كيف صورت السينما الصهيونية العرب؟
عندما حان الوقت المناسب لكي يتحلى «تيودور هرتزل» بالقدر الكافي من الشجاعة لتقديم مقترحه بفكرة إنشاء وطن قومي لليهود على أية أرض تصلح لأن تكون مساحة من العيش، فحبذا لو كانت عربية وتحديدًا فلسطين استنادًا إلى القليل من الذاكرة الدينية ذات البعد التاريخي، والكثير من الشواهد السياسية ذات المحور الجغرافي، والتي تربطهم بتلك الأرض، لم يَدُر في خُلد الصحفي المغمور الذي لم تشفع له تغطيته الجيدة لأحداث (محاكمة دريفوس) أن يؤمن به مدير تحرير مجلة (دي بريس) النمساوية كمحرر سياسي -على أمل الترقي- حينها عن التصورات المحتملة بين اليهود المستعمرين والسكان المحليين، وعن الصفة القومية والسياسية لتلك الدولة حديثة النشأة، وعن الحل الذي سَيُجريه أتباعه مع السكان الأصليين لتلك الأرض، بل إنه لم يتكلف حتى عناء الجهد لوضع حلول تتيح استمرارية تلك الدولة اليهودية على هذه الأرض الجديدة، فكل ما كان يشغله هو مساحة من العيش تتاح فيها إقامة وطن لليهود بعض النظر عن الحلول المادية والتي تتيح استمرارية ذلك الوطن في الحيز الوجودي.
لذلك لا يجب التعويل على كتاب (الدولة اليهودية) لهرتزل باعتباره مرجعًا أخلاقيًا لفهم الأبعاد السياسية والتاريخية والشيفونية للمسألة الصهيونية منذ بذرتها الأولى، وينصح بقراءته كنوع من أنواع (الخيال الأدبي – Literature imagination) لفتى طموح أراد أن يغير العالم، ولكن كل ما كان يملكه هو القليل من الشجاعة والكثير من تأرجح اليقين؛ بعد خمسين عامًا من ذلك وأمام الضغط الزمني للحظة تاريخية، سيضطر الكاتب المسرحي الأوكراني ذو الأصول اليهودية (زئيف جابوتنسكي) أن يغادر العاصمة كييف على عَجَل ويُجيب على تلك الأسئلة.
رؤية جابوتنسكي كانت عملية أكثر وبالتالي أكثر واقعية من رؤية هرتزل الفقيرة الحالمة، فهو يرى أنه من المستحيل عقد سلام مع الجيران العرب نهائيًا، فهم بحسب طبيعتهم القبلية وفِطرتهم الدينية لن يتقبلوا فكرة وجود مستعمر في مساحة عيشهم، بل إن مجرد التفكير في العيش الآمن للدولة الحديثة في محيطها الجغرافي الموغل في القِدم من خلال نافذة الدبلوماسية: ينبع من نظرة ضعيفة للدولة اليهودية، والتي لابد أن تكون قوية ورادعة، والحل من وجهة نظره يكمن في أمرين: أولهما تدشين قوة عسكرية مدمرة وقاتلة لا ترحم فتصيب العرب بحاجز نفسي يفقدهم أي رجاء في التخلص من مستعمرهم وتسمح لليهود بفرض السيطرة الجبرية على كامل (فلسطين) التاريخية وتأمين مساحة من العيش شمالًا عبر إحكام السيطرة على الموارد الطبيعية في شرق الأردن.
والثاني أوكله جابوتنسكي إلى آلة دعائية ضخمة لابد من اقتطاعها أخلاقيًا وميكنتها زمنيًا وأيديولوجيًا لتناسب الظرف السياسي والجغرافي المُعاش بغض النظر عن عدم انسجامه أي: ذلك الظرف مع بعض الحقائق الدينية والتاريخية والديموغرافية للآخر “فنًا” يحمل ثيمة عسكرية في طياته يعمل على الترويج لأسطورة تلك القوة وإصابة الآخر بعجز نفسي في قهرها أو النيل منها، سينما صهيونية تحقق الـ (أوت تسخينوت) أو علامة النصر للمجتمع اليهودي في أعين المشاهد العربي كما وصفها عز الدين المناصرة في كتابه (السينما الإسرائيلية تاريخ وأيديولوجيا) تعمل على إخراج العرب معنويًا من محيطهم الجغرافي وإفراغهم نفسيًا من هويتهم المشتركة من خلال نظرة منحطة لهم وإظهارهم بأشد مظاهر الليفانية الغارقة في القدم.
