من بسمارك إلى هتلر: كيف اختلفت نظرة ألمانيا للمسلمين؟
من بسمارك وفيلهلم الثاني حتى أدولف هتلر، اختفلت النظرة الألمانية للمسلمين بشكل كبير عن النظرة الأوروبية السائدة منذ القرون الوسطى وحتى عصر الاستعمار، فلم تعبأ أوروبا الغربية وعلى رأسها (بريطانيا – فرنسا – إسبانيا – إيطاليا) بالمسلمين، ولم تنظر لهم سوى من منظور استعماري خالص، إلا في بعض اللحظات التي شعرت فيها بالخطر الروسي الأرثوذكسي الداهم على أمن القارة الكاثوليكية، البروتستانتية.
أسباب جغرافية وتاريخية
تعود الأسباب في المقام الأول إلى الجغرافيا والتاريخ، فأولًا تقع ألمانيا جغرافيًا في وسط أوروبا بين 3 معسكرات إن جاز التعبير، ففي الغرب منها يقع معسكر أوروبا الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص)، وكان العدو الفرنسي، تحديًا كبيرًا، مع تاريخ طويل من العداء لم يقتصر على خلاف حدودي حول الإلزاس واللورين، بل رسّخه اختلاف ثقافي جذري، كان أحد الدوافع المهمة وراء توحيد الولايات الألمانية أمام الخطر الفرنسي.
أما المعسكر الثاني، فهو المعسكر الروسي الأرثوذكسي في الشرق، وفي هذا الصدد يقول المؤرخ جون ويلر بنت، في بحث له نُشر في مجلة فورين أفيرز، المجلد 25، العدد 1 (أكتوبر 1946)، الصفحات من 23 – 43، تحت عنوان «عشرون عامًا من العلاقات الروسية الألمانية: 1919-1939» إن العلاقات الألمانية – الروسية، عبارة عن سلسلة من العزلة، تميزت بالمرارة، والتقارب أحيانًا، والعامل الأساسي في تحديد اتجاه العلاقة بينهما من العدائية إلى التقارب، كان وجود بولندا، كدولة عازلة، ففي الأوقات التي كانت بولندا مستقلة، كانت العلاقات الألمانية – الروسية، على أفضل ما يكون، أما عندما تتلاشى بولندا تحت السيطرة الروسية أو الألمانية، وتتماس الحدود الروسية بألمانيا، فكان الألمان يشعرون بالخطر الروسي عن كثب.
أما المعسكر الثالث، إن جاز التعبير، فهو الخلافة العثمانية، التي كانت تراها ألمانيا دائمًا، كحليف محتمل، أكثر مما تراها عدوًا محتملًا، ففي الوقت الذي توحدت فيه ألمانيا تحت راية واحدة، مع نهاية القرن التاسع عشر، كانت الدولة العثمانية، هي رجل أوروبا المريض، مأمونة الجانب، وكان الخطر من سقوطها في قبضة الروس، أو البريطانيين، أكبر بكثير من بقائها كحليف محتمل يُمكن الاستفادة منه سواء لضرب المصالح الروسية أو البريطانية أو حتى الفرنسية.
تاريخيًا اختلفت الثقافة الألمانية عن نظيراتها في أوروبا الغربية التي خضعت للإمبراطورية الرومانية، فيما لم تخضع الأراضي الألمانية لها طوال قرون، ما ميّز الألمان عن الغاليين (الفرنسيين).
في العصور الوسطى، كان الألمان يحكمون الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي رأت في نفسها وريثة روما الحقيقية، وتعاملت في سياستها الخارجية والعسكرية على هذا الأساس، لكنها شاخت وبدأت انحدارها النهائي أثناء وبعد انخراطها في حروب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية، وانسلخت عنها أقاليمها، لتتحول إلى دول حديثة، وانفصل كل زعيم محلي بولايته.
