كيف يفيدنا المرض؟ بين إرادة استثنائية وعلاج فريد
نعم.. لقد قرأت العنوان صحيحًا وليست هنا لعبة لغوية. الطبيعي أن تفيد عملية التداوي الداء وتعالجه، وفي الحديث: «… تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء…».
لكن هل يمكن أن يفيدنا المرض نفسه؟ قصص كثيرة تؤكد أن المرض ليس بالعائق الكافي أمام الإرادة، وحتى أمام اصرار العلماء على إيجاد حل له.
الإرادة الإنسانية: ستيفين هوكينج ليس الوحيد
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بعد وفاة عالم الفيزياء الإنجليزي الأشهر لدى المجتمع ستيفين هوكنج والذي لا ينكر دوره الرائد في الفيزياء وعلم الكون وقد أثرى حقله العلمي بل وتجاوز تأثيره إلى المجتمع والسينما حتى أن شخصيته قد مثلت في فيلم شهير. ربما جزء كبير من شهرة ستيفين كانت إصابته بمرضه المقعد المعروف طبيًا باسم التصلب الجانبي الضموري، إلا أن هناك أكثر من قصة لأشخاص نجحوا رغم المرض –بل ربما كان المرض ملهمًا لهم ومفيدًا في استنفار إرادتهم- لم تحظ بنفس الشهرة.
1. هشام النادي من الصعيد
هشام النادي شاب من صعيد مصر ويقطن محافظة الفيوم. تعرض هشام لحادث أليم أصيب بعده بالشلل الرباعي. استغل هشام -البالغ من العمر ثلاثين عامًا- لسانه ليجتاز الحصار الذي فرضته الإصابة حول مرضه.
تحدث الإعلام عن تجربته حيث أعلن هشام أنه نجح بتأليف كتابين أحدهما يبسط المعلومات التاريخية للقارئ العادي. نجح هشام أيضًا -رغم أنه لا يخرج من بيته إلا ساعات قليلة أسبوعيًا- في إنشاء صداقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع أصدقاء جدد ليعوضه ذلك عن فقد صداقات من انشغلوا عنه وأنشأ له صفحة يعرض من خلالها أفكاره.
2. جان دومينيك بوبي: جرس الغوص والفراشة
تحدثت الــجارديان بالتفصيل عن قصته، أصيب «جان دومينيك بوبي – Jean- Dominique Bauby» (رئيس تحرير إحدى مجلات الأزياء الفرنسية العالمية) بسكتة دماغية ليستيقظ بعد أيام مصابًا بحالة من الشلل الغريب، تعرف بالغيبوبة الكاذبة «Pseudocoma» كان يعاني فيها من شلل لا يستطيع معه الكلام، فقط يمكنه تحريك الجفن الأيسر!
ربما أنك عدت الآن لعنوان الفقرة وتساءلت، هل ألّف جين الكتاب المذكور قبل المرض أم بعده؟ بالطبع لو ألف الكتاب قبل المرض لم نكن لنتحدث عنه الآن. لعلك الآن تتساءل: كيف ألف كتابًا وهو لا يتحرك ولا يتكلم؟
الحقيقية أن جين لم ييأس من حالته واعتمد على تقنية تعرف بالمسح بمعاونة الشريك «Partner- assisted scanning» والتي تتضمن أن يتلو أحدهم على المريض الحروف الهجائية بشكل متتابع ويختار المريض الحرف المرغوب. الرائع في الأمر أن جين ألف الكتاب بهذه الطريقة.. حرفًا حرفًا معتمدًا على رفرفة جفنه الأيسر في اختيار كل حرف!
مثلت قصته فيلمًا وأعتقد أن حقيقة معاناته الشعورية ستظل أصعب من كل تمثيل. تلك المشاعر التي يمكن تلخيصها في عنوان الكتاب وحده، حيث إن «جرس الغوص» هو الحجرة الضيقة التي تنقل الغواصين تحت الماء، فكأنما جين يصف حبسه في جسده كفراشة تحت الماء، ترى ولا تتحرك أو تتحدث، إلا أن إرادتها لا تحدها حدود ولابد أن تجد لها منفذًا لتطير!
3. سلطان بن محمد العذل
المهندس السعودي سلطان بن محمد العذل الذي تحدثت عنهبعض المواقع الإلكترونية والذي يعاني من نفس مرض ستيفين هوكنج، وتغلب على مرضه بقوة الإرادة والروح. نجح العذل في تأسيس أكثر من شركة كما نجح في مجال التأليف حيث ألف كتابًا عن جده الشيخ صالح باشا. الغريب أن هذه النوعية من الكتب تقتضي الجمع من مصادر تاريخية، ليس الأمر فقط تأليفًا ذهنيًا، فكانت المراجع تعرض عليه فيشير بعينه إلى مكان الاقتباس! ثم بعد الجمع تعرض عليه المعلومات ليقوم بتحليلها!