للأمانة لقد رفض كل أعضاء المؤسسة الصهيونية أفكار (جابوتنسكي) واعتبروها إعلانًا عن نوبة كراهية لا تُعلم تبعاتها، لكن ديفيد بن جوريون الذي سيظل لسنوات طويلة غارقًا في مستنقع التيه السياسي حاملًا بين يديه المرتعشتين (حلم الدولة) واستمرارها من عدمه لم يجد أمامه إلا تنفيذها؛ سارع بإنشاء بما سيعرف لاحقًا (بجيش الدفاع) عبر دمج منظمة الهاجانا الصهيونية بجانب منظمات أخرى كالتشيرن والأراغون، وأنشأ على عَجَل ودون أخذ المشورة من أحد صندوقًا تشاركيًا يهدف إلى جمع التبرعات من أعضاء الجمعية الصهيونية في الخارج والداخل لدعم صناعة السينما في إسرائيل، الذي سيكون عاملًا أساسيًا فيما ستنتجه آلة الدعاية الإسرائيلية من أفلام وعروض ترفيهية أغلبها يتناول الواقع العربي في وقت السلم و قوة الردع لديه في زمن الحرب.
لعبة الاستجداء
تُعرف نوعية أفلام الاستجداء – Begging movies على حسب وصف الناقد الفرنسي جورج سادول أنها السينما التي تناقش بعض النكبات الإنسانية ذات الأيديولوجيا السياسية والدينية والعرقية كقضايا التمييز والفصل العنصري باسم الدين أو الهوية أو على أساس اللون والدم؛ تعتمد أفلام الاستجداء العاطفي ذات الصبغة الأيديولوجية في المقام الأول علي استثارة العاطفة الإنسانية ذات البعد الأخلاقي في نفس المشاهد وصَهرهِ سياسيًا بحيث يعيد تكوين مفاهيم أخرى بغض النظر عن مخالفتها الواقع الزمني والتاريخي للمأساة.
يعتبر أول فيلم ظهر حاملًا ثقل ذلك الاسم بداخله هو الفيلم الأمريكي The pale face الذي أُنْتِج سنة 1922، وكان يسلط الضوء على مأساة التطهير العرقي بحق السكان المحليين الأمريكيين من قبل البِيض، لتبدأ بذلك سلسلة طويلة من أفلام الاستجداء – Begging movies التي اختلفت قليلًا عن سينما المأساة، فسينما الاستجداء كانت لا تلتفت إلى المعاناة ما لم تحمل في طياتها رمزًا سياسيًا يمكن الإشارة إليه بالإصبع.
يحكي الفيلم الأيرلندي Jesus doesn’t answer الذي أنتج سنة 2002، قصة عائلة رواندية مكونة من سبعة أفراد من (التوتسي) اضطرت للهرب بحياتها من جحيم الإبادة الجماعية على يد (الهوتو) عبر أنفاق الصرف الصحي ليموتوا واحدًا تلو الآخر بسبب الاختناق وانعدام الأوكسجين تحت الضغط الأرضي في مواسير المياه، مفضلين الموت بالاختناق على أن يموتوا بالرصاص.
لعبت السينما الإسرائيلية على تلك الثيمة الإبداعية، بل يمكن القول إنها أتقنتها وعن جدارة، فبعد تأسيس دولة إسرائيل وتصاعد فصول الصراع العربي الإسرائيلي والحروب التي نشبت بين الطرفين، وَظَفَ بعض السينمائيين اليهود عقدة الذنب المتعلقة بالهولوكوست من خلال السينما وبعض الأعمال الإبداعية الأخرى، فمع كل مشكلة أخلاقية وسياسية تواجهها إسرائيل مع محيطها الجغرافي من العرب، تلجأ إلى صناعة أفلامٍ تَروي المأساة التي تعرض لها اليهود في الهولوكوست؛ تحولت المحرقة النازية إلى أداة للابتزاز العاطفي واستجداء الشعور الأُممي وتأرجح يَقينُه، قبل أن تتمدد لتصبح إرثًا فنيًا قائمًا بذاته، ومادة خصبة للمظلومية الإنسانية والسياسية التي يمكن من خلالها شَرعنة ما تقوم به إسرائيل من تجاوزات أخلاقية وعسكرية بحق محيطها الجغرافي تجنبًا وردعًا لمآسٍ أخرى قد تتعرض لها.
