كيف كسرت النساء احتكار الرجال للصوفية؟
التصوف النسائي بدأ مبكرًا في التاريخ الإسلامي، واشتهرت المتصوفة رابعة العدوية (ت 801م) في القرن الثاني الهجري، وكانت زاهدة، حتى إنها لم تتزوج؛ رغبة في التفرغ للتأمل والعبادة.
حظيت رابعة باحترام كبير بين المفكرين والعلماء المسلمين، ولم تكن مجرد تابعة لشيخ أو عالم، بل كانت ملهمة لغيرها، تقف رأسًا برأس مع أعلام التصوف كالحسن البصري وإبراهيم بن أدهم والجنيد البغدادي، وغيرهم من الرجال المتصوفين.
وربما يرجع ذلك إلى أن التصوف في القرون الإسلامية الأولى كان فرديًّا، ولم يكن بالتنظيم والبيروقراطية التي حدثت حين انتظم المتصوفة في «الطرق»، تلك الجماعات التي يهيمن عليها شيخ، ولها نظام إداري هرمي محكم.
هذا النظام الإداري قوَّض دور المرأة بدعم حكومي في مصر، ورغم ذلك استطاعت المرأة أن تكون موجودة، ولو بشكل موازٍ للتنظيم الرسمي… فكيف حدث ذلك؟ هذا ما نجيب عنه.
هكذا مُنعت المرأة «رسميًّا» من الطرق الصوفية
إرهاصات تأسيس الطرق الصوفية في العالم الإسلامي قد ترجع إلى القرن الثالث الهجري، بحسب دراسة لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية للباحث أبو الفضل الإسناوي بعنوان «خريطة الطرق الصوفية وتطوراتها في مصر».
ولكنها لم تكن بالهيمنة على التصوف، التي بدت في القرن التاسع عشر الميلادي في مصر، فمع وصول محمد علي باشا إلى حكم مصر عام 1806 كان للطرق الصوفية الدور الأبرز المهيمن على سكان الريف والحضر، بحسب دراسة بعنوان «الشيخة والحاجة: التصوف الإسلامي في مصر الحديثة Sheikha and Hagga: Female Sufi Mystics in 19th Century Egypt»، للباحثة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث بكلية نيويورك سيتي للتكنولوجيا ستيفاني بويل Stephanie Boyle.
دعَّم ذلك أن أغلب علماء ومشايخ الجامع الأزهر (المؤسسة الإسلامية العريقة) كانوا متصوفة، ما دفع محمد علي إلى محاولة السيطرة على تلك الطرق، بإشراك مشايخها في السلطة، حسبما تقول ستيفاني بويل.
وفي عهد الاحتلال الإنجليزي لمصر، وتحديدًا عام 1892 أُنشئ ما يعرف بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية (لا يزال قائمًا إلى الآن)، برئاسة الشيخ توفيق البكري، لتنظيم وإدارة الطرق الصوفية، من خلال مشايخ تتعامل معهم الحكومة وتعترف به، حسبما يرصد أستاذ الأنثروبولوجي فيرديناند دي جونج F de Jong في كتابه «Sufi orders in Ottoman and post-Ottoman Egypt and the Middle East: collected studies – الطرق الصوفية في مصر العثمانية وما بعد العثمانية والشرق الأوسط: دراسات مجمعة».
وحصر المجلس التصوف على 4 طرق رئيسية، هي: البدوية، الرفاعية، الشاذلية، القنائية، بحسب دراسة مركز الأهرام. وقد تضاف إليهما الطريقتان «الخلوتية»، و«القادرية» في بعض الأوقات، بحسب دي جونج.
وتتفرع من تلك الطرق عشرات الطرق الأخرى التابعة لها، فنجد أكثر من طريقة تابعة للشاذلية، وطرقًا أخرى تابعة للبدوية… وهكذا.
