ما ترتديه يُعد إجابة لسؤال: كيف تُقدم شخصيتك وذاتك للعالم؟ الأزياء لغة فورية للتواصل.
ميوشيا برادا

قبل بدء الموسم الرمضاني 2023 تلقى مُسلسل «تحت الوصاية» انتقادات لاذعة، بعد ظهور البطلة «منى زكي» على بوستر الدعاية، بوجه مُنهك، لم تُنقذ نضارته مسحة من الزينة، حاجبين كثيفين لم ينالا عناية كافية، والأهم حجاب رأس يُحيط كل ذلك ليؤطر الشخصية في طبقة اجتماعية وانتماء ديني بعينه. اتُهم فريق العمل بقولبة المُحجبات في صورة دميمة مُنفرة وأقل أنوثة.

منى زكي من الدعاية الخاصة بمسلسل «تحت الوصاية»

بنهاية الموسم الرمضاني، صار «تحت الوصاية» فرس الرهان والمسلسل الأنجح وسط مُنافسيه، المفارقة أن ثُقل نجاحه يعود بالأساس للنقطة ذاتها وهي الأزياء والمكياج.

تتحول بطلة «تحت الوصاية» بعد موت زوجها إلى أرملة لم تعد تحيا في ظل رجل بل قُذفت للشمس وعليها القتال وحدها في ظروف مُصممة قانونيًا ومُجتمعيًا لإفشالها في إعالة طفليها.

ترتدي الأرملة ثيابًا أكثر عملية تُناسب مهنة الصيد التي ورثتها عن زوجها، ترتدي كذلك ألوانًا قاتمة باهتة لتقوم بحراسة أنوثتها وطمس مفاتنها وسط عالم من الرجال الطامعين، وأخيرًا تُبرز ثيابها مسحة بالية، تقادم مُثير للشفقة يُعبر عن أحوال البطلة المادية وانعدام رفاهية شراء ثوب جديد أو شال صوفي لم تنحل عروته من فرط استخدامه.

منى زكي من مسلسل «تحت الوصاية»

يُمكنك التوصل لتلك الافتراضات في لحظات بمُجرد أن تتفحص مظهر البطلة وتُقارنه بمظهر الممثلات في العمل ذاته، تفرد حزين يُبرز خصوصية مأساتها وقسوة ما تُعانيه، تفرد لا يؤطره حوار أو زاوية كاميرا، فقط ثياب الممثل والطريقة التي تُقدم بها شخصيته لعين الرائي

يعود الفضل في ذلك لمصممة الأزياء «ريم العدل»، التي نجحت في أعمال سابقة مثل «سجن النسا» و«واحة الغروب»، في تحويل ممثلات جميلات يميزهن الجمهور العادي بأنوثتهن الفاتنة، إلى شخصيات مُخلصة للطبقة والحكاية التي تُمثلها.

من مسلسل «سجن النسا»

تقول ريم إن مُعلمتها في ذلك هي المُخرجة «كاملة أبو ذكري» التي أخبرتها أن الشخوص كافة، من لحم ودم، قادمين من سياق عالمهم لتستضيفهم حكاية درامية، لذلك علينا أن نُبرز تمظهرات هذا العالم الذين جاءوا منه كما هو عليه، وليس كما نتصوره بعين غريبة مُتطفلة مُثقلة بافتراضاتها المُسبقة.

لذلك قامت ريم بجولاتها في «دمياط» وسط عوالم الصيادين والبحارة، لتتشرب أزياء عالم «تحت الوصاية» وهو ما يظهر ليس فقط في ثياب البطلة إنما في تصميمها لأزياء البحارة حمدي وشنو وعيد، لا تخلص الأزياء فقط لعالمهم إنما تتنوع تبعًا لطباع كل شخصية لتبدو أكثر فوضى واهتراء لمُتعاطي المُخدرات منها للقائد والمساعد.

