لعبة الرجال: كيف يمكن اكتشاف معاناة لاعب الكرة نفسيًا؟
في الـثالث من فبراير/ شباط 2020، وتزامنًا مع تراجُع مستوى «كيبا أريزبالاجا»، حارس مرمى تشليسي الإنجليزي، زعمت صحيفة «الموندو» الإسبانية أنّ تقهقر مستوى الدولي الإسباني يعود بالأساس لانفصاله عن صديقته «أندريا بيريز» بعد علاقة دامت 9 سنوات كاملة.
بحسب الصحيفة الإسبانية، ادعى أحد أصدقاء حارس «بيلباو» الإسباني السابق أن اللاعب تأثّر نفسيًا بسبب الانفصال، وربما كان لذلك أثر مباشر في ظهوره بمستوى لا يليق بإمكانياته كحارس مرمى، كان الأغلى بالعالم عندما أتم النادي اللندني تعاقده معه.
في الواقع، تمتلك الملاعب المصرية حكاية مشابهة؛ حينما انتشرت شائعة -لم يثبُت صحتها- تفيد بأن تراجع مستوى محمد الشناوي، حارس الأهلي المصري بأواخر عام 2021، يعود لتأثره بانفصاله عن زوجته بعد زواجٍ دام 11 سنة.
وبغض النظر عن القصتين أعلاه، لدينا سؤال واضح: متى كانت آخر مناسبة خرج فيها لاعب كرة قدم مصري متحدثًا عن مشاكله النفسية، وعلاقتها بمستواه داخل أرض الملعب؟
الإجابة: لم يحدُث ذلك من قبل.
محترف أم مجنون؟
بعصر احتراف كرة القدم الذي نعيشه حاليًا، يعتقد البعض أن الحديث عن صحة اللاعبين النفسية حديثًا خاويًا من المضمون؛ بسبب الاعتقاد الزائف بأن الأموال الطائلة التي يجنيها اللاعب إضافة إلى الشهرة الواسعة، قد تعينه على تجاهُل مثل تلك المشاكل.
لكن الحقيقة أن لاعب كرة القدم في النهاية إنسان، يتأثّر بكل ما يتأثر به الإنسان العادي في أغلب الأحيان، حتى وإن كانت طبيعة وظيفته تتطلب تعاملًا مختلفًا مع الضغوط الحياتية التي يتعرّض لها.
في مقابلة مع الموقع الرسمي لنادي «دارمشتاد» الألماني، تحدّث الدولي البولندي «فيكتور بالسن»، عن الفترة المظلمة التي عاشها بعد وفاة والدته، التي أثرت على سلامته النفسية ومن ثم حالته الجسدية، حيث فقد خلال هذه الفترة نحو 8 كيلوجرامات من وزنه، إضافة لإصابته بنوبات بكاء متكررة.
طبقًا لعالم النفس الرياضي الدكتور «ثورستن ليبر»، عند الحديث عن الأزمات النفسية، لا يهم ما إذا كنت لاعب كرة قدم محترفًا أو عامل نظافة، كل البشر متشابهون. فمثلًا؛ في دراسة نشرتها النقابة الدولية للاعبي كرة القدم المحترفين عام 2013، اتضح أن نحو 3 لاعبين داخل كل فريق كرة قدم يعانون من أعراض أحد الأمراض النفسية مثل: الاكتئاب، القلق أو اضطرابات النوم.
في سياق متصل، يُخبرنا الدولي الإنجليزي السابق«داني روز»، الذي تحدّث عام 2018 صراحة عن معاناته المضاعفة مع الاكتئاب عقب تعرضه لصدمة نفسية ثلاثية بعد انتحار عمه، وتعرض والدته لحادثة عنصرية إضافة لتعرض شقيقه لإطلاق نار من مجهولين، أن ممثلي أحد الأندية طلبوا الكشف عن قواه العقلية قبل إتمام التعاقد معه، بسبب حديثه عن هذه الفترة من حياته علنًا.
لذلك، يتجنّب اللاعبون الحديث عن مشاكلهم المتعلقة بصحتهم النفسية والعقلية؛ لأنها مساحة مُحرمة على لاعب الكرة. لماذا؟ لأنّه رجل ثري.
طبق كامل من الذكورية
كان هذا ملخص ما قاله الحارس الألماني «روبرت إنكه» لوالده قبل أيامٍ من انتحاره، بعدما رفض الخضوع لعلاج نفسي بعدما أمضى نحو 3 سنوات كاملة في محاولة التعافي من الآثار النفسية السلبية التي طالته عقب وفاة ابنته عام 2006.
وبعيدًا عن الأسباب الشخصية، صناعة كرة القدم الحديثة تدفع اللاعبين لتحدّي حدود قدراتهم؛ الأندية والمشجعون ينظرون فقط لما يمكن للاعب كرة القدم أن يُقدّم لهم على أرض الملعب، بغض النظر عن أي شيء آخر.
يعتقد «روني ساندال»، مؤلف فيلم «النمور» الذي يحكي قصّة الناشئ السويدي «مارتن بنجتسون» الذي لم ينجح في تحمُّل ضغوطات كرة القدم في نادٍ بحجم إنتر ميلان الإيطالي، أنّ عالم كرة القدم ما هو إلا طبق كبير من الغرابة والذكورية، حيث يمكن بيع أو شراء الإنسان.
فعلى الرَغم من اعتراف العديد من اللاعبين والمدربين بحقيقة صعوبة التعامُل مع متطلبات كرة القدم من الناحية النفسية، تفضِّل شريحة ضخمة من اللاعبين تجنُّب الحديث عن هذه المساحة الشائكة؛ لأن السردية الكروية الأشهر تمنح أفضلية للأقوى، الأكثر قدرة على التحمُّل والأكثر جلدًا. بالتالي، ذهاب اللاعب واعترافه بأنه يعاني من أزمة نفسية ما تمنعه عن تقديم أفضل مستوياته قد يعني بداهةً خروجه من حسابات المدير الفني، وربما فسخ تعاقده مع النادي من الأساس.
مجبر أخاك
في أواخر الثمانينيات، طوَّر الدكتور «برونو ديميكليس» ما عُرف لاحقًا بـ«غرفة العقل» داخل نادي «إيه سي ميلان» الإيطالي، التي اعتبرت أول مختبر علم نفس بإيطاليا؛ وكان الغرض من تأسيسها مشاركة اللاعبين مشاكلهم النفسية، ومن ضمنها الأزمات المتعلقة بتراجع الأداء داخل الملعب.
كانت «غرفة العقل» التطور المنطقي لنجاح فكرة جلسات العلاج النفسي الفردية للاعبي «ميلان»، عبر استخدام أسلوب علمي قائم على المراقبة الطبية الحيوية والتدريب المعرفي لأفراد الفريق، من أجل مساعدتهم على المنافسة في أعلى مستويات كرة القدم.
من أجل التغلب على التابوهات المجتمعية، التي تمنع اللاعبين من الحديث لأفراد أطقم الطب النفسي داخل الأندية عن مشاكلهم، لجأت الأندية إلى حيلة مثالية، تعرَف أكاديميًا بالـ«ترميز النفسي».
طبقًا لـ«مالكوم هاركنيس»، أحد أعضاء فريق العلوم الرياضية بنادي تشيلسي الإنجليزي سابقًا، الترميز النفسي عبارة عن تجميع لقرارات اللاعب داخل التدريبات أو المباريات، وتقسيم هذه القرارات إلى فئات مختلفة؛ التسديدات البعيدة دليل على الثقة بالنفس، الضغط الشرس يعني التحفُّز، اعتراض الكرات يدل على التركيز، وهكذا.
بنفس الصدد، قامت أكاديمية «لينس» بتجربة تقنية «مسح الدماغ»، المصممة لتحديد النشاط العصبي المرتبط بحالات مثل: القلق، الإرهاق، الاكتئاب، الأرق. ومع ذلك يعتقد «أنتوني لوبيز»، مؤسس شركة «Spector Biotech» التي أقامت هذه التجربة مع النادي الفرنسي أنّ أندية كرة القدم لا تبذل جهدًا حقيقيًا في الاستثمار في ما يخص التكنولوجيا المعرفية؛ فحسب رأيه، تدرك أندية الصف الأول المشكلات المتعلقة بالصحة العقلية وتحسين الأداء، لكن لسبب ما لا يُقدم المسؤولين على أخذ مخاطرة حقيقية بالاستثمار في هذه المساحة من العلم.
في النهاية، رُبما تهدُف كُل المحاولات على اختلافها إلى دفع لاعبي كرة القدم نحو تقديم أفضل مستوياتهم طمعًا في تحقيق أقصى ربح ممكن، لكنها في نفس الوقت قد تدفع نفس اللاعبين للاعتراف بمعاناتهم مع الأزمات النفسية قبل فوات الأوان.
باختصار، نُدرك جيدًا أن ثقافة كرة القدم المحافظة قد تمنع اللاعب من الاعتراف بأنه يمر بفترة صعبة، لكن رُبما حين تُعمم تجارب مثل تجربتي «تشيلسي» و«لينس» في مجتمعات أكثر تحفظًا مثل المجتمع المصري، نجد أنّ بعض اللاعبين الذين أظهروا تراجعًا ملحوظًا بالمستوى كانوا فقط ضحيةً لقمع أفكارهم خوفًا من أن يُنعتوا بأشباه الرجال، ربما.