أطراف صناعية لا تكفي: كيف دمرت الحروب أجيالًا من الأطفال؟
بهذه الكلمات راح «أحمد» الطفل الأفغاني الذي لم يتعد 5 سنوات يصرخ ويرقص فرحًا بقدم صناعية جديدة، تم تركيبها له بعدما فقد ساقيه في عمرـ 8 أشهر، خلال اشتباكات بين حركة «طالبان» وقوات الأمن ببلاده. حالة من البهجة نشرها أحمد وتفاعل معها الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي. فاليوم منحه الله أولى الهدايا والأشياء الجميلة تعويضًا عن قدمه المبتورة، كما قالت له أمه… اليوم بإمكانه أن يرتدي حذاءه الثاني مثله مثل بقية الأطفال.
رغم هذه البهجة، فإنها تكشف الستار عن مأساة حقيقية يعانيها الأطفال خلال الصراعات، التي جعلت أكبر أحلامهم أن يستطيعوا المشي، حتى لو كان ذلك باستخدام أطراف صناعية.
قصة لم تنتهِ
بدأت القصة مع اشتعال الحرب العالمية الأولى، وعودة آلاف الجنود بإعاقات بدنية جعلتهم غير قادرين على أداء أدوارهم في المجتمع، وكان لا بد من تجاوز تلك الأزمة سريعًا والاستفادة من كامل الطاقات البشرية الممكنة، وإيجاد أفضل الطرق للاستفادة من هؤلاء المقاتلين،وتمكينهم من العودة مرة أخرى إلى القوة العاملة. لذا، عمدت بعض الدول وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا إلى تطوير تقنيات تصنيع الأطراف الصناعية التعويضية على نطاق واسع. وبالفعل نجحت في إنتاج كميات ضخمة من تلك الأطراف وتوزيعها.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، واصلت تقنيات تصنيع الأطراف الصناعية تطورها كأدوات تعويضية عن تلك الأطراف المبتورة من الجسد، سواء كانت نتيجة لحادث أو مرض أو غيره. وازدهرت اقتصاديات الأطراف الصناعية، واتخذ منحى الطلب عليها اتجاهًا تصاعديًا. ولم يعد الأمر يقتصر على الجنود المقاتلين، بل امتد إلى المدنيين وفي مقدمتهم الأطفال.
فقد تسببت النزاعات والحروب وما يصاحبها من ألغام وقنابل وقصف، في إحداث الكثير من الإعاقات بين الأطفال وقتل الملايين منهم. فخلال الـ20 عامًا الأخيرة فقط،قُتل ما يزيد على مليوني طفل، وكان ثلاثة أضعاف هذا العدد معاقين ومصابين. واليوم يعاني أكثر من مليار شخص (15% من سكان العالم) نوعًا من الإعاقة، والعدد الأكبر منهم (نحو 80%) بالدول النامية والشرق الأوسط.
ففي سوريا وحدها،تسببت الحرب المشتعلة منذ مارس/آذار 2011 والبراميل المتفجرة التي استخدمها النظام السوري ضد المدنيين في مناطق المعارضة، بإعاقة دائمة لنحو 1.5 مليون سوري، بمعدل 30 ألف فرد شهريًا، وبلغ عدد من بُترت أطرافهم نحو 86 ألف شخص.
وفي فلسطين، لم يكن الوضع أفضل، في ظل التشويه المُتعمد الذي تقوم به القوات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والأطفال منهم، حتى خلقت جيلًا من المعاقين جسديًا. فخلال الاحتجاجات الفلسطينية كما هو الحال، مؤخرًا، في مسيرات العودة، اتبعت قوات الاحتلال سياسة استهداف الأطراف السفلى للمحتجين، الأمر الذي بيّنته تحقيقات عدة من بينها تحقيق للأمم المتحدة يؤكد أن 80% من المتظاهرين الذين أصيبوا بتلك المسيرة، أصيبوا بالرصاص في الأطراف السفلية.
أما اليمن، فقد بلغ عدد المعاقين الذين بُترت أطرافهم منذ بدء الصراع في 2015 نحو 6 آلاف فرد، من بينهم ما يزيد على 1000 طفل يعيش حياة شبه مجمدة. وما فاقم من خطورة الوضع حالة الجياع والكوليرا المنتشرة، وعدم توافر مراكز كافية لتصنيع ولتركيب الأطراف، حتى أصبح الحصول عليها شيئًا من الرفاهية بعيدة المنال للكثيرين. إذ يروي أحد الأطفال الذين اختطفته ميليشيا الحوثي في تعز، أنه أُصيب برصاصتين تسببتا ببتر إحدى قدميه، وأنه – طبقًا لاستشاري العظام- كان بالإمكان إعادة قدمه مرة أخرى إلى مكانها إذا تم تقديم العناية الملائمة الفورية، لكن هذا لم يكن متوفرًا في ظل تدهور أوضاع المستشفيات منذ بدء الحرب.