مصممة الأزياء «ريم العدل» مع أبطال مسلسل «تحت الوصاية»

نجح «تحت الوصاية» في عكس الهجوم الذي ناله قبل عرضه، لم تدور معركة الجمهور وصُناع العمل بالأساس حول الأزياء إنما حول الافتراضات المُسبقة التي يحملها الجمهور تجاه تمثيل طبقاته في الدراما، والافتراضات المُسبقة التي يحاول صناع العمل تلافيها في تمثيلهم تلك الطبقات. مما يبين أن الأزياء دومًا تحمل دلالات أكثر تعقيدًا من كونها كماليات للعمل الفني، يُحاول المقال تتبع كيف تُمثل الأزياء دومًا سطحًا لافتراضات أعمق بشأن الشخوص التي ترتديها؟ والعوالم التي تُقدمها حكاية بعينها؟ والعين التي تستقبلها في النهاية؟

الأزياء مدخل للشخصية 

أحيانًا لا يفك المُمثل شفرة دور ويمتلك مفاتيح أدائه بتمرين أو بدراسة، ربما يكون المفتاح مجرد قطعة ثياب، إضافة مكياج، بهذه البساطة تُقدم لك الشخصية على طبق من فضة.
ويليام دافو

يتذكر ويليام دافو بالعبارة السابقة دوره في فيلم wild at heart، الذي يؤدي فيه شخصية مُجرم مُختل، لم يمتلك دافو في البداية أي مفتاح ينفذ عبره لأعماق الشخصية، حتى دخل عليه المخرج «ديفيد لينش» بثياب الدور وأخبره أن يذهب لطبيب الأسنان ليشوه أسنانه الأمامية.

ويليام دافو في فيلم wild at heart

يقول دافو إن ثيابه وأسنانه المشوهة التي أجبرته على فتح فمه طوال الوقت مثل ذئب جائع يسيل لُعابه كانت المفتاح لفهم شخصيته المكتوبة، لم يحتج للتدريب أو للتمعن، كلما انفلت منه الدور يُجبره فمه المفتوح وأسنانه المشوهة على العودة للوحش الذي يتقمصه. وهو يشبه في ذلك مُعضلة شخصية «عبد الملك زرزور»، يصعب استحداث هيئة مرعبة لرجل في خريف عمره، لذلك قطعة تكميلية بسيطة مثل السواك مع استخدامها المفرط يتحول فيها البطل من عجوز مُنهك لأسد مهيب ينظف أنيابه بانتظام بعد التخلص من أعدائه في صورة وجبة دسمة.

محمود عبد العزيز من فيلم إبراهيم الأبيض

ينتمي «أنتوني هوبكنز» للمدرسة التمثيلية ذاتها التي يصفها بتقمص الشخصية من الخارج إلى الداخل وليس العكس، بينما يتعمق الممثل في سيكولوجية الدور ويحاول سبر أغواره، يبدأ أنتوني هوبكنز بالبحث عن الأزياء المناسبة التي تقدم له مفتاح الدخول لقلب الدور.

عندما أدى دور «هانيبال ليكتر»، أدرك هوبكنز من البداية أن المقدمة تُعد المشاهدين لآكل لحوم بشر معتوه، ترتجف «كلاريس» المحققة وهي تدلف إلى زنزانته ونرتجف معها، لكننا نُصاب بالدهشة ذاتها عندما نجد المظهر الذي اختاره هوبكنز بنفسه قطعة قطعة.

ثوب نزيل مُهندم، شعر مُصفف بعناية، نظافة شخصية تجعل البشرة لامعة، يقول هوبكنز إن الجميع يعرف جنون هانيبال لكن جوهر هانيبال هو قشرته المُتحضرة، التي تغري الحملان للاقتراب منه دون دراية أنهم يقتربون من ذئب يوشك على أكلهم، سيُحافظ هوبكنز على خط الأزياء ذاته وصولًا لمشهد الذروة عندما يفترس حراسه وهو يرتدي ثوب سجن شديد البياض.

