاب الرسول وسألهم عن حكم المسح على الخفين، وقام المغيرة بن شعبة وقال: «رأيت الرسول يمسح على الخفين»، فإن علي بن أبي طالب قد رد عليه قائلاً: «قبل المائدة أم بعدها؟ سبق الكتاب الخفين، إنما أُنزلت المائدة قبل أن يُقبض – أي الرسول – بشهرين أو ثلاثة»، وفي هذا دليل على رفض المسح على الخفين، سواء كان ذلك في سفر أو حضر.
من الأمور المهمة التي يجب ملاحظتها في سياق ذلك الجدال الفقهي أنه لم يخرج في زمنه المبكر عن أُطره الفقهية، ولم يتماهَ أو يتداخل مع العقائد أو المذاهب السائدة، ومما يشهد على ذلك ما تواتر عن جماعة من علماء السنة وفقهائهم بالقول بالمسح على الرجلين في الوضوء، فلم يمنعهم انتماؤهم السني من القول بذلك الرأي، ومنهم على سبيل المثال كل من عبد الله بن العباس، وأنس بن مالك، وعروة بن الزبير، وعكرمة، والشعبي، وابن جرير الطبري.
استخدام الخلاف في الصراع السياسي
إذا كان الخلاف حول الوضوء قد بدأ في أول أمره داخل حيز الجدال الفقهي، فإنه سرعان ما انتقل بعد ذلك إلى المجال السياسي، وذلك تزامناً مع تأسيس الأحزاب السياسية في الساحة الإسلامية، وظهور الإشكاليات المتعلقة بمسألة شرعية السلطة والإمامة.
بحسب ما يذكر المرجع الشيعي المعاصر جعفر السبحاني في كتابه «الوضوء في ضوء الكتاب والسنة»، فإن الخلاف في مسألة الوضوء قد بدأ منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكان المسلمون من قبله متفقين على تلك المسألة.
وبحسب وجهة النظر الشيعية التقليدية، فإن تغيير عثمان لأحكام الوضوء قد وقع في سياق نية الخليفة الثالث «تشكيل اتجاه في الإسلام له معالم خاصة به، فتراه يجتهد قبال النص مع علمه بأن رسول الله قد فعل بخلاف فعله»، وذلك بحسب ما يذكر السيد علي الشهرستاتي في كتابه وضوء النبي.
هذا التوجه السياسي، الرافض لسياسات الخليفة الثالث واجتهاداته الفقهية، سرعان ما سيظهر في أقوال أئمة الشيعة، الذين قادوا حركة المعارضة السياسية ضد خلفاء بني أمية وبني العباس.
على سبيل المثال، يذكر الحر العاملي في كتابه «وسائل الشيعة» أن الإمام السادس جعفر الصادق قد نهى أتباعه وشيعته عن المسح على الخفين، ولم يكتفِ بذلك، إذ ربط نهيه بالجانب السياسي بقوله: «لا تمسح، ولا تصلِّ خلف من يمسح»، ومن المعروف أن الإمامة في الصلاة كانت تحمل معنًى سياسياً مبطناً في ذلك الوقت، إذ كان النهي عن الانقياد للصلاة وراء من يمسح خفيه فيه ما فيه من إشارة للنهي عن الخضوع السياسي للخليفة وصاحب السلطان.
على الجانب المقابل، تجدر ملاحظة الكثير من الروايات التي أكدت أن الخلافة السنية، سواء كانت أموية أو عباسية، كانت قد شددت على هيئة الوضوء السنية، وبالغت في ذلك حتى عاقبت من يخالفها ولاحقته.
من تلك الروايات ما يذكره ابن كثير في «تفسير القرآن» عندما ذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي قد خطب الناس إبان فترة ولايته على العراق، فشدد عليهم في مسألة غسل الرجلين عند الوضوء.
أيضاً، يذكر أحمد بن حنبل في مسنده خبر الصحابي أبي مالك الأشعري، الذي جمع مجموعة من أقربائه في أخريات حياته، فقال لهم: «اجتمعوا أصلي بكم صلاة رسول الله»، فلما اجتمعوا تأكد من عدم وجود غريب بينهم، ثم توضأ ومسح على رجليه، وهو ما يؤكد أن السلطة الأموية كانت تعمل على استهداف المخالفين في طريقة وهيئة الوضوء.
ومما يقوي من الاعتقاد بوقوع التماهي الفقهي – السياسي في مسألة الوضوء، أن الإباضية، وهم من أهم أحزاب المعارضة السياسية في تلك الفترة، قد اتفقوا مع الشيعة الإمامية في مسألة رفض المسح على الخفين، إذ ينقل الربيع بن حبيب الفراهيدي في كتابه «الجامع الصحيح»، عن جابر بن زيد، وهو الأب المؤسس للمذهب الإباضي، قوله: «كيف يمسح الرجل على خفيه والله تعالى يخاطبنا في كتابه بنفس الوضوء، والله أعلم بما يرويه مخالفونا في أحاديثهم».
كل ذلك يدفعنا للقول بأن تلك المسألة الخلافية الهامشية قد تحولت إلى ما يشبه الشعيرة السياسية، إن صح التعبير، فمن جهة رفضتها أحزاب المعارضة، الشيعة والخوارج، بشكل كامل، ومن جهة أخرى، أكدتها السلطة السياسية السنية، وعاقبت لمخالفتها.