الحقيقة أن الإرادة البشرية لا زالت تتخطى كل يوم حدودًا كنا نظنها مستحيلة، ولا نملك إلا أن نرفع القبعة لمثل هذه النماذج.
4. إبراهيم حمدتو
الأسطورة المصرية إبراهيم حمدتو أثناء مشاركته في الألعاب البارالمبية
ومن طرائف تحدي فقد اليدين محترف تنس الطاولة المصري. إبراهيم حمدتو والذي يمارس اللعبة دون يدين! عندما تشاهد قوة ضربته للكرة لا يمكن أن تصدق أنه يمسك المضرب بفمه!
ربما علينا أن نتساءل ماذا لو لم يصب/ يمرض هؤلاء الأبطال؟ هل كان شيء ما سيختلف؟ كيف كانت ستتغير حياتهم؟ والسؤال الأهم: كيف كانت ستتغير حياتنا نحن لو لم نستثمر الاستفادة من المرض في مجال العلم؟
حتى العلم!
ومن نماذج تحدي الإعاقة والمرض إلى طرائف العلم في استغلال المرض، حيث نرى للعلم –رغم مشقة دربه- بعض الطرائف! ولكن طرائف العلم ليست للفكاهة أو الضحك، بل للاستفادة التطبيقية المباشرة، دعنا نر!
فكرة عمل اللقاح
ربما نسمع عن اللقاح جميعًا، بل إن منظمة الصحة العالمية مثلاًترى لقاح الإنفلوانزا الطريقة المثلى للوقاية منها، فما هو اللقاح؟ وكيف يعمل؟ يعمل اللقاح معتمدًا على تطوير المناعة الداخلية للجسم، حيث إن اللقاح يكون عبارة عن عنصر شبيه بالميكروب المسبب للمرض نفسه إلا أنه في صورة غير كافية لإحداث العدوى (كأن تكون بكتيريا ميتة أو مـُـضعَّفة أو غير ذلك) بل تكفي لاستثارة مناعة الجسم الداخلية بحيث إذا تعرض للميكروب نفسه في صورته المعدية لم يتضرر.
إنه أمر شبيه بإصابة الجدري المائي التي تكسبك مناعة مدى العمر «كما هو معتاد». إنه استغلال ذكي للمنحة الربانية الطبيعية للجهاز المناعي عبر استخدام العامل الممرض أو شبيه له للحفاظ على جسمك من المرض.
الأشباح البكتيرية وتوصيل الدواء
هناك استغلال ذكي آخر وهو اتجاه حديث للغاية في مجال التوصيل الدوائي ويعرف علمياً باسم «الأشباح البكتيرية»ونجده في الأبحاث العلمية بهذا الاسم «BACTERIAL GHOSTS»، وهو اسم على مسمى! إنه استغلال الميكروب في صورته الشبحية لتوصيل الدواء، حيث يتم تعديل البكتيريا معمليًا بتفريغها من مضمونها –أي من محتواها السيتوبلازمي الداخلي- والحفاظ على جدارها الخارجي بخواصه السطحية التي تتيح له اختراق دفاعات الجسم.
تصير البكتيريا بهذا التعديل المعملي جاهزة للتغذية أو «الملء» بالدواء المطلوب والذي قد يكون مادة واحدة أو مجموعة مواد علاجية، وحينها تنطلق لتخترق جسم المريض حاملة معها الدواء لا الداء. جدير بالذكر أن أحد أحدث أبحاث عام 2018 لتحضير الأشباح البكتيرية بطريقة معملية جديدة كان عربيًا.
استخدام الفيروس
نعم، يمكننا علميًا استخدام الفيروس أيضًا للعلاج! لكنه ليس أي فيروس.. إنه فيروس الــ«بكتيريوفاج – Bacteriophage» أو «آكل البكتيريا» الذي نراه في الشكل بالأسفل. يتخصص البكتيريوفاج في مهاجمة البكتيريا ولا يهاجم الإنسان؛ أي أنه «مصيبة» للبكتيريا ومصائب قوم عند قوم فوائد! تُستغل مهاجمة هذا الفيروس للبكتيريا في عديد من الاستخدامات العلمية في الصناعة وغيرها، أما عن استخدامه في العلاج فإنه حامل جيد للأدوية كما يمكننا استغلاله كمضاد للبكتيريا لا سيما في العصر الحالي حيث صارت مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية أمرًا محوريًا.
المقال بالطبع لم يقطع كل الطريق ولكنه ينير مصباحًا في أوله، فهل يفيدنا المرض حقاً؟ وكيف من الممكن أن يتغير شكل الكون إذا لم نستفد من المرض ولو بالتحدي؟ ربما يستدعي المقال للذاكرة قصصًا لأبطال آخرين تحدوا المرض بل واستثمروه، ربما كانوا جيرانًا أو زملاء دراسة أو أقارب، إلا أن التحدي الحقيقي لكل منا يظل هو الاستفادة من المرض/ الضعف بل واستثماره!