كيف انتقل تشريع الوقف من «الفقه» إلى «القانون»؟
أصل التكوين المعنوي للوقف الإسلامي هو مفهوم «الصدقة الجارية» الذي ورد في حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم). وعليه فإن الصدقة الجارية هي النواة الصلبة التي تأسس عليها نظام الوقف عبر التاريخ. وصفة «جريان الصدقة» دفعت قدماء العلماء لحملها على معنى الوقف؛ حيث إن غيرَ الوقف من الصدقات ليس جارياً على الدوام.
وبانتهاء العهدِ النبوي؛ بدأت مسيرة التكوين التاريخي للأحكام الفقهية الخاصة بالأوقاف. ثم بدأت تظهر تدريجياً جملة من المعارف والمهارات الأخرى: المهنية، والإدارية، التي ارتبطت به، أو تراكمت حوله؛ وفي مقدمتها: معرفة أصول صوغ حجج الأوقاف وتوثيقها وحفظها. وقد وجدت المعرفةُ الفقهية الوقفية طريقَها إلى التسجيلِ المكتوبِ منذ بداية عصر التدوين في القرن الثاني الهجري. وظهرت أبواب «الوقف»، أو «الصدقة» -أول ما ظهرت- في كتب الحديث النبوي، وفي كتب الفقه والفتاوى.
وبنظرةٍ عامة على مسار التطور المعرفي التاريخي لفقه الوقف، يتضح أنه قد تغذَّى من تعددية المذاهب الفقهية منذ نشأتها، وأن هذا الفقهَ زاد ثراءً مع انتشار تلك المذاهب في أرجاء العالم. كما أنه تغذى من التطورات الاقتصادية والسياسية والحضارية العامة التي مرت بها المجتمعات الإسلامية على طولِ تاريخها. ويتضحُ أيضاً أن حريةَ الاختيارِ من بين آراء واجتهاداتِ علماء تلك المذاهب قد ظلتْ متاحةً أمام أفراد المجتمع وفئاته وطبقاته؛ من الحكام والمحكومين، إلى أن تبنت الدولة العثمانية المذهب الحنفي، وجعلت له وضعاً خاصاً باعتباره المذهب الرسمي للدولة، وللولايات العربية التي كانت تابعة لها.
وأدى هذا الوضع الذي ساد الدولة العثمانية إلى الحدِّ -نسبياً- من حرية الاختيار من بين المذاهب. ثم إن سلطاتِ الدولة العربية/القطرية في مرحلة ما بعد الاستعمار بصفةٍ خاصةٍ، وفي معظم البلدان الإسلامية بصفةٍ عامةٍ؛ قد اتجهت نحو تقنين فقه الوقف عبر منهجية قامت على أساس التلفيق الفقهي، وإدماج التعددية المذهبية في قانون موحد وملزم لمواطني كل بلد.
وبدأ هذا الاتجاهُ في مصر بإصدار قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946م، ثم انتقل هذا التقنين عن طريق التقليد التدريجي إلى بلدان عربية أخرى، وفي مقدمتها سوريا، والأردن، ولبنان، والعراق، وذلك خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. ثم انتقل بعد ذلك في السبعينيات وما تلاها إلى السودان وليبيا والجزائر وغيرها من البلدان العربية والإسلامية.
ولكن قبل الوصول إلى تلك المرحلة التقنينية، كان التكوين المعرفي الفقهي الخاص بنظام الوقف قد قطعَ عدة مراحل أساسية في تطوره التاريخي في المجتمعات الإسلامية.
المرحلة الأولى: الاجتهاد والتأسيس المذهبي لفقه الوقف
بدأت بعد وفاةِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) في السنة العاشرة للهجرة، واستمرت إلى نهايةِ القرن الثالث وبدايات القرن الرابع الهجري تقريباً. ويمكن أن نطلق عليها «مرحلة الاجتهاد والتأسيس المذهبي لفقه الوقف»؛ حيث تبلورت خلالها المعالمُ الرئيسيةُ لهذا الفقه ضمن عمليةِ البناء الفقهي للمذاهب الكبرى (السنية، والشيعية) على مدى القرنين الثاني والثالث الهجريين.
