كيف تصدر بعض الكائنات الحية ضوءًا؟
في ليلة صيف دفيئة تحت سماء بلا قمر، تستعد اليرعات لإلقاء واحدة من أكثر العروض جمالاً ورومانسية على وجه الأرض. اليرعات- بخلاف غيرها من الخنافس- تحمل مصابيح صغيرة في مؤخراتها، عندما تحلق تبدو كأضواء متراقصة في تناغم تحوم بين الأشجار في مشهد يحبس الأنفاس.
هذه الحشرات المضيئة تمضي معظم حياتها في طور اليرقة، تتوالى عليها الفصول حتى تصبح يافعة، وعندما يتسنى لها أخيرًا التحليق، تعيش لبضعة أسابيع ثم تموت، لكن قبل أن تفعل لديها مهمة كبرى: أن تضيء بحثًا عن الحب! فكيف تفعل؟
كيمياء مشعة
الكيمياء هنا هي الإجابة، فبداخل بطن اليرعة Firefly، يحدث تفاعل كيميائي من نوع خاص مسئول عن تحويل الطاقة الكيميائية إلى طاقة ضوئية، في ظاهرة تعرف بــ «التألق الحيوي Bioluminescence».
يتطلب التفاعل اتحاد مادة منتجة للضوء «اللوسيفرين – Luciferin» مع الأكسجين بمساعدة إنزيم «اللوسيفراز – Luciferase» لتحفيز تفاعل الأكسدة وإنتاج الضوء. لتسهيل الأمر، يمكنك التفكير باللوسيفرين على أنه مصباح، والأكسجين على أنه الكهرباء أو مصدر الطاقة، لكن المصباح لن يضيء إلا في وجود دائرة كهربائية تربط بينه وبين مصدر الطاقة، وهي إنزيم اللوسيفراز.
عندما تتفاعل جزيئات الأكسجين مع جزيئات اللوسيفرين، تتسبب في إثارة إلكتروناته وانتقالها لمستوى أعلى من الطاقة. وكي تعود لحالة الاستقرار، تفقد قدرًا مساويًا من الطاقة في صورة فوتونات ضوئية. تقع هذه الفوتونات الضوئية في مدى الطيف المرئي، وتتراوح بين الضوئين الأصفر والأخضر بالتحديد في حالة اليرعات.
وبالعودة إلى قصة اليرعات، تقوم الذكور بالتحليق في الهواء الطلق حيث تقبع الإناث على الأرض أو بين العشب متأهبة لمشاهدة العرض. يرسل الذكر إشارة عن صلاحيته للتزاوج على هيئة ومضات بلون ونمط معين -كلٌ حسب فصيلته- وعندما يثير استعراضه إحدى الإناث، تقوم هي الأخرى بالوميض تعبيراً عن استحسانها ولمساعدة الذكر في الاستدلال على مكانها.
هكذا تستعد اليرعات لمراسم زفافها، إلا أن وظيفة التألق الحيوي لا تقتصر فقط على جذب شريك.
لغة الضوء
في حين تعد رؤية أضواء حية على سطح الأرض أمرًا غير شائع نسبيًا، يحتضن المحيط عددًا ضخمًا من الكائنات المضيئة تتنوع بين البكتيريا، الطحالب، القناديل، الديدان، القشريات، نجوم البحر والأسماك. في الواقع، ستدرك أن ظاهرة التألق الحيوي ليست بالنادرة على الإطلاق عندما تعلم أن 76% من الكائنات التي تسكن المحيط قادرة على أن تشع، وفي الأسماك فقط يوجد على الأقل 1500 فصيلة مشعة.
تطورت قدرة هذه الأحياء على إنتاج الضوء لأغراض تتنوع بين الدفاع عن النفس، التخفي، الصيد، والتكاثر، وذلك حسب فصيلة الكائن الحي وطريقة استغلاله للضوء. العامل المشترك هو أن هذه الأداة المميزة تحسن من فرص البقاء على قيد الحياة واستمرار النسل. ففي وسط ظلام المحيط الدامس حيث لا تصل أشعة الشمس، لا عجب أن يصبح التألق الحيوي وسيلة تواصل لا غنى عنها.
البعض يستخدم الضوء في ردع المفترسين كحال «السوطيات الدوارة – Dinoflagellates»، وهي كائنات وحيدة الخلية تنتمي لمملكة الطلائعيات، ولا تُرى بالعين المجردة. تضيء هذه الكائنات إن قام أحدهم بإزعاجها، ويعتقد العلماء أن الومضات التي تطلقها تتسبب في إفزاع المفترس فتؤثر على سلوك تغذيته ليستهلك عددًا أقل من السوطيات، كما أنها تعمل كإنذار يترك أثرًا لمفترس ثانٍ كي يستدل به على وجود المفترس الأول ويأتي ليأكله، فتنجو السوطيات بحياتها.