يحكي الفيلم الأمريكي Forty forty الذي أنتج سنة 1949 بإشراف يهودي من جاكوب بن دوف قصة (صوفيا) الفتاة اليهودية التي اضطرت أن تُعاشر جنسيًا أحد الجنود الألمان مقابل تهريبها من معتقل أوشفيتز قبل أن تطرأ أمور عسكرية يُنْقَل على إثرها ذلك الجندي ليشارك في القتال المحتدم على الجبهة الشرقية ويُبدل بغيرهِ فتضطر إلى أن تعقد صفقة جنسية أخرى مع ذلك الجندي الجديد قبل أن يتم نقله إلى الوحدة الوقائية النازية والمشاركة في أعمال القتال ضد البارتيزان في محمية مورافيا وبوهيميا (بلغاريا حاليا) وهكذا إلى أن تعاشر هذه الفتاة أربعين جنديًا ألمانيًا لتموت في النهاية مختنقة في إحدى أفران الغاز النازية.
بينما يحكي الفيلم اليهودي Bag 35 الذي أنتج سنة 1952، قصة عائلة يهودية بعد الغزو النازي للاتحاد السوفيتي من الشمال واضطرارهم إلى الموت غرقًا في بحر آزوف خشية وقوعهم في يد الألمان وترحيلهم إلى معسكرات النازية حيث إما سيتم حرقهم أو إجراء بعض التجارب العلمية على أجسادهم.
أما في السنوات الأخيرة فقد ظهرت بعض الأفلام التي اتخذت من المحرقة موضوعًا أساسيًا (عازف البيانو – The Pianist) سنة 2002 لليهودي ذي الأصول البولندية رومان بولانسكي و (قائمة شندلر – Schindler’s List) للمخرج اليهودي ستيفن سبيلبرغ سنة 1993 و (أوروبا أوروبا – Europa Europa) الذي أنتج سنة 1990 لليهودية البلغارية أفنيسكا هولاند.
مجرد سينما أم استهانة بالآخر؟
تعد فترة الخمسينيات من القرن الماضي الفاصل الزمني بين استقلال إسرائيل سياسيًا وتاريخيًا عن الرعاية الأمريكية وأيضًا استقلالها سينمائيًا عن دور العرض في هوليود، بدأت السينما الصهيونية في ذلك الوقت تتلمس طريقها لوحدها دون وصاية أمريكية، أصبح لها كيانها المنفرد ومادتها الخاصة التي كانت أغلبها مادة عربية خالصة تناقش قضايا اجتماعية ودينية وسياسية في المجتمعات العربية شديدة الحساسية والخصوصية، وبخاصة التي كانت تتسم بالعداء لها كمصر وسوريا والعراق ولبنان والأردن، سينما استفزازية وغير أخلاقية كما يصفها الناقد المصري سمير فريد في كتابه (مدخل إلى السينما الصهيونية) وكان أشهرها فيلم (الخروج) الذي تضمن كَمًا كبيرًا من المغالطات التاريخية وتزوير الحقائق لتشوية صورة العرب وإظهارهم بمظهر الوحوش المتعطشة للدماء وقتل اليهود الأطفال وعمل مقاربة تاريخية وثقافية بين صورة العربي وصورة الهنود الحمر.
بعد حرب الخامس من يونيو / حزيران 1967 وقعت إسرائيل في مأزق سياسي أدى إلى تراجع شعبيتها في الدول الداعمة لها بخاصة بعد ما ارتكبته من جرائم عسكرية بحق الأسرى والمدنيين في الأراضي المُستولى عليها فشرعت إلى اتباع خط جديد تمثل في إظهار الجيش الإسرائيلي كضحية للجيوش العربية التي أرادت أن تلقي به إلى البحر، فما كان له إلا أن يسرع في الدفاع عن نفسه وعن مساحة العيش للشعب اليهودي عبر ردع تلك القوى وتفكيكها من منبعها.