من واقع الضحايا
على هذا المسار تزداد أعداد المصابين الذين تبتر أطرافهم بمناطق النزاعات المختلفة في ليبيا والعراق والسودان وغيرها، وتزداد معها المعاناة الجسدية لهم. فبعد أن حاولت «ماجدة» -الطفلة التي لم تتعد 10 أعوام والتي عانت مرارة الحرب بسوريا- الهرب من ذلك الدمار بشاحنة صغيرة، أُصيبت بقنبلة برميلية تسببت ببتر ساقها اليمنى. ورغم أنها حصلت على ساق صناعية، فإن حياتها بالطبع لم تعد كما كانت، وأصبحت أكثر ألمًا نفسيًا وجسديًا. وتروي «ماجدة»:
أما «يونس» ذو الـ11 عامًا، كان قد خرج لجلب المياه التي تكاد تكون معدومة في ظل الحصار في تعز اليمنية، وبينما يجري بطفولته البريئة ليسابق البقية أمام خزان المياه،أصابته شظايا من قذائف النظام بأنحاء متفرقة من جسده فأخذت معها قدميه ويده اليسرى، ليبقى حياته عاجزًا حتى عن استيعاب ما حدث له. ففي غرفة العناية المركزة ظل يونس يطلب لمن يقترب منه بأن يمد له أقدامه، لم يستطع تحمل الفاجعة، ولم يتمكن الأطباء من إيقاف بكائه المستمر سوى بالمهدئات لينام بعدها ساعات قليلة تبعده عن الواقع الأليم الذي سرعان ما يعود إليه بمجرد استيقاظه.
وكما لم يستطع «يونس» أن يستوعب تلك الفاجعة أو يتحملها، عانت «وئام» الوضع نفسه. فلم تتحمل الطفلة الفلسطينية بتر ساقها إثر سقوط قاذفة على سطح منزلها، ولم يكن منها سوى الصمت الذي يخفي وراءه آلامًا وحنينًا إلى تلك الأيام التي كانت تستطع فيها الحركة، كما يخفي الرعب من مستقبل صعب، لن تتمكن خلاله من اللعب أو العودة إلى الدراسة أو الحياة بشكلها الطبيعي.
ما بعد الصدمة
لا يتوقف الأمر عند المعاناة الجسدية، إذ تُشكّل المعاناة النفسية مأساة أخرى يعيشها هؤلاء الأطفال. فالأحداث الأليمة التي مروا بها تظل عالقة بأذهانهم، تراودهم حتى في أحلامهم التي تتحول إلى كوابيس لا هوادة فيها تدفعهم للاستيقاظ.
كما يمرون باضطرابات ما بعد الصدمة التي تنتج عن التهديدات والخوف الذي يتعرضون له أثناء النزاع. فغالبًا ما يعيد الأطفال تجربة إصابتهم في شكل ذكريات الماضي أو أفكار مخيفة، لا سيما عندما يتعرضون لأحداث أو أشياء تذكّرهم بالصدمة. كما تظهر عليهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة في الانفصال عن الواقع، وتكرار تلك الأحلام المزعجة، والشعور كما لو أن الحدث يتكرر مرة أخرى… الخوف عند تذكر الحدث… تجنب التفكير أو الحديث عن الصدمة، وكذلك تجنب الأنشطة أو الأماكن أو الأشخاص المرتبطين بالحدث.
وفي أحيانا أخرى يظهر الأمر في رسومات، عادة ما تبني صورة مماثلة للحدث الأليم، كطائرات مقاتلة تحلق في سماء المنطقة وتلقي الصواريخ مباشرة… كثيرٌ من الموتى على الأرض، وغيرها من الصور التي تظهر الجروح العقلية المؤلمة لهؤلاء الأطفال.
كما يتسبب الضغط النفسي المستمر على هؤلاء الأطفال في عوائق بالنطق وفقدان القدرة على التحدث تمامًا، وزيادة االميول العدوانية والعزلة الاجتماعية، فضلًا عن ارتفاع الإيذاء الذاتي ومحاولات الانتحار بين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 12 عامًا.
وقد ظهرت اضطرابات ما بعد الصدمة بالفعل في عدد من مناطق الحروب والنزاعات المستمرة منذ سنوات كما هو الحال في فلسطين، إذ كشفت دراسة أجراها «برنامج غزة للصحة العقلية والمجتمعية» بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عامًا، أن 32.7% منهم يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة التي تتطلب تدخلًا نفسيًا، و49.2% من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة المعتدل، و15.6% من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة الخفيف، و2.5% فقط ليس لديهم أعراض.
ولا تقف تلك الاضطرابات عند هذا الحد، بل تمتد للتأثير على الصحة العقلية لهؤلاء الأطفال والمصابين، حيث يعاني الأطفال من حالة من «الإجهاد السام»، نتيجة التعرض للعنف والصدمات المتكررة. وفي هذا السياق، أكد تقرير صادر عن «منظمة إنقاذ الطفولة» وجود أزمة في الصحة العقلية لدى الأطفال المحاصرين في سوريا، كما وضّح أن العيش وسط تلك الحالة من «الإجهاد السام»، من المحتمل أن تعيق نمو الدماغ وتزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والاكتئاب واضطرابات الصحة العقلية الأخرى.
أخيرًا، وبعد استعراض تلك المعاناة النفسية والجسدية، تأتي وسائل الإعلام في تناولها للأنباء الخاصة بمناطق النزاعات لتعلن سقوط عدد من القتلى وإصابة آخرين، ويمر الأمر كما لو كان سينتهي عند حد إصابات يمكن علاجها وجروح ستلتئم بمضي الأيام، ويبقى هؤلاء الأطفال بعجزهم وجروحهم، دون أن يشعر بهم أحد أو يلتفت إليهم إلا القليل ممن يعاصرون المأساة ذاتها أو ينخرطون بها.