مع بداية القرن العشرين ظهرت تيارات فكرية منتقدة للصوفية مع الاعتراف بها وتقديرها، كالاتجاه الذي مثَّله شيخ الأزهر محمد عبده، وتيارات معادية لها كلية، كالسلفية المتأثرة بالوهابية في شبه الجزيرة العربية. ونتيجة لهذا سعت الحكومة المصرية الخاضعة لسلطة الاحتلال البريطاني، لفرض مزيد من السيطرة على الطرق الصوفية.
وتجلى ذلك عام 1910، حيث وُضعت لائحة داخلية جديدة للمجلس الأعلى للطرق الصوفية، حجَّمت الكثير من الممارسات والطقوس، وكذلك «منعت المرأة من تولي أي دور في إدارة الطرق الصوفية»، بحسب ستيفاني بويل.
الشيخة والحاجة: المرأة تتحدى
بسبب اللائحة التي وضعت عام 1910، والتي أعيد تعديلها في عام 1945، مُنعت النساء (رسميًّا) من المشاركة في إدارة النشاط الصوفي، أو التمتع بعضوية (رسمية) في الطرق الصوفية، ووفقًا للائحة يخلف شيخ الطريقة ابنه أو أحد أقربائه «الذكور» في القيام عليها، ولكن (فعليًّا) ظلت المرأة موجودة ولها نفوذ روحي صوفي كبير، مهيمن على الرجال في أوقات كثيرة، فربما كانت المرأة خارج الطريقة الصوفية، ولكنها بالتأكيد ليست خارج التصوف.
وربما دعم ذلك روحيًّا وجود عشرات من الأضرحة، والمشاهد (أضرحة لا تحتوي على جثامين) للأولياء وآل البيت من النساء في مصر، اللواتي يتبرك بهن الرجال قبل النساء، طالبين المدد والعون، وبالتالي تمهدت الذهنية الذكورية، لتقبل إمكانية وجود نساء قويات داخل المجتمع الصوفي.
ومن أشهر الأضرحة أو المشاهد في القاهرة ضريح السيدة زينب ابنة علي بن أبي طالب، والسيدة نفيسة بنت الحسن الأنور، حفيدة علي بن أبي طالب، والسيدة عائشة بنت جعفر الصادق، حفيدة الحسين بن علي، والسيدة سكينة بنت الحسين بن علي… وغيرهن. ويقام لكل واحدة من هؤلاء مهرجانًا ضخمًا يمتد لأيام (مولد) كل عام.
وفي تلك الموالد يُسمح للرجال فقط بالاشتراك في حلقات الذكر والإنشاد، ولكن ذلك لم يمنع النساء من المشاركة، فهن يشاركن في رقصات (التفقير) النشوة، ولكن خارج نطاق المساحة المخصصة للذكر الرجالي، بل مارست بعضهن ذلك داخل ساحات الذكر نفسها، ولكن بشكل استثنائي جدًّا، كما نجد بعضهن يمارسن المديح والإنشاد الديني أمام الأضرحة.
وخلال نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، برزت متصوفات كثيرات، وحظين بتبجيل كبير، وارتبطت أسماؤهن غالبًا بلقبي «الشيخة» أو «الحاجة»، بحسب ما رصدت ستيفاني بويل في دراستها.
الشيخة صباح
الشيخة صباح تحظى بشعبية كبيرة حتى الآن، خاصة في وسط الدلتا بمصر، وقد اكتمل ضريحها في مدينة طنطا عام 1909، بعد وفاتها بوقت قصير. ويعد ضريحها ومسجدها هو الأشهر في المدينة بعد «السيد البدوي».
ولدت الشيخة صباح (نور الصباح) حوالي عام 1823 في قرية ميت سودان، التابعة لمركز طنطا، وهي قرية شهيرة بالتصوف، حتى إن الأسرة التي يُختار منها عمدة القرية منسوبة للنبي محمد، بحسب ما يشاع.
كان والد نور الصباح «محمد الغباري» رجلًا صوفيًّا تقيًّا وتاجرًا ومالكًا. وحين كانت نور الصباح طفلة كان يُسمح لها بالمشاركة في حلقات الذكر التي يقيمها والدها، وكانت تقدم المرطبات للذاكرين الذين يفدون على والدها، وتجالسهم وتستمع إلى أحاديثهم.