لكن الأضواء لا تعني بالضرورة وجود مفترس، فالسوطيات حساسة لأي حركة ميكانيكية خلال المياه كجسم سابح، مجداف يدفع المياه أو حركات المد على السواحل. بفضل هذا، يمكننا أن نستمتع بمشهدٍ ساحر لأمواج متوهجة تتلاطم على الشاطئ فيما يشبه المؤثرات البصرية في أفلام الخيال العلمي.
لكن ماذا إن لم يكن الكائن قادرًا على إنتاج الضوء؟ عندها لا بأس بالحصول على بعض المساعدة من جيرانه أو -على نحو أدق- من ساكنيه!
بين «الحبار قصير الذيل – Bobtail squid» هذا و نوع خاص من البكتيريا يدعى «فيبريو فيشراي – Vibrio fischeri»، تنشأ علاقة منفعة متبادلة مثيرة للاهتمام، حيث يوفر الحبار للبكتيريا مسكنًا آمنًا داخل العضو الضوئي بالجانب السفلي لجسده إضافة إلى وجبات طعام جاهزة من سكريات وأحماض أمينية كي تتغذى عليها البكتيريا وتتكاثر، وفي المقابل تصنع له البكتيريا «طاقية الإخفاء» اللازمة لخداع مفترسيه أثناء الليل.
عندما يقترب مفترس، تقوم البكتيريا بإنتاج ضوء يشبه إلى حد كبير ضوء القمر والنجوم يخفي الظل المتكون أسفله جسد الحبار، فيبدو الحبار المشع لمفترس من الأسفل غير مرئي وكأنه مجرد انعكاس لضوء القمر.
بأسلوب مشابه لكن لغرض مختلف، تحتفظ أسماك «شياطين البحر – Anglerfish» بالبكتيريا المضيئة داخل «عصا الصيد» المتصلة بمقدمة رأسها، فتقوم بالتلويح بمؤخرة العصا المضيئة لإغراء الفرائس واستدراجها، حيث تنجذب الضحية بسذاجة إلى مصدر الضوء لتجد نفسها أمام فك مفترس يلتهمها.
ولعلك لاحظت أن معظم كائنات المحيط تضيء باللون ذاته «الأزرق»، فهل يعقل أنها اتفقت على لغة موحدة؟
بأي طيف تضيء؟
تسافر فوتونات الضوء على شكل موجات بطول موجي معين يحدد لونها. في المحيط، يمكن لجزيئات المياه أن تمتص الأطوال الموجية الطويلة (كاللون الأحمر)، والقصيرة مثل (البنفسجي) بسهولة لتختفي ويبقى اللون الأزرق هو الأقل امتصاصًا والأكثر قدرة على السفر لمسافات بعيدة حتى القاع.
لا عجب إذن أن مياه المحيط تظهر زرقاء للعين، وهو أيضًا السبب ذاته الذي يجعل الكثير من كائنات المحيط تضيء باللون الأزرق، فهو اللون الذي تستطيع معظم الكائنات البحرية أن تراه على أية حال، لكن يبقى لسمكة التنين رأي مختلف!
تعيش «أسماك التنين ذات الفك المرتخي – stoplight loosejaws» على عمق 500 متر بالمحيط. وعلى الرغم من صغر حجمها، فهي تمتلك فكًا مخيفًا يمكنه أن يفتح بزاوية تتعدى 100 درجة. وبسبب هذا الفك الفضفاض المليء بالأسنان الشائكة، فهي تعرف أيضًا بمصيدة الفئران. لكن إلى جانب فكها، تمتلك أسماك التنين قدرة خاصة على الرؤية الليلية.
كغيرها، تنتج السمكة في البداية ضوءًا أزرق يتم امتصاصه من قبل بروتين بعضو الضوء الخاص بها ثم يعاد إشعاعه كضوء أحمر. ولأنها لا تمتلك صبغة بصرية حساسة للضوء الأحمر، فهي تمتص طاقة الضوء الأحمر بواسطة صبغات خاصة وتحولها إلى ضوء مرئي، هذا يعني أنها تستطيع استخدام الطيف الأحمر ككشاف ضوء ينير طريقها ويمكنها من مباغتة فرائسها دون أن تستطيع الأخيرة أن تراها.
يمكننا أن نعتبر هذه الفرائس محظوظة، فهي على الأقل لا ترى فك التنين المرعب!
سواء أكانت تلمع على أرض الغابة، على سطح المياه، أو في قاع المحيط، لا تعجز تلك المخلوقات عن إبهارنا في كل مرة. وعلى الرغم من أن الطريق قد تكون طويلة حتى نكتشف المزيد من الأسرار عن هذه الظاهرة المذهلة، إلا أن الأمر بلا شك يستحق العناء.