في التاريخ الحديث تأخّرت الوحدة الألمانية كثيرًا، ما انعكس على تأخّرها باللحاق بركب التوسع الاستعماري الأوروبي فيما وراء البحار، فوصلت إلى ما تبقى من الأراضي التي لم تخضع للغزو الأوروبي، والتي كانت محدودة مقارنة بالبلاد الخاضعة بالفعل للاستعمار الأوروبي، ورغم ذلك، نجحت الإمبراطورية الألمانية الاستعمارية في حيازة المركز الثالث من حيث المساحة بعد بريطانيا، وفرنسا، فجابت الأساطيل الألمانية عباب البحار وغزت مناطق شاسعة في إفريقيا وآسيا، وجزر المحيط الهادئ، ورغم ذلك كانت تشعر بخطر الدول الأوروبية الأخرى عليها، وطمعت ألمانيا ليس فقط في مجرد إضعاف بريطانيا وفرنسا، بل حتى في غزو الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي خططت له مِرارًا بلا جدوى.
العلاقات الألمانية – العثمانية: بدايتها وطبيعتها
بعد توحيد ألمانيا تحت راية واحدة عام 1871 على يد المستشار الحديدي أوتو فون بسمارك، بدأت ترتسم ملامح السياسة الخارجية للدولة الوليدة، على الأسس الجغرافية والتاريخية سابقة الذكر، فصبّت تركيزها على محاولة عزل فرنسا سياسيًا، وأثناء الحرب الروسية – العثمانية (1877-1878) اشترك بسمارك في المفاوضات التي جرت في مؤتمر برلين 1878، وأثمرت معاهدة برلين التي قللت من المزايا التي حصلت عليها روسيا في جنوب شرق أوروبا، وكانت معارضة بسمارك لنمو النفوذ الروسي، متوافقة مع سياسة أوروبا العامة التي كانت تهدف إلى الإبقاء على الدولة العثمانية، للحيلولة دون توسع النفوذ الروسي في أوروبا.
لكن الألمان كانوا يتطلعون إلى إقامة علاقات أكثر ودًا مع الدولة العثمانية، وربما رأى فيها بسمارك، ومن بعده القيصر فيلهلم الثاني، قوة كامنة يُمكن استخدامها والاستفادة منها عندما تحين اللحظة الحرجة، وتصطف أوروبا جُلها غربًا وشرقًا ضد ألمانيا، ويكفي أن تكون سدًا أمام التغلغل الروسي في القارة.
بينما رأى العثمانيون في ألمانيا الدولة الوحيدة التي ليست لها أطماع في أراضيهم، فيما أشار جاوان حسين فيض الله الجاف في كتابه «الدبلوماسية الألمانية 1870-1914» إلى ازدياد النفوذ الألماني في الإمبراطورية العثمانية ونموه باطراد بما لا يتناسب ونفوذ الدول الأخرى، بخاصة في المجال العسكري.
إضافة إلى أن ألمانيا أُغرقت بأكداس من الكتب والبحوث والروايات والتقارير والمقالات من الباحثين والمستشرقين والصحافيين الألمان، التي كانت تستهدف حق ألمانيا في وراثة الدولة العثمانية.
أعلن الإمبراطوري فيلهلم الثاني أثناء زيارته الدولة العثمانية 1898 عن صداقته للمسلمين في العالم وسلطانهم عبدالحميد الثاني، مدشنًا بذلك سياسة إسلامية مضادة لتلك البريطانية، اعتمدت هذه السياسة الألمانية الإسلامية الجديدة على حَثّ المسلمين على إنشاء الجامعة الإسلامية تحت مظلة الخلافة العثمانية، كما ذكر حسين فيض الله الجاف في كتابه سابق الذكر، الفكرة التي أطلقها السلطان عبدالحميد الثاني، كمحاولة منه لبعث الروح الإسلامية في مواجهة أوروبا الاستعمارية، ويوضح «الجاف» كذلك أن الإمبراطور الألماني لم يكتف بذلك، وإنما حاول استغلال «الجهاد الإسلامي» وأخذ يُحرّض المسلمين على الجهاد ضد دول الوفاق الودي في الحرب العالمية الأولى، «بريطانيا وفرنسا وروسيا»، التحريض الذي استمر كذلك بنفس الطريقة أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ كان يجري الترويج إلى إسلام أدولف هتلر، الذي كانت تربطه علاقة قوية بالحاج أمين الحسيني مفتي القدس حينها، الذي كان وراء تسليح النازي للمجاهدين الفلسطينيين والثوار العراقيين ومسلمي البلقان للدفاع عن أنفسهم أثناء الحرب.