أنطوني هوبكينز من Silence of lambs

 في بداية المشهد يبدو هوبكنز مثل ملاك، ثم ينتهي المشهد بثياب تكسوها حُمرة الدم بينما القاتل خاشع في حضرة موسيقى الأوبرا، هذا التناقض هو هانيبال، وهذا التعقيد الذي يكسو شخصيته توصل له هوبكنز بخفة عبر اللعب بتناقض الثياب والمظهر وحده مع الأفعال.

يتذكر الفنان الراحل «أحمد زكي» خلال تدريباته على شخصية البطل في زوجة رجل مهم جلساته المُطولة مع كاتب السيناريو «رؤوف توفيق»:

كنا نتناقش كيف كان هذا الضابط أثناء طفولته، هل كان يحب ارتداء بدلة الشرطي في الأعياد؟ هل كان يهدده أبواه باستدعاء الضابط مازحين أثناء لهوهما معه صغيرًا؟ وأثناء دراسته في الكلية هل كان يشعر بالسعادة أثناء خروجه في الإجازات بالبدلة الشرطية؟

يدرك أحمد زكي أن جوهر شخصية الضابط هي المظهر أو هالة القوة التي يمنحها منصبه والتي لا تتمظهر إلا من خلال الثياب الرسمية، نجد عُصارة ذلك التحليل حاضرة في المشهد الأخير عندما يأتي الأب لاصطحاب ابنته، يخسر الضابط منصبه وزوجته، تتفكك كينونته ويقرر قتل حماه ثم قتل نفسه لكنه قبل ذلك يتأنق! يرتدي حُلته المكوية بعناية، يتوقف لأكثر من دقيقة لعقد رباط حذائه، ثم يخرج من الغرفة في كامل أناقته مصوبًا مسدسه وخاتمًا مصيره. 

تبدو تفصيلة شاذة عن جو المشهد لكنها تتآلف كليًا مع سيكولوجية شخصية لا ترتدي ثيابها وحسب إنما في كل مرة ترتدي مع المظهر كينونة زائفة، هالة من القوة، كان لا بد من استحضارها مرة أخيرة، لأن الموت بالنسبة له مُهمة، مثل كل مهامه الرسمية، وليؤديها عليه أن يستدعي كينونة الضابط بالمظهر.

كثيرًا ما يكون الطريق لأداء عظيم لشخصية مُعقدة رهين اختيار الثياب المناسبة، قطعة الإكسسوار اللازمة، وترك المظهر وحده في تفاعله مع الأداء يمنح للشخصية بريقها. هكذا تمنح الأزياء للممثل أحيانًا ما لا يمنحه له النص المكتوب وعدسة الكاميرا

الأزياء مدخل للحكاية

لا يعتمد المخرج الشهير «كوينتن تارانتينو» في أفلامه على براعة السيناريو والإخراج وحدهما إنما يستخدم الأزياء نفسها ليُبرز عبرها فلسفة فيلمه بأكملها.

في reservoir dogs، يُقدم تارانتينو لعبة شك في سرد غير خطي حول عملية سرقة تتحول لجحيم لوجود مُخبر للشرطة لا يعرفه أحد، تتغذى لعبة الشك على أفراد العصابة حتى يتورطوا في قتل بعضهم، يؤطر تارانتينو هذا الإرباك منذ البداية بإظهار أفراد العصابة جميعهم بحُلة سوداء، اختيار اضطُر له لانعدام وجود ميزانية للأزياء لكنه دمجه ببراعة في فلسفة الفيلم، يتشاجر المجرمون حول ألقابهم، كل رجل يُسمى اسم لون والجميع لا يريد اللون الوردي، بينما يهمس لك تارانتينو أنك مهما حفظت أسماءهم سيظهرون جميعًا كرجل واحد، لتصير الحبكة أكثر صعوبة ومُتعة.