بمرور الوقت جاهدت نور الصباح مع أبيها في الذكر والترحال، لأنها لم تكن تريد أن تتصرف مثل فتيات القرية الأخريات، وقيل وقتها إنها مباركة ومجذوبة من السيد البدوي (ت 1276م)، الصوفي الشهير، الذي يملك هيمنة كبيرة حتى الآن على متصوفة طنطا ودلتا النيل عمومًا.
وعند بلوغها سن المراهقة مُنعت نور الصباح من السفر بمفردها خارج منزلها، وهو ما يتعارض مع عاداتها.
وجاء الخلاف مع الدها حين طُلبت للزواج، فعندما علمت أن والدها يُقيِّم عرض الزواج، غضبت نور الصباح وأخبرت والدتها: «نحن أهل الله وأهل البيت وخدام للصوفية والأولياء، ولا أريد أن أتزوج»، وطلبت من والدتها أن تبلغ والدها بذلك.
لكن والدتها لم تخبر الأب بكلمات ابنتهما؛ لأنه ليس من المفترض أن تعترض فتاة على رغبة والدها.
عندما استمر الأمر ذكَّرت نور الصباح والدتها بما قالته لها، ورغم أن والدتها كانت تخشى من رد زوجها، أخبرته أخيرًا بمعارضة ابنتهما للزواج.
وغضب الشيخ الغباري من رغبة ابنته ونزعتها الاستقلالية، فقرر تحديد موعد الزواج، لأنه كان قلقًا من أن يعلم الناس بعناد ابنته، ما سيترتب عليه إحراج له وللعائلة.
المفاجأة كانت عندما هربت نور الصباح بأعجوبة من غرفة زفافها، حيث كان الباب مغلقًا عليها، ولم تكن للغرفة نوافذ. وهي كرامة يعرفها القاصي والداني عنها، ومن وقتها بدأ التعامل مع «نور الصباح» على أنها «الشيخة صباح».
سيرة الشيخة صباح رصدتها ستيفاني بويل، وأسهب فيها الباحث في التاريخ الاجتماعي إدوارد ريفز Edward.B. Reeves، في كتابه: The Hidden Government of Egypt- الحكومة المخفية في مصر.
الحاجة أم فتحي
زوجة شيخ الطريقة هي أم شيخ الطريقة المقبل، باعتبار النظام الهرمي ووراثة السلطة في الطرق، وبالتالي تكتسب المرأة هنا نفوذًا كبيرًا، خاصة مع وفاة شيخ الطريقة (زوجها) وخلافة ابنها له.
الحاجة «أم فتحي» هي زوجة شيخ الطريقة الخلوتية الراحل، ترأس جميع الأنشطة في الطريقة مع ابنتها الحاجة ليلى، وهما المنظمتان الرئيسيتان للموالد الخلوتية.
هي وابنتها جزء من السلطة في الطريقة، ويدين لهما أعضاء الطريقة بالطاعة والاحترام، لكنهما غير معترف بهما رسميًّا من قبل المجلس الأعلى للطرق الصوفية، كما ترصد ستيفاني.
وبرغم ذلك فإنها كانت مَن تدير الطريقة، وعُوملت كـ «شيخة طريقة»، رغم أنف القانون.
الحاجة زكية
الحاجة زكية (1899-1982) كان لها حضور ونفوذ داخل الطريقة الشاذلية. ولدت زكية عبد المطلب بدوي في محافظة الدقهلية في منطقة الدلتا. تزوجت من عالم أزهري صوفي، وكلاهما كان يتبع الطريقة الشاذلية في القاهرة.
وفي يوم الجمعة كانت تحضر مع وزوجها حلقة الذكر في مسجد الحسين، وكانت هي المرأة الوحيدة التي تحضرها مع الرجال، وسكنت في حارة مجاورة للمسجد الشهير، واشتهرت ببيعها لكل أملاكها لتنفق على المحتاجين وأهل الذكر، ما أكسبها نفوذًا روحيًّا كبيرًا.
