أمراض الإمبريالية: كيف نشر الاستعمار الأوبئة؟

تستدعي أزمة فيروس كورونا (كوفيد-19) الراهنة من الذاكرة التاريخية البشرية قصصًا وتجارب عديدة، عن التأثير المتبادل بين كل من الإمبريالية والأوبئة، حيث تروي لنا صفحات التاريخ في هذا الإطار الكثير من المواقف والأحداث عن دور القوى الدولية الكبرى، في توظيف الأمراض الوبائية في فرض الهيمنة.

أدت الظاهرة الاستعمارية إلى انتشار أنواع جديدة من الأوبئة والأمراض المتوطنة، نتيجة للأدوات الاقتصادية والقمعية للإمبريالية في آسيا وأفريقيا والأمريكتين، من خلال الغزو العسكري وتجارة العبيد، وعبر تفكيك الاستعمار للتركيب القبلي والاجتماعي ونظام الأسرة ونمط العادات والتقاليد والتغذية، التي كانت تشكل حائط صد قوي ضد انتشار الأوبئة والتحكم فيها بين الشعوب الأصلية في كل من القارات الثلاث؛ مما عرض السكان الأصليين للأمريكتين إلى الإبادة نتيجة انتشار الأمراض المعدية.^[1]

الاستعمار والأوبئة في الهند وأفريقيا

شكل النشاط الاقتصادي للإمبريالية ومشاريعها الاقتصادية العملاقة حول العالم، فرصة سانحة لانتشار مسببات الأمراض وخلق بيئة وبائية مواتية لها، تشهد بهذا العديد من التجارب التاريخية المؤلمة في ذاكرة شعوب العالم النامي. جرى ذلك على سبيل المثال في غرب أفريقيا بعد إزالة الغابات لتخصيص مساحات شاسعة للمحاصيل النقدية مثل القطن والكاكاو والفول السوداني وزيت النخيل؛ ما أدى إلى تخريب التربة الزراعية التي تختلف عن تربة وادي النيل في شرق القارة، حيث لا تتكون من طبقة عميقة من التربة السطحية، بل من غطاء رقيق من الطبقة العضوية المتحللة فوق طبقة من الصخر الأحمر المسامي، ولذا تعرضت التربة للتآكل والتدهور بعد إزالة الغابات، وانهار التنوع المحصولي، وامتلأت الأرض بالشقوق الحفر التي كانت تفيض بالمياه خلال موسم الأمطار، ومن ثم أصبحت موضعًا مثاليًا لتكاثر البعوض الناقل للحمى الصفراء والملاريا.^[2]

في الهند توسعت شركة الهند الشرقية في زراعة القطن والشاي، وأصبح غرب أفريقيا أكبر منتج لزيت النخيل وجوز الهند والكاكاو والفول السوداني. في هذا السياق، ازدادت الهجرة في غرب أفريقيا والهند إلى مناطق السواحل، التي يتركز فيها النشاط الاقتصادي والتجاري للأوروبيين، وهو ما كان له تبعاته على مدن السواحل التي ازدادت فيها الكثافة السكانية، وكل ما ترتب على ذلك من سوء نظافة وتشكل بيئة مناسبة لتكاثر الكائنات الناقة للعدوى، وانهيار نظام المناعة الطبيعي لدى السكان المحليين، الذين كانوا يملكون مناعة طبيعية من بعض أنواع الملاريا مكتسبة من لبن الأم ومن العدوى الخفيفة والمتوسطة، إلا أنهم تعرضوا لأنواع جديدة لا يملكون أية مناعة لها^.[3]

أدى توسع الوكالات التجارية الدولية ومراكزها في لندن وباريس وأمستردام ولشبونة، في بناء خطوط السكك الحديدية حول العالم، وبناء شبكات تجارة دولية شبه احتكارية تخترق القوميات والمجموعات العرقية والقبلية، إلى انهيار شبكات التجارة القديمة، ومن ثم انهيار خطط المقاومة الطبيعية ضد الأمراض المتوطنة؛ نتيجة لانتقال مسببات الأمراض بسرعة كبيرة تتجاوز قدرة الشعوب المحلية من بناء مناعة طبيعية على مدى فترة زمنية ملائمة نسبيًا، كما كان يجري الأمر في السابق، حين كانت البضائع تنتقل عبر وسطاء محليين متتابعين خلال كل إقليم.^[4]

جراثيم وأسلحة: تغيير البنية السكانية الأصلية للأمريكتين

تظهر قوة الميكروبات في تاريخ الإنسان أكثر ما يكون في قصة غزو الأوروبيين للأمريكتين، وإنقاصهم لأعداد السكان الأصليين هناك، حيث قتلت الأمراض من السكان المحليين على فراشهم أعدادًا تفوق بكثير ما قتلتهم البنادق والمدافع والسيوف.^[5]

على سبيل المثال نزل الأسبان ساحل المكسيك بقوة تقدر بحوالي 600 رجل، لغزو إمبراطورية الأزتك التي كان يبلغ تعدادها السكاني عدة ملايين، وبعد وصول عبد واحد من كوبا الأسبانية مريض بالجدري، قتل الوباء نصف الأزتيك بمن فيهم الإمبراطور كيتلاهوك، وترك الوباء النصف الباقي من السكان مدمرين معنويًا وماديًا جراء المرض الغامض الذي فتك بأهلهم دون أن يمس الأسبان. وبحلول عام 1618 م هبط عدد سكان المكسيك من حوالي 20 مليون نسمة إلى 1.6 مليون.^[6]