من فيلم reservoir dogs

بينما يقوم فيلم pulp fiction على فكرة تفاهة الشر وكيف يتحول أشرار مُرعبون للعبة في يد القدر وراوٍ يسرد بشكل متخبط فيجعل بطل الحكاية كومبارس في حكاية أخرى، تبدأ الحكاية برجلي اغتيالات hit men في طريقهما لإرهاب رجل تجرأ على الاقتراب من زوجة الزعيم وينتهي بالزعيم ذاته وقد تم إذلاله جنسيًا بينما البطلان يتعرضا للتوبيخ مثل أطفال على يد رجل كرتوني ينظف آثار جريمتهم.

 يختار تارانتينو لهذا المشهد أن يخلع الأبطال ثيابهم السوداء الأنيقة ويرتدون تي شيرت مراهقين طفوليًا. كأنهم يخلعون هالتهم الكاذبة ويبدو الشر على حقيقته في نظر تارانتينو، تافهًا، طفوليًا، يُمكن تسخير السينما بأكملها لإذلاله (يحضر تارانتينو في هذا المشهد تحديدًا بدور ثانوي ليُخبر رجال العصابات أنهم يبدون كثنائي من الحمقى بينما يخبرونه أنهم يرتدون ثيابه بالأساس) في إشارة كوميدية ظاهرة واشارة خفية لكونه رب العمل.

من كواليس فيلم Kill Bill

تظهر البطلة في kill bill وهي ترتدي بدلة القتال الصفراء التي اشتهر بها بروس لي، في فيلمه الأخير game of death الذي وضع فيها كل فلسفة قتاله بدمج فنون القتال الغربية والشرقية ولذلك اختار لها ثوبًا لا ينتمي لثقافة بعينها، فلسفة بروس لي أن فنون القتال عالمية لا تنتمي للشرق أو للغرب ومتى أجدتها جميعًا يُمكنك أن تهزم كل أعدائك.تنفذ البطلة الفلسفة ذاتها وتستخدم فنونها للتخلص من أعداء مختلفين، كل عدو يمتلك أسلوبه القتالي وصولًا لمعلمها السابق بيل.

البطل في django unchained في ثوب أزرق أرستقراطي مستوحى من اللوحة الشهيرة Blue Boy

يظهر البطل في django unchained في ثوب أزرق أرستقراطي مستوحى من اللوحة الشهيرة Blue Boy لتوماس غينسبورغ، التي تصور ابن تاجر ثري، يحول تارانتينو بطله من رجل مُقيد بقيود زمنه لمتمرد عليها، يصير العبد بطلًا، يتحدث أكثر من لغة، وبينما يقرر الأسياد مَن مِن العبيد يحيا ومن يموت، يمتلك البطل القدرة ذاتها ويرتدي ثوبًا أنيقًا ينتمي لطبقة لم يحلم أبدًا بالانتماء لها، وبالثوب ذاته يقوم بالقتل، لا يجعل الثوب جانغو مضحكًا إنما مُرعب لا لكونه قادرًا على القتل مثل حيوان، لأن العبيد في فيلمه يمكن تدريبهم على القتل كحيوانات إنما لكونه يرتدي ثياب الأسياد وهو يقتل، فهو لا يقتل تنفيذًا لأوامر إنما يقتل بإرادته الحرة ومتى أدرك العبد ذلك يرتعد الأسياد لكونه قادمًا لهم

براد بيت من فيلم once upon a time in hollywood

يرتدي كليف بوث في فيلمه الأخير once upon a time in hollywood تي شيرت هاواي خفيف مطبوع عليه كلمة champion أو بطل، قطعة ثياب اختارها تارانتينو بعناية وأصر عليها رغم عدم مُناسبتها للستينيات، الحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، ربما لأن قطعة ثياب بسيطة تعكس رسالة تارانتينو من الفيلم بأكمله وهي تقديم التحية لرجال المخاطرة وجيش العاملين في هوليوود خلف الكواليس في الظل.

في الفيلم يبدو كليف بوث أكثر مهارة في القتال من بروس لي ذاته، وأكثر ثباتًا من البطل الهوليوودي الذي يعمل لديه، ينقذه في النهاية ويوقف هجوم عصابة مانسون الشهيرة، يقدم تارانتينو فيلمًا يتحول فيه الدوبلير أو العنصر الثانوي في صناعة السينما للعنصر الرئيسي، يصير البطل الحقيقي للفيلم ولو لم يقل تارانتينو ذلك صراحة ستقوله العبارة المطبوعة على الثياب، champion.