مما يدعم ذلك الرأي أن الكتابات التاريخية تحدثنا أن العباسيين قد تعقبوا الشيعة الإمامية من خلال طقوسهم التعبدية، وذلك لكون الشيعة يميلون في أغلب الوقت لإخفاء عقيدتهم خوفاً من اضطهاد السلطة لهم.
على سبيل المثال، يذكر الشيخ المفيد في كتابه «الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد»، أن الخليفة العباسي هارون الرشيد كان يشك في انتماء علي بن يقطين – وكان من كبار رجال بلاطه – إلى المذهب الشيعي الإمامي، ولما أراد الرشيد أن يتأكد من حقيقة شكوكه فإن بعضاً من مساعديه قد نصحوه بأن يراقب ابن يقطين في حال وضوئه ليعرف إذا كان يمسح على رجليه أم يغسلهما، وتُستكمل الرواية فيما بعد بأن الإمام السابع موسى الكاظم قد أرسل إلى علي بن يقطين ليخبره بأن يتوضأ بالطريقة المعروفة عند السنة، وبذلك تخلص من ملاحقة الرشيد.
وإذا ما نحينا الصيغة الإعجازية الخوارقية المنسوبة للإمام الكاظم في تلك الرواية جانباً، فإننا سوف نتأكد من مركزية طقوس الوضوء في الممارسات السياسية في تلك الفترة، إذ كان الاختلاف في تأديتها، لا يشير فقط إلى الخلاف الفقهي، بل يؤكد أيضاً الصراع السياسي العنيف الذي كان يدور بين السلطة ومعارضيها.
عندما استقر الخلاف في المتون العقائدية
رغم أن الخلاف العميق بين السنة والشيعة الإمامية حول الاختلاف في الوضوء والمسح على الخفين كان قد أخذ صبغة سياسية بسبب التنافس والصراع حول السلطة، فإنه – ومع مرور الوقت – قد أثر بشكل قوي وفعال في العقل الجمعي المذهبي السني والشيعي، كما دخل في صلب البنية العقائدية عند الفريقين، فصار رأي كل من المذهبين فيه بمثابة مُحدد مهم من محددات الإيمان.
فيما يخص الجانب السني نستطيع أن نتلمس الآثار العقائدية المنبثقة عن ذلك الخلاف الفقهي – السياسي، في مجموعة من أهم المتون العقائدية المعتبرة عند أهل السنة والجماعة، ففي متن العقيدة الطحاوية، لصاحبها أبي جعفر الطحاوي الحنفي المتوفى 321هـ، ورد القول: «ونرى المسح على الخفين، في السفر والحضر، كما جاء في الأثر»، وهو ما فسره ابن أبي العز الدمشقي المتوفى 793هـ، في شرحه للعقيدة الطحاوية بقوله: «تواترت السنة عن رسول الله بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة …».
أما نجم الدين النسفي المتوفى 537هـ، صاحب متن العقائد النسفية، فقد نص في عقيدته على «ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر»، ويفسر سعد الدين التفتازاني المتوفى 791هـ هذا القول «لأنه وإن كان زيادة على الكتاب لكنه ثابت بالخبر المشهور»، ويبرز بعدها قول الكرخي: «إني أخاف الكفر على من لا يرى مسح الخفين، لأن الآثار التي جاءت فيه في حيز التواتر»، ويعلق بعدها: «وبالجملة من لا يرى المسح على الخفين فهو من أهل البدعة».
على الجانب الآخر، فإن الكثير من الروايات المنسوبة لأئمة آل البيت قد شددت على ضرورة الالتزام بالهيئة الشيعية المعتمدة في الوضوء، وبالنهي عن المسح على الخفين، فقد رفض الإمام جعفر الصادق أن يعطي رخصة المريض بالمسح على الخفين، بحسب ما يذكر الكليني في الكافي، كما تواترت الروايات التي ترفض اللجوء إلى التقية فيما يخص صفة الوضوء والمسح تحديداً، ومنها على سبيل المثال، قول الصادق: «ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً: شرب المسكر، ومسح الخفين، ومتعة الحج».
من المهم هنا أن نلاحظ أن رأي كل من الفريقين في المسألة قد صار بمثابة الشعار أو الهوية المائزة له، ومما يشهد على ذلك الرد المنسوب لأنس بن مالك عندما سُئل عن أهل السنة والجماعة، فقال: «أن تحب الشيخين، ولا تطعن في الختنين، وتمسح على الخفين»، ويقابله قول علي بن أبي طالب، حسب ما ورد في كتاب «من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق: «إنا أهل بيت لا نمسح على الخفين، فمن كان من شيعتنا فليقتدِ بنا، وليستن بسنتنا».
يمكن القول إذن إن ذلك الخلاف الهامشي البسيط الذي بدأ في أول أمره، على كونه خلافاً فقهياً، قد جرى استخدامه من قبل الأحزاب المتصارعة والمتنافسة على السلطة، حتى إذا ما ظهرت المذاهب السنية والشيعية بصياغتها النهائية في فترة متأخرة، فإن متونها العقائدية قد التمست في ذلك الخلاف تعبيراً وتوضيحاً لهويتها المتفردة، فصار المسح على الخفين وغسل الرجلين دليلاً على الانتماء لأهل السنة والجماعة، بينما كان في مسح القدمين إظهاراً للهوية الشيعية التي تقوم على اتباع خطى أئمة آل البيت.