ورأت الحاجة زكية في منامها أنها ستدفن بجوار مدفن الشيخ أبي الحسن الشاذلي في قلب الصحراء الشرقية بمصر، بجوار البحر الأحمر، فاشترت أرضًا بجوار الضريح وأنشأت بيتًا صغيرًا هناك، عاشت فيه أيامها الأخيرة وطلبت من خادمها إذا ماتت أن يدفنها في قبر بجوار ضريح أبي الحسن، وبالفعل نفَّذ لها رغبتها، ولا زال مسجدها وضريحها قائمًا هناك يفده الزوار وطالبو البركة، حسبما رصدت أستاذة الأديان بجامعة إلينوي الأمريكية فاليري هوفمان Valerie.J. Hoffman، في كتابها: Sufism, Mystics and Saints in Modern Egypt: الصوفية والمتصوفة والأولياء في مصر الحديثة.
الشيخة ناريمان
وفي تحدٍّ جديد للواقع الإداري الصوفي أعلنت الشيخة ناريمان عبد الغفار نفسها شيخ الطريقة «الأحمدية»، كطريقة جديدة تابعة للطريقة «البدوية».
الطريقة البدوية هي طريقة رئيسية، يتفرع منها ما يقرب من 20 طريقة صغيرة، ولكن طريقة الشيخة ناريمان الناشئة حديثًا غير معترف بها من المجلس الأعلى للطرق الصوفية.
وفي تصريحات صحفية قالت الشيخة ناريمان إنه لا يُشترط أن يكون الشيخ في «منصب رسمي» حتى ينشر التصوف؛ فالتصوف أخلاق «ومن زاد عنك في الخلق، فقد زاد عنك في التصوف»، مشيرة إلى أن قدوتها في التصوف هي رابعة العدوية.
وبحسب تصريحات الشيخ سيد مندور، القيادي بالطريقة «السمانية»، حينها، فإن الشيخة ناريمان من أكبر العابدات الزاهدات في مصر، وساحاتها منتشرة في أنحاء كثيرة من الجمهورية، وتظهر في الموالد والاحتفالات الكبيرة بشكل دوري.
الزار: طقس صوفي نسائي خالص
لم تقاوم النساء فقط إمكانية الانضمام للصوفية، بل قاومن التعاليم الرسمية نفسها، التي فرضها المجلس الأعلى للطرق الصوفية.
وتجلت تلك المقاومة في «الزار»، ذلك الطقس الذي منعه المجلس الأعلى للطرق الصوفية.
الزار هو ممارسة أتت إلى مصر من السودان. فيه رقص، وموسيقى صوفية (يشترك الذكور في أدائها)، وأذكار من نوع خاص. واعتقدت النساء أنهن من خلاله يحصلن على البركة التي تشفي الأمراض وترزقهن الإنجاب، وتطرد الجن الذي يمنع الخير، وتحقيق أشياء كثيرة.
هذه البركة لا يمكن أن تمنحها المرأة المأزومة سوى امرأة صوفية تُسمى «الكُدْيَة»، ولذلك لا يدار الزار إلا من امرأة.
وترى ستيفاني بويل أن الدور الصوفي للمرأة في مصر، باعتبار التصوف نسخة دينية إسلامية «شعبية»، يُعقِّد الرؤية النمطية للدين الإسلامي بالنسبة للباحثين، كشريعة قائمة على الفصل الجنسي بين الرجال والنساء، ويجعل إعادة النظر في تلك الرؤية أمرًا قابلًا للنقاش، بالنسبة إليهم.
كما يؤكد هذا الدور أن المرأة المسلمة في الظرف الصوفي استطاعت أن تكون وكيلًا دينيًّا لنفسها، ولم تحتج إلى وسيط رجالي مهيمن، على عكس الفكرة النمطية الشائعة عن المسلمين بالنسبة للدراسات الغربية.