تُجسد سينما تارانتينو كيف يُمكن للأزياء وحدها أن تتحول من إضافة تكميلية تقنع المتلقي أن العمل يدور في حقبة تاريخية بعينها، لبطل رئيسي يخدم الحبكة والسرد، تظهر عبره الشخصيات وتتحول عبره وربما يتم إذلالها عبره. في سينما تارانتينو تحكي الأزياء القصة تمامًا مثل نصوص السيناريو وعدسات الكاميرا. دون ضجيج ودون مباشرة.

عادل إمام، أو كيف تجعل الأزياء من الممثل أيقونة؟

يُشتهر الزعيم عادل إمام بكونه شديد الاهتمام باختيار الثياب اللازمة لأدواره، ويضرب المثل دومًا بالحادثة الشهيرة خلال إيصاله لأحد مساعديه بسيارته لمنطقة عابدين، عندما وجد فتى فقيرًا يلعب الكرة بثياب مُمزقة وبالية، يبدو عليها فعل الزمن وتراكم الشقاء والفقر. عندها أوقف سيارته وطلب من مساعده أن يعقد صفقة مع الفتى ليحصل على ملابسه بأي ثمن، لتكون هي الأزياء التي يظهر عبرها في فيلمه الشهير «الهلفوت». أدرك عادل إمام أن تلك الثياب أكثر أصالة ومدخل مثالي لأداء الدور بدلًا من شراء ثياب جديدة وإهلاكها بشكل مبتذل لتبدو قديمة.

عادل إمام من فيلم الهلفوت

لا يتمظهر هذا الاهتمام الشديد لدى عادل إمام بالثياب في صورة تكلف أو مُبالغة في التنوع فهو يدرك جيدًا أنه يمثل في أغلب أفلامه رجل الطبقة المتوسطة الأقرب للفقر، الذي يُكافح للبقاء، رجل لا يملك رفاهية تنويع ثيابه أو التماس الأناقة، رجل طيب القلب أقرب للون الأبيض لكن القدر دومًا يدفعه لمُغامرة مخيفة بلون الدم أو الأحمر، فيها يتحول إلى موظف بسيط لثائر سياسي يحتل مجمع التحرير. هذه المفاوضة بين الأبيض الذي يمثل معدن البطل والأحمر الذي يمثل دعوة مغامرة تقلب عالمه رأسًا على عقب جعلت عادل إمام يظهر دومًا بمزيج اللونين في أفلام مثل «الإرهاب والكباب» و«الانسان يعيش مرة واحدة». رجل طيب لكنه في ظروف بعينها يمكن أن يتحول للون الأحمر ويصير مصدر خطر على نفسه والسلطة.

عادل إمام من فيلم الإرهاب والكباب

لا يشترك الفقراء ومكافحو الطبقة الوسطى في هوس الأناقة الذي يعد رفاهية لا توفرها ظروفهم المادية، لكنهم يشتركون في سعة الأحلام التي تمثل دومًا بديلًا عن واقع ضيق، لذلك أحلامهم أكثر براحًا من غيرهم ممن كان واقعهم أكثر لطفًا ليقبلهم. الأحلام دومًا لونها أزرق، لون الليل والنوم بعد يوم عمل شاق.

عادل إمام من فيلم المنسي

مثل الأزرق الطاغي حضوره على الأزياء وعلى سينماتوغرافي فيلم المنسي كاملًا، الذي يدور حول رجل مستغرق في أحلامه حد أن حضور فتاة أرستقراطية من حفلة بعيدة لعالمه يُصبغ بصبغة الأحلام فتبدو مثل حورية سحرية قادمة ليكون فارسها في حكاية خيالية.