ألمانيا والخليفة وثورة البوكسر الصينية
كانت الصين عرضة لاختراقات من الدول الأوروبية واليابان في القرن التاسع عشر، وخضعت عديد من المناطق لنفوذ الدول الاستعمارية، التي هيمنت على الاقتصاد الصيني بالكامل، وعام 1899 اندلعت ثورة جماعة البوكسر السرّية، وتعني باللغة الصينية «قبضة السلام والعدالة»، ضد الأجانب والإمبراطور تحت شعار «الموت للمحتلين الأجانب والموظفين المرتشين»، وعندما وصلت أخبار الثورة الصينية إلى مسامع السلطان عبدالحميد الثاني فرح بها كثيرًا، كما كان الشيوخ يدعون الله لنصرتها من على منابر المساجد في جميع أرجاء الدولة العثمانية، بحسب ما أورده الدكتور عبدالرؤوف سنو في كتابه «ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين» – ولم تُخف الصحافة العثمانية تعاطفها الشديد مع الثوّار الصينيين.
استمرت الثورة في تهديد الوجود الأوروبي في الصين، ومن هذا المنطلق، وكنهج اعتاد عليه الألمان في ما يبدو، طلب الإمبراطور فيلهلم الثاني التدخل من السلطان عبدالحميد الثاني، بأن يشترك في الحملة الأوروبية على الصين، ووضع السلطان بين فكي كماشة فمن ناحية أراد الاحتفاظ بعلاقات الصداقة القوية مع ألمانيا، ومن ناحية أخرى رأى أنه من غير اللائق أن يشترك خليفة المسلمين في حملة عسكرية أوروبية ضد إخوته في الدين، كما أن إلهاء الأوروبيين بالثورة الصينية يصرف انتباههم عنه ولو لفترة، وهو الذي كان يدعم الثوار المسلمين في الهند ضد البريطانيين، فكيف له أن يتدخل بقوات عسكرية لقمعهم في الصين.
أوضح «سنو» أن السلطان وجد الحل في سياسة المراوغة التي اشتهر بها، واللعب على التناقضات بين الدول الأوروبية، فحاول في البداية التحجج بالتكلفة المالية لحملة عسكرية بهذا الحجم على بلد بعيد، لكن الإمبراطور الألماني ألح في طلبه، وأرسل يطلب منه إرسال فرقة عثمانية من 14 ألف رجل لتنضم إلى القوات الألمانية في الصين، ومرة أخرى راوغ السلطان، وأعلن عن استعداده للانضمام إلى خطوات ألمانيا في الصين لإعادة الهدوء، استنادًا إلى علاقات الصداقة بين البلدين، وليس رغبة منه في الانضمام إلى «التجانس الأوروبي» ضد الصين، وبعد مفاوضات ومراوغات طويلة أرسل السلطان وفدًا عثمانيًا تألّف من 2 من كبار العلماء العثمانيين وهما حاجي طاهر أفندي، ومصطفى شكري أفندي، ومن العسكريين النقيب كاظم بك والملازمين محمد وحسن، والخادم محمد أفندي، برئاسة الجنرال أنور باشا – الذي شارك في الانقلاب على السلطان في ما بعد – وأبحر الوفد بتغطية ألمانية كاملة بلغت 7 آلاف و515 ماركًا ألمانيًا.
استهدف الوفد علنًا التواصل مع المسلمين في الصين، وتوصيل صورة الصداقة العثمانية – الألمانية لهم، ومحاولة الوصول إلى تسوية سلمية، لكنه فشل فشلاً ذريعًا في مهمته، واقتصرت مهمة الوفد في الدعاية للسلطان بصفته خليفة لكل المسلمين، ونجح السلطان في استغلال الموقف وإنشاء علاقات قوية مع المسلمين الصينيين، وفي السنوات التالية على إرسال الوفد، أرسل السلطان عديدًا من الوفود الأخرى، واستقبلت المدارس العسكرية العثمانية عديدًا من التلاميذ المسلمين الصينيين.