يروي فيلم (البرعم) الذي أنتج سنة 1969، قصة الضابط الإسرائيلي «ماعير داغان» الذي يعمل بجهاز الموساد الإسرائيلي وينجح في إقناع وزراء وشخصيات ذات حساسية مقربة من دوائر القرار في الدول العربية بالعمل لصالح إسرائيل مقابل مبالغ مالية ضخمة لا يحظون بمثلها في بلدانهم، ومن خلال هذه الشبكة المعقدة يعرف ذلك الضابط بأمر الهجوم المشترك الذي ستشُنه الدول العربية على إسرائيل، والجرائم التي يودون ارتكابها بحق النساء والأطفال اليهود بعد نجاح الغزو.
وعلى الرغم من أن الفيلم يحمل الكثير من المغالطات التاريخية، كأمر الهجوم المشترك على إسرائيل الذي لم يكن سرًا على الإطلاق بل إن عبد الناصر نفسه كان يعلنه على الملأ ومن خلال راديو صوت العرب الذي كان يبث من القاهرة وتتناقله جميع الدول العربية والأجنبية، فإن الفيلم لقي قبولًا شديدًا في أمريكا وأوروبا الغربية مُعَولين على الموساد الإسرائيلي باعتباره الدرع الحديدي أمام النزعة العدائية العربية لكل ما هو غربي.
يعمل (ملف القدس) الذي أنتج سنة 1972، على إظهار إسرائيل بمظهر الساعي للسلام مقابل التجمد العربي عند نقطة العداء لليهود ورفضهم السلام ليس لأن جزءًا من أرضهم تم الاستيلاء عليه عنوة، بل لأن فِطرتهم البيئية والدينية ترفض أمرًا مثل ذلك، يقول أحد أبطال الفيلم مخاطبًا وفدًا أمريكيًا جاء لزيارة إسرائيل للبحث عن هدنة عسكرية بين الجيش المصري والإسرائيلي في بداية ما يعرف بحرب الاستنزاف (العرب لا يودون قتلنا لأننا هنا، بل لأنهم يريدون ذلك).
تظهر الاستهانة الإسرائيلية بقوة الردع العربية مرة أخرى ولكن هذه المرة بصورة أكثر خيالية ودعائية وبالتالي أكثر استفزازًا واستهلاكًا، يروي فيلم (حقيبة القاهرة) الذي أنتج على عَجَل في فترة حشد المجتمع الإسرائيلي لحرب الخامس من حزيران / يونيو 67، قصة عميل إسرائيلي في مركز ذري لإنتاج الصواريخ المصرية يديره عالم ألماني، وعندما تتمكن الأجهزة المصرية أخيرًا من الكشف عن هويته، ينجح في الحصول على كم كبير من المعلومات تتعلق بمشروع تطوير الصواريخ المصرية، ويصل إلى تل أبيب عبر الحدود المصرية، إنها محاولة تبدو معقولة لإحياء الهوية الإسرائيلية والعمل على تصدير نموذج بطل (مارفيل) الخارق في نفس المواطن الإسرائيلي على الرغم من سذاجتها وإفراطها في عنصري الخيال والاستهانة.
سينما بنكهة الاستعمار
تعد الفوارق الفنية بين السينما الإسرائيلية واليهودية والصهيونية امتدادًا للفارق الثقافي والسياسي والديني بين الإسرائيلي واليهودي والصهيوني، فإذا كان التمايز فيما بينهم يصبح صعبًا للغاية في المجال السياسي فإنه يظل ممكنًا في مسألة مثل الفن، وبخاصة السينما، ففي حين اكتفت السينما اليهودية بمناقشة بعض القضايا الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع اليهودي من منظور ديني وتاريخي كمفاهيم الخير والشر ومعنى العدالة، وماهية الخلق وموقف الدين اليهودي من المثلية الجنسية والمرأة ومجتمع الميم/ عين وما إلى ذلك من قضايا تمس الجانب الروحاني في نفس المواطن الإسرائيلي، وتذكيره بيهوديته المفتقدة في دولة الانفتاح السياسي الكبير والرفاهية متعددة الجوانب، بعد افتقاده لثقافة «الجيتو» الانغلاقية في المدن الأوروبية الكوزموبوليتاتية أو في الأحياء الشرقية المتسامحة، فتصف الناقدة الإسرائيلية (إيلا شحاط) في كتابها (السينما الإسرائيلية فكر وأيديولوجيا) هذا النوع من السينما أنه رديءٌ للغاية، ويحاول جاهدًا أن يحمل الجانب النظيف من السينما في إسرائيل ولكنه هو الآخر موظف من جانب اليمين الإسرائيلي المتطرف ويحمل في داخله البعد السياسي الراديكالي أكثر منه الواعظي والديني، وبالتالي يفتقد إلى استقلالية الإبداع ووسطية الطرح.