أدرك عادل إمام جيدًا أنه على تنوع أدواره واختلافها يُمثل تلك الطبقات المتوسطة والفقيرة، الفهلوية، التي تحتال على قسوة الواقع بالأحلام، وبينما سمح «المنسي» بقصته أن يؤطر الحكاية كاملها بعدسة زرقاء كان لا بد أن يتسرب لون الأحلام ذاك للأفلام الأخرى بصورة بديلة وهي الجينز

عادل إمام والبدلة الجينز الشهيرة

تأتي لفظة جينز من قماش الدنيم المصنوع من قطن مدينة «جنوا» الإيطالية، الذي نجح مهاجران في تحويله إلى مادة لصنع سراويل ومعاطف تتميز بقوة التحمل لظروف الجو والتآكل والاتساخ مع منحها مظهر حسن وأنيق، يجمع الجينز أكثر السمات تناقضًا، القدرة على التحمل وحسن المظهر مع تنوع للخامة بين الغالي والرخيص.

في حواره مع «محمد المنسي قنديل» يقول عادل إمام، إنه أول من أدخل الجينز للسينما لتتخلص ببطء من عبء أزياء السبعينيات الضيقة، يلتقط عادل إمام بذكاء قدر الإعجاز في قطعة ملابس قطنية فيقول:

الجينز به خامة غالية وأخرى رخيصة لذا كل الطبقات ترتديه، إلا أن الشخصيات التي قدمتها في أعمالي كلها عن البسطاء والمهمشين الذين أنحاز لهم والغرض النفسي من ارتداء الجينز عدم الشعور بالتعالي أو الفروق الطبقية عليهم.

عبر جاكيت وبنطلون جينز نجح عادل إمام في أفلام كثيرة بدءًا «من حتى لا يطير الدخان» و«جزيرة الشيطان» و«الغول» و«حنفي الأبهة» وصولًا لـ«التجربة الدانماركية». في أن يظهر منتميًا للطبقات التي اعتبرته بطلها، في ثوب يؤطر بطولتهم، يتحمل مغامراتهم، يُزيده التقطيع واللون الباهت جمالًا، كذلك ثوب لا يُفقد البطل جاذبيته وأناقته وهي معادلة قلما توجد في تمثيل الطبقات الفقيرة.

نجح عادل إمام في الوصول لزعامة السينما بشكل معنوي بين جماهيره عبر ارتداء قطعة ثياب يمكن أن يتماهى معها أفراد الطبقات كافة لأنها تقدم نفسها بألف خامة وصورة لكنها دومًا تصم صاحبها بسمات الأناقة والجلد والكفاءة، السمات التي لأجلها صُنع الجينز بالأساس.

لا يُمثل عادل إمام استثناء من قاعدة أن المظهر والزي قد يتحول أحيانًا من ضرورة سينمائية لظاهرة ثقافية وهو ما حدث في فيلم كابوريا الشهير عندما تحولت قصة شعر استلهمها خيري بشارة من الملاكم الشهير تايسون ليفاجأ بتحولها لرمز تمرد كل المراهقين والشباب الذين عايشوا الفيلم. 

ولكن ما يجعل عادل إمام مُميزًا هو التوظيف الواعي لقطعة ثياب لتناسب مسيرة سينمائية طويلة أراد صاحبها عبرها أن يُمثل طبقات مجتمعه لأطول فترة ممكنة بأكبر قدر متنوع من الأدوار، دون أن تشكل الثياب اغترابًا له عن دوره أو تكلف كاريكاتوري في تمثل الطبقات التي يُحبها.

كان عادل إمام واعيًا بذكاء للحمولة النفسية التي تثقل الأزياء، لكونها معركة افتراضات مسبقة وخفية بين متلقين يتوقون لأن يُمثلوا بصورة معينة وصناع سينما ودراما يتوقون لأن يظهروا شخوصهم مخلصين لحكايتهم وللعوالم التي أتوا منها، وتلك الصفقة دومًا التي تجعل الأزياء تروي الحكاية السينمائية بدلًا من أن تكون عنصرًا تكميليًا لها.