سكة حديد بغداد – برلين
أعلن السلطان عبدالحميد الثاني عزمه مد شبكة خطوط حديدية عبر الأراضي العثمانية تُكمل خط ألمانيا، الذي كانت ألمانيا حصلت على امتيازه 1882، في ما نشأت علاقة صداقة بين السلطان والإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني، الذي زار الدولة العثمانية للمرة الثانية العام 1898، وفي تلك الزيارة منح السلطان امتياز سكة حديد بغداد – برلين لألمانيا، الذي كان يخشى من تغلغل الرأسمال الأمريكي والبريطاني.
لكن أكثر ما أثار قلق الإنجليز- بحسب فيض الله الجاف- محاولة الألمان مد السكة إلى جنوب العراق والخليج العربي وهي مناطق لا تسمح بريطانيا أن يُنافس نفوذها أحد فيها.
ظل بسمارك حتى نهاية عهده لا يُحبذ مبدأ التغلغل الألماني في الدولة العثمانية خوفًا من إثارة بريطانيا، لكنه وافق على إرسال بعثة عسكرية ألمانية إلى إسطنبول عام 1882، فما يبدو أن تحقيق سياسة استقلالية لألمانيا كان يتطلّب علاقة قوية بالدولة العثمانية.
يرى «فيض الله» أن رؤية الألمان كانت تتمحور حول دولة عثمانية موحدة غير مجزّأة واقعة تحت حماية ألمانية بشكل غير رسمي، يُمكن بالتدريج تحويلها إلى مستعمرة ألمانية صرفة، بينما كان يرى السلطان عبدالحميد الثاني أنه يُمكنه الاعتماد على الألمان في تثبيت مركزه بين القوى الدولية، إضافة إلى مقاومة المد الانفصالي في أقاليم إمبراطوريته مترامية الأطراف.
كان خط السكة الحديدية تهديدًا مباشرًا للمصالح البريطانية، حيث كان بمثابة طريق حرير جديد يربط قلب أوروبا بقلب الشرق الأوسط، بعيدًا عن نفوذ بريطانيا، ويعتبره بعض المؤرخين من بين أبرز أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى.
امتد الصراع الاستخباراتي الدبلوماسي الاقتصادي حول الخط الحديدي منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، بين محاولات العمل والتغلب على الصعوبات الهندسية والتضاريسية، واستكمال المشروع، ومحاولات وقفه ووضع العراقيل أمامه.
وصل الخط إلى مدينة قونية عام 1894، وتوقف العمل لعدة سنوات بسبب الاعتراضات من فرنسا وروسيا، عامة، وبريطانيا خصوصًا، واستؤنف العمل عام 1911، على يد نظام الاتحاديين الذي أطاح بالسلطان عبدالحميد الثاني عام 1909، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، لم يبق لإتمامه إلا الجزء الممتد من الموصل إلى سامراء، فبُني حينها برؤوس أموال إنجليزية خاصة، بعد أن استولت بريطانيا على العراق، ولم يعد هناك شيء اسمه الدولة العثمانية، كما لم يعد هناك شيء اسمه الإمبراطورية الألمانية.
ألمانيا والجامعة الإسلامية
شهد القرن التاسع عشر تراجعًا مشهودًا للدول الإسلامية التي باتت تُعد على أصابع اليد الواحدة، كانت الدولة العثمانية مركز الخلافة الإسلامية، وفي أقصى الغرب كانت السلطنة المغربية محافظة على استقلالها، فلم يكن المغرب مثل سائر أقطار شمال إفريقيا التي طلبت النجدة من العثمانيين لحمايتهم من الحملات الأوروبية، إذ كان يتمتع بالقدرة على حماية نفسه أمام الهجمات الإسبانية والبرتغالية والفرنسية حتى بدأ الضعف يدب في الدولتين معًا العثمانية والمغربية، وكان تيار «الجامعة الإسلامية» من أبرز ردود الفعل على تكالب أوروبا على العالم الإسلامي، التيّار الذي دعمه السلطان عبدالحميد الثاني، وسعى حثيثًا لتقوية أواصر التعاون بين المسلمين حول العالم.