كما يعد فيلما (ابنة الحاخام) الذي أنتج سنة 1975، و(التل الصامت) إنتاج 2004، نموذجين يمكن الاسترشاد بهما عبر محاولة اليمين الإسرائيلي بربط الهوية الدينية اليهودية بالهوية الوطنية والجغرافية لإسرائيل، وبقائها في الحيز الوجودي من عدمه.
بينما ذهبت السينما الإسرائيلية التي اختلفت قليلًا عن السينما اليهودية من حيث مضمونِيتها وواقعيتها التي يمكن القول عنها إنها كانت أشبه بعروض ترويجية مبهرة، ناسبت ميول المشاهد الأمريكي والغربي الذي كان يحتاج إلى أداة لفهم السياق «الرومونبولتيكي» الذي تسير عليه الدولة حديثة النشوء، إلى استعراض بعض القضايا السياسية والثقافية بالمجتمع الإسرائيلي كالعلاقة بين الدولة اليهودية وجيرانها العرب وعمالة المرأة بالجنس والعنصرية على أساس الدين والعرق والهوية، التي يتعرض لها المُهاجرون في المجتمع الإسرائيلي بخاصة العرب منهم.
يناقش فيلم «أنا عربية» إخراج «عاموس جيتاي» فرضية تحقيق السلام الإنساني بين إسرائيل والعرب من خلال التعايش الآمن بغض النظر عن القضايا السياسية والتاريخية المتاخمة بين الطرفين التي كانت سببًا في ولادة ذلك الصراع وتَعقده، تدور أحداث الفيلم في قرية صغيرة بين «يافا» و«بات يام» ويتناول قصة حياة امرأة ولدت في معسكر الاعتقال النازي في «أوشفيتز» واعتنقت الإسلام وتزوجت من عربي.
القصة تستهوي صحفية شابة لتبدأ في استكشاف منطقة يعيش فيها مجموعة من المنبوذين العرب واليهود، وتكتشف كيف نجحوا في التغلب على المشاكل ويعيشون في وئام تحت كنف التساهل العذب الذي أشاعته ليبرالية إسرائيل وديمقراطيتها، بينما يتطرق فيلم “زجاجة في بحر غزة” إلى إمكانية نسف الصراع من جذوره استنادًا إلى قانون السجية أو الفطرة الإنسانية، يستعرض الفيلم مغامرة عاطفية تحدث بين فتاة إسرائيلية وشاب فلسطيني وعلى الرغم من رفض كلا المجتمعين هذه النوعية من الحب، فإنهما يتزوجان في النهاية ويعيشان في سلام بعيدًا عن كل هذا العداء المتأصل بين المجتمعين؛ إنها سينما قد تبدو حالمة و تجارية، تستعرض جوانب مظلمة من حياة المجتمع الإسرائيلي المتكتم، ولكنها أيضًا تظل خطابية وتحمل رسائل سياسية ذات مضمون أحادي.
تبقى السينما الصهيونية أحد ركائز الفكرة «الجابوتسكية» القائلة بإحداث فجوة نفسية في الذهنية العربية للحيلولة دون التكاتف لإزالة مساحة العيش اليهودية من محيطهم الجغرافي، في الحقيقة لا توجد دلائل تاريخية يمكن الرجوع إليها لرصد التحرك الفعلي لهذا النوع من السينما على مسرح الأحداث الفنية في إسرائيل، ولكن من المؤكد أنها بدأت بأفلام التبشير السياسي، التي كانت توقظ الحلم الصهيوني في نفس يهود الشتات التي قادها وعن جدارة «ياكوب بن دوف» من خلال فيلم روائي طويل صوّره على أرض فلسطين حمل اسم «حياة اليهود في أرض الميعاد».