كما نزل الأسبان ساحل بيرو عام 1531 بقوة تعدادها 168 رجلاً لغزو إمبراطورية الإنكا التي كان تعداد أفرادها بالملايين. ومن حسن حظ هؤلاء الأسبان أن الجدري وصل إلى بيرو عام 1526، وأدى إلى موت أغلبية سكان الإنكا وعلى رأسهم الإمبراطور وخليفته المعين، وهكذا كان الحال أيضًا في أمريكا الشمالية، التي انهارت بنيتها السكانية من القبائل الهندية المحلية بعد وصول الأوروبيين، واستمرار الاكتشافات الأوروبية المنتظمة لحوض نهر الميسيسبي.^[7]

لم تكن أدوات قتل السكان الأصليين في هذا السياق غير الجدري والحصبة والإنفلونزا والتيفوس والدفتيريا والملاريا والتهاب النكاف والسعال الديكي والسل والحمى الصفراء، التي أبادت مجتمعات بأكملها. فعلى سبيل المثال، هبط تعداد سكان منطقة هيسبانيولا من حوالي 8 ملايين نسمة عندما وصل كولمبس عام 1492، إلى صفر بحلول عام 1535، وهبط تعداد سكان هاواي الأصليون من حوالي نصف مليون عام 1779، بعد وصول كابتن كوك ومعه السيلان والسل والانفلونزا عام 1804، إلى 84 ألفا عام 1853. هذه كلها أمثلة قليلة فقط من حالات لا تحصى في هذا الإطار.

طب المناطق الحارة: الاستعمار وعلم الأمراض والأدوية

نشأ طب المناطق الحارة مع زحف الأوروبيين على أفريقيا والصين والهند وتوغل الولايات المتحدة في المستعمرات الأسبانية في منطقة الكاريبي والمحيط الهادي، كأداة من أدوات الإمبريالية بهدف تمكين الشعوب البيضاء من الحياة في أقاليم مناخية ومناطق جديدة من العالم.^[8]

بعد ظهور ملامح اقتصاد عالمي حقيقي يربط مختلف أرجاء المعمورة، احتاج الهولنديون والفرنسيون والإنجليز إلى المعادن والثروات الخام والمحاصيل الزراعية، وإلى العمال من السكان المحليين، وإلى الأسواق الواسعة والمستهلكين. وكان من التبعات غير المقصودة لهذا التطور التجاري والاقتصادي، تشكل شبكات المرض التي امتدت عبر العالم مثل شبكات التجارة تمامًا.^[9]

في هذا السياق، لم تجد المراكز التجارية الأوروبية، التي كانت تسعى إلى حصد مكاسب هائلة من أرباح مناجم الذهب والفضة والثروات المعدنية في العالم الجديد، غضاضة في تدمير السكان الأصليين في الأمريكيتين عن طريق الأمراض المعدية المنقولة من الأوروبيين، وكان من السهل تعويض الخسائر البشرية في عنصر العمل دومًا، من خلال استيراد العبيد من أفريقيا للعمل في المزارع والمناجم الأمريكية.^[10

على صعيد آخر، بالرغم من تقدم علوم الطب والدواء اليوم، وقدرة الطب الحديث على مقاومة واحتواء معظم الأمراض الوبائية، ما تزال الملاريا هي القاتل الأكبر حتى يومنا هذا. يعكس هذا بشكل كبير جدول أعمال رجال الطب الغربيين وصناع الأدوية، حيث لا يعاني الشمال المتقدم من ذلك المرض الذي يعاني منه تحديًدا فقراء المناطق الاستوائية في العالم الثالث، الذين لا يتمتعون بالعدالة في تلقي الخدمة الطبية، ولا يتمتعون بمقدرة شرائية، تغري شركات الأدوية باستثمار أموالها في البحث العلمي الدوائي في مرض الملاريا.^[11]

يخدم ذلك الوضع الصحي المتردي الرؤية الجيوبولتيكية الغربية، التي يتبنى الكثير من منظريها النزعة المالتوسية* في التعامل مع الديموجرافيا العالمية، حيث يعتقد العديد من أولئك المنظرين والساسة النافذين مثل وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر، أن انفجار التعداد السكاني للبشر، يتعارض مع مستقبل استهلاك الموارد الطبيعية.

بينما كان يُنتظر من مؤسسات المجتمع المدني الغربية غير الربحية لعب دور في إصلاح ذلك الوضع المأساوي في هذا السياق، نجد أن تلك المؤسسات ما زالت تهمل الجذور الاجتماعية والاقتصادية للأمراض المتوطنة في المجتمعات المحلية في دول العالم النامي، وتركز بشكل أكبر على تقديم المستلزمات والخدمة الطبية^[12]، ولا سيما في مجال تنظيم الأسرة من أجل التحكم في النمو السكاني في البلدان الفقيرة.

الهوامش

* المالتوسية: عقيدة مستمدة من الفكر السياسي والاقتصادي لعالم الاقتصادي الإنجليزي توماس مالتوس، تعزي مشاكل الفقر والحروب والاضطرابات الاجتماعية إلى النمو السكاني في العالم، الذي يعتقد مالتس أنه يزداد بتضاعف رأسي، بينما تتطور الموارد الغذائية في العالم على نحو خطي.