ونلاحظُ أن عملية التأسيس المذهبي للفقه عامة، ولفقه الوقف موضع اهتمامنا هنا خاصة، قد تزامنت مع حركة المد في الفتوحاتِ الإسلامية، ودخولِ عديد من الأمم والشعوب في الإسلام، ومنها شعوب الأمة العربية؛ إذ لم ينته القرن الأول الهجري حتى كانت جميع البلدان العربية قد انضوت تحت لواء الخلافةِ الراشدة، ومن بعدها الخلافة الأموية ثم العباسية. وانتقلت إلى هذه البلدان الأفكار الإسلامية ونظمها المؤسسية، ومنها نظامُ الوقف.
وقد حظي نظام الوقف بالقبول لدى غالبية أهل البلاد المفتوحة، واتسع نطاق تطبيقه حتى شمل مساحة كبيرة من النسيج الاجتماعي لتلك البلاد، ومن ثَمَّ اكتسب خصائص وظيفية واجتماعية متنوعة. وأظهرت الممارسةُ العملية له مشكلاتٍ عديدة، وتحدياتٍ كبيرة أيضاً؛ فرضتها أوضاعُ ما بعد فتح تلك البلاد، واقتضتها طبائعُ أهلها وعاداتهم الاجتماعية، كما اقتضاها التقدمُ الحضاري والمدني الذي شهدته هذه البلاد نفسها بعد دخول أهلها في الإسلام.
وكان على العلماءِ الذين عاصروا تلك المرحلة أن يجتهدوا في تقديم التكييف الشرعي لكل ما عرض لهم -أو عُرض عليهم- من متغيراتٍ وتحدياتٍ، وأن يقدموا كذلك الحلول العملية للمسائل التي لم تكن معروفة من قبل في مجال الوقف، وفي غيره من المجالات، عندما كان الإسلامُ لا يزال داخل نطاق الجزيرة العربية. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: المسائل المتعلقة بالوقف على الثغور وتجهيز المجاهدين في سبيل الله، ومسائل جواز أو عدم جواز وقف أراضي البلاد المفتوحة، وبخاصة سواد العراق وأراضي مصر والشام التي استطال الخلاف بشأنها واشتهرَ بين أصحاب المذاهب الفقهية. وانعكسَ في ذلك الخلاف كثيرٌ من العوامل السياسية والاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية. وتراوحت آراء الفقهاء بين القول بجواز وقف تلك الأراضي والقول بعدم الجواز، ومن ثم تأثرت حركةُ الوقف اتساعاً وانحساراً في هذا النوع من الأراضي، طبقاً للرأي الذي جرى العمل به فترة زمنية معينة في هذا البلد أو ذاك.
ومن تلكَ المسائل أيضاً: ما تعلقَ بغصب الموقوفات من الأبنية والأراضي الزراعية، أو تعرضها للهدم أو البوار، وهل يجوزُ استبدال غيرها بها أم لا؟ وما الحكم في وقف الذمي، ووقف الحربي، والوقف عليه؟ وغير ذلك من المسائل والمشكلات التي نجدُها في كتب أئمة المذاهب الأربعة، وفي كتب سواهم من الأئمة والفقهاء الذين عاصروهم أو تتلمذوا على أيديهم.
ويبدو أن مرورَ الزمن، واتساعَ رقعة المدنية الإسلامية، واستقرارَ قواعدها -نسبياً- في الحواضر المختلفةِ، وزيادةَ الإقبال على الوقف، وتنوعَ أغراضه؛ كلُّ ذلك قد أسهمَ في حثِّ فقهاء القرون الهجرية الثلاثة الأولى على تقعيد القواعدِ الرئيسية لفقه الوقف؛ الأمرُ الذي يعني شدة ارتباطه منذ بداياته الباكرة بمفهوم «السياسةِ المدنية»، التي قصدَ بها علماء الإسلامِ وفلاسفتُه: تدبيرَ شؤونِ الحياة الاجتماعيةِ على قاعدة ِجلب المنافع ودرء المفاسد ورعاية المصالح المعتبرة شرعاً. وقد تجلى هذا الارتباط في كثير من المناقشات والاجتهادات الفقهية بشأن الوقف على وجوه البر والخيرات والمنافع العامة والخاصة، وبشأنِ كيفية إدارة الأعيان الموقوفة، والرقابة عليها، وعلى المؤسسات التي يجري تمويلها من ريعها.