عاد نفس المخرج سنة 1923 ليقدم «الفيلم اليهودي» الذي أنتج خصيصًا لتذكير البريطانيين بالجنود اليهود الذين حاربوا في صفوف جيشهم إبان الحرب العالمية الأولى، ويذكرهم بوعدهم بإنشاء وطن قومي لليهود، على الرغم من أن ذلك الفيلق عرض خدماته على الجيش التركي الذي حارب البريطانيين في تلك الحرب، وقُوبِل بالرفض من قادة الجيش التركي، بينما يبقى فيلم «هذه أرضك» للمخرج اليهودي «باروخ أجداني» أول فيلم صهيوني ناطق بالعربية، أخطر الأفلام التي تناولت قضية الاستيطان اليهودي في فلسطين، حيث أن العنوان وحده كفيل بأن يفرغ مضمونه ورسالته والهدف منه هو الترويج الدعائي المُبالغ للفكرة الصهيونية.
حتى تلك المرحلة ظلت السينما الصهيونية تسير على خط تبشيري دون التعرض للمشكلات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي سيُواجهها «يهود الشتات» عند استقرارهم في أرض الميعاد، ولم تضعهم أمام أسئلة مصيرية وأخلاقية من واقعهم المستجد فقط كانت مجرد سينما تُسوق للحلم وتَبيعه للمهاجرين الذين كانوا يحملون فوق أكتافهم الكثير من «الحيدرا ماخات» أو الاستعلاء الديني ووجدوا أنفسهم يتصارعون على القليل من الجغرافيا، ولكن بعد نضج الثمرة الصهيونية على شجرة الشرق الأوسط الكبير، ظهرت نوعية جديدة من الأفلام كان عليها أن تواجه الواقع الجديد بمستجداته الحضارية والثقافية والجغرافية والديموغرافية، فتابعت بإنشاء صورة البطل الإسرائيلي الذي خرج من مأزقه التاريخي ليمارس دوره المنوط به في أرض الميعاد، بمواجهة صورة العربي البدائي الفاقد للتجربة والمتعطش للدماء.
هذا النمط أصبح أداة من الأدوات مع عشرات الآلاف من المهاجرين سنويًا، وأصبحت السينما وظيفة قومية تَعبوية، لذلك وبعد دعم تشجيع صناعة السينما في إسرائيل سنة 1948 سيتم بناء استوديوهات «هرتزليا» الشهيرة التي ستكون النواة الأولى لخروج أفلام صك البراءة للمجازر الصهيونية في الأراضي العربية كفيلم كارتون «صبرا» الذي تبرأت فيه إسرائيل من مجزرة صبرا وشاتيلا أمام الملايين، وفيلم «لبنان» الذي يدور حول فترة الوجود العسكري الإسرائيلي في لبنان إبان حرب 1982 الذي صور الجيش الإسرائيلي على أنه خاض حربًا دفاعية بالفعل، ولم يتدخل ليهدد استقرار دولة مجاورة، ويُحيل مقوماتها المادية والبشرية إلى غبار، بنفس المنطقية التي وظفت فيها إسرائيل مأساة «الهولوكوست» لاستمالة الرأي العالمي في حروبها مع العرب، وكأن المحرقة النازية لُعبة أجادوا استخدامها.
في النهاية يمكنني القول إن هذا المقال ليس له علاقة بالحرب الدائرة الآن، بقدر ما يعتبر الأمر لا يتوقف على كونها حربًا، لقد رَوَى لي «أبي» الكثير من حروب قديمة خاضها أجداده في أزمنة غابرة، لقد شاهدت الكثير من «Military reality» في سينما الواقع الأمريكي، لقد رأيت بعيني طوال أربعة وعشرين عامًا نشرات الأخبار وهي تبث بغزارة أخبارًا عن صراعات مسلحة وتجاوزات ميدانية بحق المدنيين في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والقوقاز، ولكن هذه هي المرة الأولى التي أدرك فيها المعنى المادي للحرب وخطرها الوجودي وقدرتها على إفساد مخيلتي، ربما لأن من قُتل اليوم كان من المفترض أن يكون صديقي غدًا، ربما لأن من ماتوا جميعًا كان من المفترض أن يعيشوا أطول من ذلك، ربما لأن هذه الحرب أصبحت قريبة من بلادي فأخاف أن أنال نفس المصير.