كانت السلطنة المغربية من الدول الإسلامية التي أصبحت متقاربة في قوتها مع الدولة العثمانية حينذاك، وجمعها بالدولة العثمانية نفس الخوف من التغوّل الاستعماري الأوروبي، لذا تعددت محاولات التقارب والتحالف العثماني – المغربي، تحت شعار «الجامعة الإسلامية».
رأت ألمانيا أن تستغل محاولات إحياء «الجامعة الإسلامية» بين البلدين وتدفعها إلى الأمام – بحسب الدكتور عبدالرؤوف سنو في بحثه عن «الدبلوماسية الألمانية ومحاولات إحياء «الجامعة الإسلامية» بين السلطنة العثمانية والمغرب الأقصى (1870 – 1890) – وذلك لتحقيق مصالحها في شمال إفريقيا، التي بدأت تجارية وتحوّلت إلى سياسية وكانت انعكاسًا لسياستها تجاه أوروبا عمومًا، وفرنسا على وجه الخصوص.
وكما أرّقت المسألة الشرقية أوروبا لقرون، فإن المسألة المغربية لم تكن أقل منها، المسألتان اللتان جعلت كلاً من السلطان الحسن الأول والسلطان عبدالحميد الثاني يسيران في طريق «الجامعة الإسلامية»، في ما حاولت ألمانيا انتهاز الفرصة، والدفع بالعلاقات العثمانية – المغربية إلى الأمام، لمناهضة النفوذ الفرنسي ومحاصرته في شمال إفريقيا.
بعيدًا عن الخوض في التفاصيل، وبعد معارك دبلوماسية واستخباراتية طويلة، نجحت السياسة الفرنسية – البريطانية، في كبح جماح التقارب العثماني – المغربي، المدفوع ألمانيًا، ففي النهاية لم تكن ألمانيا تنظر إلى الدولة العثمانية والسلطنة المغربية إلا كأحجار شطرنج يُمكنها الاستفادة منها في سياستها ضد كل من فرنسا وبريطانيا، ولتجد لنفسها مكانًا تحت الشمس.
الأزمة المراكشية
في ظل احتدام الصراع الفرنسي – المراكشي، رسا يخت الإمبراطور الألماني في طنجة، 31 مارس 1905، وأعلن القيصر في خطبة ألقاها في الميناء تأييده استقلال مراكش دون أي مساس بأي جزء من أرضها في ظل سياسة المساواة بين الدول، – وفقًا لما ذكره جاوان حسين فيض الله الجاف في كتابه عن الدبلوماسية الألمانية – ما أدى إلى انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء يناير 1906، الذي ناقش فيه ممثلو الدول العظمى المشكلة التي أثارتها زيارة قيصر ألمانيا إلى طنجة.
كانت الدول الغربية متفقة على خضوع المغرب، فوضع تحت حماية القوى الأوروبية الاستعمارية الرئيسية بما فيها فرنسا وإسبانيا وبريطانيا وإيطاليا، برعاية من الولايات المتحدة الأمريكية كوسيط، تحت ستار الإصلاح والحداثة، وكان المؤتمر بمثابة هزيمة للسياسة الألمانية في مراكش.
عام 1911 شهد هزيمتين جديدتين للسياسة الألمانية الإسلامية، إذ شعرت إيطاليا أن عليها التحرّك لغزو ليبيا، التي كانت تراها امتدادًا طبيعيًا لأراضيها، وأنها لو ظلت صامتة ستقف ليبيا إما في قبضة الفرنسيين، أو في قبضة الألمان الذين بدأوا في التوغل التدريجي في الشمال الإفريقي كجزء من توغلهم في الدولة العثمانية، حاولت الدولة العثمانية التصدي للغزو الإيطالي، وانتهى الأمر باحتلال ليبيا واحتلال الجزر العثمانية المتناثرة في بحري إيجة والمتوسط، التي كانت تمد المقاومة الليبية بالرجال والسلاح.
من ناحية أخرى، عندما احتلت فرنسا مدينة فاس المغربية، أرسلت ألمانيا الطرّاد بانثر إلى ميناء أغادير على المحيط الأطلسي، لمساندة سلطنة المغرب، ما أحدث رد فعل عاجل في باريس ولندن، وهدد حينها وزير المالية البريطاني لويد جورج ألمانيا بالتدخل العسكري.
وجدت التهديدات البريطانية – الفرنسية أذانًا صاغية في ألمانيا، التي تخلت عن المغرب، مقابل حصولها على جزء من الكونغو الفرنسية، لتضمها إلى مستعمراتها في الكاميرون.
ألمانيا والمسلمون والحرب العالمية الأولى
ما سبق يوضح لنا كيفية التفكير الألماني في استغلال المسلمين ودولهم للحفاظ على مصالحها؛ الكل كان على علم بأن حربًا ما ستنشب في أوروبا، لكن لا أحد كان يعلم متى تحديدًا ستقع، وهي التي كانت شرارتها الأولى على وشك الاشتعال في المغرب.
كان السلطان عبدالحميد الثاني يلعب على تناقضات مصالح الدول الأوروبية، وكان يتطلع إلى نشوب حرب كبرى بينها، يخرج بدولته منها سالمًا.
بينما كانت ألمانيا تلعب على الوتر الإسلامي لدعم خلافة برعايتها تبسط نفوذها على العالم الإسلامي، ومن هذا المنطلق بدأت مهمة المستشرق وعالم الآثار والمؤرخ الألماني ماكس فون أوبنهايم، في الشرق الأوسط، المهمة التي كانت تستهدف إلى جانب الدراسة العميقة للشرق، استنهاض روحه من جديد، ومحاولة إعادة بعثه ليس بعثًا حضاريًا مستقلًا، وإنما بعثًا يخدم مصالح ألمانيا.
عملت بريطانيا على تقوية النزعة القومية العربية مقابل النزعة القومية التركية، بهدف تفتيت الدولة العثمانية، واستعانت بالضابط توماس إدوارد لورنس «لورنس العرب»، ضمن عديد من أدواتها، ونجحت في نهاية الأمر.
في مقابل لورنس العرب البريطاني، كان يعمل ماكس أوبنهايم الألماني، على تغذية روح اللحمة والوحدة الإسلامية، لكي يشتد عود الدولة العثمانية في حربها ضد كل من روسيا في الشمال والشرق، وبريطانيا في الجنوب، والغرب، وربما كانت مهمة أوبنهايم أسهل قبل انقلاب الاتحاد والترقي على السلطان عبدالحميد الثاني، 1908 – 1909، الجمعية التي غذّت روح القومية التركية مقابل بقية القوميات في الدولة العثمانية، ما سهّل من مهمة لورنس مقابل مهمة أوبنهايم.
ترأس أوبنهايم مكتب مخابرات الشرق الألماني، أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان يعمل جاهدًا على إشعال الثورة في كل من الهند ومصر ضد بريطانيا، وعنه نقلت «دويتش فيلله» أنه قال عندما تولى منصبه «يجب على قناصلنا في تركيا والهند وعلى جواسيسنا وغيرهم الدفع بالعالم الإسلامي بأسره إلى التمرّد على هذه الكتلة من التجار الكاذبين بلا ضمير.. على الأقل يجب أن تفقد بريطانيا الهند».