المرحلة الثانية: التفريع والتفصيل في فقه الوقف
تمتدُ هذه المرحلة من القرن الرابع إلى القرن الثالث عشر الهجري -تقريباً- وقد شهدت نمواً مطرداً في التكوينِ المعرفي والفقهي لنظام الوقف. ويمكن أن نطلقَ عليها: «مرحلة التفريع والتفصيل في فقه الوقف»، مع شيء من الاجتهاد في الأحكام والقواعد المتعلقة بمؤسساتِ الوقف بصفة عامة.
وكان هذا النمو المعرفي المبنيُّ على التفريعِ والتفصيل جزءاً من النمو الفقهي العام في المجتمعات الإسلاميةِ خلالَ تلك الحقبة الطويلة نسبياً. كما كان -في أحد جوانبه- تعبيراً عن تطور الحياة الاجتماعية وتشابك جوانبها المختلفة، وتنوع متغيراتها، وتعقد مشكلاتها المدنية على نحو كثيف ابتداءً من العصر العباسي. ويظهرُ ذلك من تتبع نوعياتِ المسائل والقضايا الوقفية التي تناولها فقهاء المذاهب الذين عاشوا خلال تلك القرون، وتنقلوا بين المدن والأمصار الإسلامية المختلفةِ. ولا يكادُ يخلو كتاب من كتبهم الفقهية من فصل أو باب خاص بالوقف.
وزادَ ميلُ العلماء في تلك الحقبة لإفراد بعض مسائل الأوقاف بمؤلفات مستقلة، وبخاصة خلال القرنين التاسع والعاشر الهجريين اللذين شهدا نهاية العصر المملوكي وبدايةَ العصر العثماني؛ مع ما رافق نهاية «الأول»، وبداية «الثاني» من عدمِ استقرارٍ انعكس على الحياة العامة، وعلى حياة الأفراد والجماعات المختلفة، ومن ثَمَّ انعكس على الأداءِ الفقهي المتعلق بالمشكلات والقضايا التي شهدتها تلك الحقبة؛ بما في ذلك قضايا الأوقافِ ومشكلاتُها ومسائلُها المختلفة.
ولعل أهم إسهامات العلماء في البناء الفقهي للوقف خلال تلكم القرون السبعة (من الرابع إلى العاشر الهجري) يتمثل في كثرة التأليف الفقهي في باب الوقف عند مختلف المذاهب التي انتشرت في البلدان العربية خاصة، والإسلامية عامة؛ وهذا يدل في سياقه التاريخي على اتساع دور الأوقاف في حياة المجتمع، كما يدلُّ على قدرة الفقهاء على استيعاب المستجدات الحياتية. ويظهر ذلك من استعراض نوعيةِ مسائل باب الوقف مثل: حكم وقف المنقولات، وحكم وقف النقود، وجواز أو عدم جواز الوقف على طلاب العلم، وعلى أهل الطائفة، أو الحرفة، أو الطريقة… إلخ.
وقد تطور التكوينُ الفقهي للوقف خلال تلك القرون باتجاه ما أسميه «فقه الوقف المقارن» بين المذاهب المختلفة. وامتدت المقارناتُ الفقهية في هذا الباب عبر مراحل زمنية متتالية؛ من القرن الرابع إلى القرن العاشر الهجري. والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ منها: ما ورد في كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي (ت 620هـ)، وما ورد في كتاب فتح القدير لكمالِ الدين بن الهمام الحنفي (ت 861هـ). وقد كشفت منهجية المقارنة في مسائل الأوقاف عن وجودِ قدرٍ كبير من التنوع في الآراء، والتباين في الاجتهادات. كما كشفت عن وجود درجة عالية من المرونة، ومساحةٍ واسعة من حرية الاختيار في التصرفات المدنية. وهذا أمرٌ على درجة عالية من الأهمية إذا أردنا تحليل فقه الوقف من منظور وظيفي اجتماعي مقارن ومعاصر.
وشهد التكوينُ التشريعي (الفقهي) للوقف خلال تلك الحقبةِ نفسها ظهورَ «فقه التشدد» في بعض المسائل، وبخاصة مسائل «الاستبدال». وقد نحا معظمُ فقهاءِ المذاهبِ نحوَ التضييق في هذا الباب؛ سداً لذرائع الفساد، وحداً من نزوات بعض الحكام والسلاطين وذوي الشوكة؛ الذين لم يكونوا يراعون حرمةَ الأوقاف، ولم يحترموا الملكيات الخاصة وأمعنوا في مصادرتها. وقد زادَ هذا المنحى قوة في أواخر عهدِ المماليك، وإبانَ فترات الاضطراب في البلدان العربية خلال العهد العثماني.