ألمانيا والمسلمون والحرب العالمية الثانية
سعت ألمانيا إلى التقارب مع العالم الإسلامي، فترة ما بين الحربين، وبعد وصول أدولف هتلر إلى الحكم عام 1933، ازداد اهتمام السياسة الإمبريالية الألمانية بشؤون الشرق الأوسط، وتجّلى ذلك في نشاط الجمعيات المهتمة بالشرق، وتنظيم الطلبة العرب والمسلمين الذين كانوا يدرسون في ألمانيا، وأصبحت عديد من الدول العربية والإسلامية مسرحًا للدعاية الألمانية، على سبيل المثال زار بلدور فون شيراخ رئيس اتحاد الشباب الألماني عديدًا من العواصم منها دمشق وبغداد وطهران، كما زار غوبلز وزير الإعلام النازي مصر فبراير 1939، ولاقت الدعاية النازية صدى قويًا في المنطقة، بحسب ما ذكره الدكتور محمد أحمد، الأستاذ بقسم التاريخ في جامعة دمشق، في بحثه تحت عنوان «التطور التاريخي للعلاقات الألمانية – السعودية في ثلاثينيات القرن العشرين في ضوء الوثائق الألمانية»، الذي نُشر في مجلة جامعة دمشق، المجلد 26، العدد الثالث+الرابع 2010.
كما حظي النمط الألماني لتنظيمات شبه عسكرية وشبابية كالكشافة والكتائب، وبعض الشعارات لا سيما نظرية القائد بشعبية كبيرة، ما أثّر في نشأة ومسيرة عديد من الحركات السياسية الإسلامية وغير الإسلامية في المنطقة، إضافة إلى ذلك دُعي بعض الساسة العرب إلى مهرجان الحزب النازي في نورمبرغ، وبدأت ألمانيا في بث إذاعة باللغة العربية تحت اسم «هنا برلين» عام 1939.
كانت هناك نظرة إعجاب سائدة لدى شريحة عريضة من المسلمين حول العالم تجاه النموذج الألماني النازي الصاعد حينذاك، مشابهة لتلك النظرة للقائد التركي مصطفى كمال أتاتورك الذي شبهه أمير الشعراء بخالد بن الوليد- رضي الله عنه- حينما أحرز انتصارات على جيوش الحلفاء، إذ رأى هؤلاء أن هناك من سيُنقذهم من نير الاستعمار.
لكن فيما يبدو أن الخدعة ذاتها كانت قائمة، فمن استعمار إلى آخر كان سيؤول مصير الشعوب، وهذا ما كشفت عنه بعض الوثائق في الأرشيف الألماني بتاريخ 20 أغسطس 1940- التي نقل عنها الدكتور محمد أحمد في بحثه سابق الذكر- أن الأهداف المستقبلية لألمانيا النازية كانت تتمثل في السيطرة على آبار البترول في كركوك وعبدان والكويت وأنابيب النفط التي تصل إلى طرابلس، وحيفا، ومصافي البترول في المنطقة العربية، كما هدفت إلى تأمين خطوطها الجوية ومتابعة أعمال التنقيب الأثرية في المشرق العربي.
كانت العلاقات الألمانية – السعودية في أفضل حالاتها قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وحدث أول اتصال عام 1937، عندما زار الطبيب الخاص للملك مدحت شيخ الأرض – سوري الأصل – برلين، وأوضح للمسؤولين الألمان أن الرايخ الثالث من دول أوروبا القوية محط اهتمام الملك عبدالعزيز آل سعود الشخصي، وطلب من الألمان تزويد المملكة بالأسلحة، لتتوالى الزيارات المتبادلة بين البلدين.
هتلر الذي كان يسعى إلى قطع خطوط بريطانيا الممتدة إلى الهند بدا له أن إرسال السلاح إلى السعودية التي ستمد الثوار في فلسطين بقسم منه سيكون طريقة مناسبة لخلق مزيد من الصعوبات لبريطانيا.
تطورت العلاقات الألمانية – السعودية سريعًا، وتم الاتفاق على صفقة أسلحة كانت عبارة عن «8 آلاف بندقية مع 8 ملايين طلقة، أو مصنع صغير لإنتاج الذخيرة يقام داخل المملكة، وبضع مدرعات مصفحة، ومدفعية خفيفة ضد الطائرات»، أهدت ألمانيا منها 4 آلاف بندقية من أحدث طراز مع ألفي طلقة ذخيرة مع كل قطعة كهدية ألمانية إلى المملكة، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية سبتمبر من نفس العام أعاق وصول بقية صفقة السلاح إلى السعودية.
بقيت السعودية حتى 28 فبراير 1945 دولة محايدة، لكن الملك اضطر إلى إعلان الحرب على ألمانيا ودول المحور 1 مارس 1945، مثله مثل بقية الدول، وكان في الواقع يقف إلى جانب بريطانيا.
كما كانت العلاقات الألمانية – العراقية مميزة، بفضل وجود الدبلوماسي الألماني المحنك الدكتور غروبًا المبعوث الألماني إلى الشرق، الذي كان له تأثير كبير في أوساط الجالية الأوروبية في بغداد، وكان وراء اندلاع ثورة رشيد علي الكيلاني، وكان يذهب في زيارات إلى الدول المجاورة ومنها المملكة العربية السعودية.
ظل الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، طريدًا من بلد إلى آخر حتى وصل ألمانيا، والتقى القائد النازي أدولف هتلر، وكبار رجال الرايخ، وأكد استعداده للتحالف معه ضد «الصهيونية»، ويبدو أنه لم يكن الوحيد هناك من العرب والمسلمين، الذين فضلوا التعاون مع دول المحور، ففي مذكراته يقول الحاج أمين الحسيني، أنه وصل برلين يوم 9 نوفمبر 1941، حيث استقبله عدد من كبار رجال الرايخ، ويحكي أنه أثناء مكوثه في قصر شلوس بيلفو زاره عدد من كبراء العرب والمسلمين الشرقيين، بينهم غلام صديق خان وزير خارجية الأفغان الأسبق، والزعيم الهندي سبهاس شاندرابوز، وبعض زعماء أذربيجان والقوقاز وغيرهم من مسلمي روسيا الذين كانوا يتعاونون مع النازي لمواجهة الروس.
أكد هتلر للحاج أمين الحسيني، أن النضال ضد وطن لليهود في فلسطين سيكون جزءًا من النضال ضد اليهود، وقال له إنه سيواصل النضال حتى الدمار الكامل للإمبراطورية الأوروبية اليهودية الشيوعية، وعندما يكون الجيش الألماني متقاربًا مع العالم العربي، ستُصدر ألمانيا تأكيدًا للعالم العربي أن ساعة التحرير قد حانت، وثم يتحمل الحسيني بعد ذلك مسؤولية التحرّك العربي الذي طالما أعد له سرًا.
شجّع الحاج أمين الحسيني، المستشارية الألمانية على تدريب المتطوعين العرب عسكريًا، وحشدهم للقتال مساندة لثوار العراق، وتدريب المجاهدين للاستعداد للقتال في فلسطين بعد انتهاء معارك الحرب العالمية الثانية، وشكّل النواة الأولى للقوات العسكرية العربية في دول المحور، إضافة إلى تجنيد وتدريب مسلمي يوغوسلافيا، ضد الصرب.
يتضح مما سبق كيف كانت تتوافق المصالح الألمانية، والإسلامية، في كثير من الأحيان، وذلك من بسمارك وحتى هتلر.
وهكذا كانت تُدار اللعبة السياسية باستخدام سكان البلاد لمصالح هنا وأخرى هناك، وهكذا اختلفت النظرة الألمانية المستقلة للمسلمين عن النظرة البريطانية والفرنسية، وهكذا حاولت ألمانيا استغلال المسلمين وضمهم معها في خندق واحد لضرب المصالح البريطانية والفرنسية والروسية، مستخدمة «قوتهم الروحية» و«شعارات وحدتهم وأخوتهم»، كأداة لضرب أعدائها وتحقيق مصالحها بغض النظر عن أي اعتبارات لمصالحهم أنفسهم، وأثبتت الأحداث السابقة كذلك أن الألمان كانوا على استعداد تام لدهس أي التزامات عليهم تجاه حلفائهم المسلمين – إن جاز التعبير – لتحقيق مآربهم.