في مقابل التشدد الفقهي في بعض مسائل الأوقاف، والتضييق الذي استهدف الحكام والسلاطين المستبدين والفاسدين؛ نجدُ أن معظم فقهاء الحقبة نفسها قد اتجهوا نحو توسيعِ حريةِ الواقفين في وضع الشروط الخاصة بوقفياتهم، وكذلك في إضفاء قدر كبير من المهابةِ على هذه الشروط؛ بهدف تحصين الوقف، ودرءِ ما قد يتعرض له من اغتصابٍ وعدوانٍ. وتجلى هذا الاتجاه أكثر ما تجلى في إقرارِ الفقهاء ما يسمى «الشروط العشرة»، وهي تتيح للواقف: الزيادة والنقصان، والإدخال والإخراج، والإبدال والاستبدال، والإعطاء والحرمان، والتغيير والإبدال؛ كل ذلك فيما يتعلق بالمستحقين في ريع الوقف. وتجلى هذا الاتجاه أيضاً في قولهم «شرط الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به». وعلى الرغم من أن هذه القاعدة لم تسلم من النقد الشديد من جانب بعض العلماء؛ إلا أنها ظلت محتفظة بقوتها المعنوية والإجرائية، وبقدرتها على التأثير في السلوكياتِ الاجتماعية تجاه الأوقاف بصفة عامة؛ حتى إنها قد أُخذت في الاعتبار -بدرجات متفاوتة- عند وضع التقنينات الوقفية الحديثة التي صدرت في عديد من البلدان العربية خلال القرن الرابع عشر الهجري/العشرين الميلادي.
المرحلة الثالثة: تحول نوعيّ في السيرورة التاريخية لفقه الوقف
تشمل هذه المرحلة القرن الرابع عشر وبدايات القرن الخامس عشر الهجري. وفي هذه المرحلة حدثَ تحولٌ نوعيٌّ في السيرورة التاريخية لفقه الوقف، وذلك بظهور التقنيناتِ الخاصة بأحكامه الشرعية، وبنظمه الإدارية في معظم البلدان الإسلامية. وقد جرى هذا التحول بمعدلات مختلفة؛ من حيث السرعةِ والبطء، ومن حيث الشمول والتجزئة لمسائل الأوقاف. وارتبط -في كل الأحوال- بالسياق العام لعمليات التحديث وبناء الدولة القطرية الحديثة، وما رافق هذا وذاك من وفود للتقنينات المدنية الحديثة إلى جانب تعدد نظم التقاضي؛ ما بين شرعي وأهلي ومختلط، على نحو ما حدث في مصر مثلاً. وعلى نحو ما حدث أيضاً -وإن بتسميات مختلفة وبدرجات متباينة- في كل من تونس، والجزائر، وفي بلاد الشام.
ومن منظور تاريخي يمكن القول: إن بوادرَ عملية التحول من الإطارِ الفقهي للوقف بحالته التقليدية، إلى الإطارِ القانوني بوضعه الحديث، قد بدأت جزئياً في سياق حركة الإصلاحات العثمانية -أو ما عُرف بالتنظيمات- وخاصة في زمن السلطانين عبد المجيد وعبد العزيز من سنة 1839م إلى سنة 1880م.
وأَخَذَ ذلك التحولُ يترسخ بشكل منهجي بعد أن اقتحمت التقنينات الأجنبية الوافدة من أوروبا المجال التشريعي للدولة العثمانية، وولاياتها. ففي ذلك السياق ظهرت مجلة الأحكام العدلية، من أجل صوغِ الأحكامِ على نسقٍ مرتب يسهل الرجوع إليه عند الاقتضاء. كما ظهرت محاولات فردية أخرى؛ هدفت إلى تحقيق الغاية نفسها. ولعل أشهرَ تلك المحاولات محاولةُ محمد قدري باشا التي صاغها في مجموعتين: الأولى خاصة بالأحوال العينية والمعاملات، وقد وضعها في كتابه مرشد الحيران، والثانية خاصة بمسائل الأوقاف، وقد وضعها في كتابه المشهور: قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف.