في سجون إسرائيل: كيف صهر «وليد دقة» الوعي الفلسطيني عبر زنزانته؟
لم ينتظر الخامس والعشرين من مارس/آذار لعام 2017 بشغف المُحب لتتفتح أزهار الربيع، فهو لن يرى منها شيئًا. هو يعلم تمامًا أن ذلك اليوم سيأتيه بوجع الذاكرة. وبالفعل، لم يُسمح له بأن يُكحل عينيه برؤية «فريدة» أمه أو يحتضنها بلا شبك أو زجاج، ولم يدَعوه يلثم وجع «سناء» زوجته ليُحقق حلمهما الأزليّ بـ «ميلاد»، فقط واجه مُجددًا عتمة ذلك الفجر وسط الزنازين الرمادية، ولُوِّثت آذانه بأصوات صافرات العد الصباحي. ما طرأ عليه أنّه فقط دخل يومه الأول في عامه الثاني والثلاثين من الأسر.
إنّه الأسير السياسي والكاتب المسرحي والرّسام «وليد نمر دقة»، الذي ترفض إسرائيل أن تُفرج عنه في أيٍّ من صفقات التبادل تحت ذريعة أن «يديه مُلطخة بالدماء»، وفي ظل ذلك تستثنيه وكل أسرى الأراضي المحتلة عام 1948 السلطة الفلسطينية والمقاومة من ملفات الحوار، ليس إلا بالدافع القبَلي والكوتا التنظيمية في التعامل مع الأسرى داخل السجون الإسرائيلية، كما عبّر هو في أحد لقاءاته الإعلامية قبل عام.
حاولنا في «إضاءات» أن نُبصر حكاية وليد من عائلته غير أننا لم نفلح، فزوجته «سناء سلامة» رغم ترحيبها بداية بإجراء المقابلة عادت لتعتذر خشية الملاحقة الأمنية وحرمانها من زيارته في الأسر، فيما أن شقيقه «أسعد» خرج لتوه من الأسر ويخضع «للحبس المنزلي» الذي لا يُمكن معه التحدث للإعلام، أما والدته الحاجة «فريدة دقة» فقد أرهق طول الانتظار قلبها وذاكرتها ولم تعد قادرة على شيء سوى التساؤل «وينك يمة يا وليد؟»، وما كان لنا إلا أن نبحث فيما كُتب لنستلهم حكايته ونُعرّف به.
شاب الثمانينيات المشتبك
في الأول من يناير/كانون الثاني 1961، بزغ فجر مجده لأبوين فلسطينيين من منطقة المثلث الجنوبي، وتحديدًا «باقة الغربية»، التي كانت تتبع لواء طولكرم قبل النكبة، وبعدها صارت بتفاصيلها الجغرافية والإنسانية تتبع للواء حيفا منذ توقيع اتفاقية رودوس في 3 إبريل/نيسان 1949 وحتى يومنا هذا، تلك النشأة جعلت وليد (56 عامًا)، يحمل الجنسية الإسرائيلية، لكنّه أبدًا ما آمن بها، وكانت النتيجة أن دفع الثمن باهظًا لذلك الازدواج القسري لجنسيته، فهو من ناحية فلسطيني المنبت والجذور، يحمل في قلبه همَّ الدفاع عن وطنه المسلوب، ومن ناحية أخرى «إسرائيلي» الجنسية، هذا التناقض جعل وليد مُصرًا على التخلص منه ليُثبت فلسطينيته بالهوى والهوية، ساعده على ذلك والداه إذ ربياه على أن الأرض له ومن عليها سيذهبون إلى زوال حتمًا وإن طال بهم الزمن.
بعد أن شبَ فتيًا لم يستكمل حياته الأكاديمية والاجتماعية وفضل الالتحاق بالمقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وما هي إلا فترة وجيزة حتى استطاع وسبعة من رفاقه تشكيل مجموعة نضالية كنواة لجهاز عسكري يعمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وفي عام 1984 بدأت خطواته الأولى بتنفيذ تدريبات عسكرية وأمنية تحت قيادة الشهيد «إبراهيم الراعي» الذي تم تصفيته من قبل الاحتلال في زنازين سجن الرملة بعد فشل الاحتلال في انتزاع اعترافاته على مدى عام من اعتقاله حتى استشهد في 11 إبريل/نيسان 1988.
كانت التدريبات التي يُمارسها وليد بين رفاقه تنفيذا حرفيا لما تلقاه على مدى شهر متكامل من الإعداد والتوجيه في أحد المعسكرات التابعة للجبهة الشعبية في سوريا، حتى اعتقل في 25 مارس/آذار 1986، وقتها اتُهم ورفاقه بانتمائهم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بل زيادةً على ذلك وُجهت لوليد تهمة قيادتهم وتسهيل مهامهم ومشاركتهم في تنفيذ عمليات فدائية داخل الأراضي المحتلة عام 1948، ناهيك عن التخطيط لخطف جندي لمبادلته بأسرى ومن ثم قتله.
وعلى إثر ذلك حُكم عليه ورفاقه بالمؤبد، وأخذ يتنقل بين سجون الجلمة وبئر السبع وشطة ونفحة وعسقلان وجلبوع وهداريم ورامون، الذي يقبع فيه حاليًا بعد جولة من العزل الانفرادي على خلفية خرق قوانين الأسر، بتهريب هاتف نقال كي يتسنى له سماع صوت أمه.
كيف واجه عتمة الزنزانة؟
لم يستسلم وليد، وراح يُحول ظُلمة الزنزانة إلى نور يسري مداه في نفسه ونفوس الأسرى في السجون التي يتنقل بينها، كان مِشعل الضوء ووهج الصمود لهم، بدأ باستكمال حياته الأكاديمية مُلتحقًا بجامعة «تل أبيب» المفتوحة لدراسة العلوم السياسية، ومنها حصل على شهادة البكالوريوس، لكنه لم يكتفِ من نهل العلم فاستكمل الدراسات العليا في ذات الجامعة، ولكن هذه المرة اختار دراسة الديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان ليحصل درجة الماجستير.
واستمر بالقراءة والمُطالعة يُطور وعيه ومخزونه الفكري حتى بات كاتبًا ومسرحيًا يُحسن القول ويُجيد الوصف ويُصيب التحليل، وتتنوع كتاباته بين الرسائل التأملية في التجربة الإنسانية الأسيرة، وبين الرسائل الشخصية ذات البعد الوطني كمحاولته نقد انفلات السلاح غير المضبوط بإستراتيجية مقاومة وطنية، وكمراجعة تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، ومحاولة نقد الجهات العربية والرسمية الفلسطينية كونها لا تضع قضية الأسرى وما يتعرضون له في أولوياتها ضمن ملفات التبادل والمفاوضات الفلسطينية.
ولعل أبرز كتابات دقة كانت كتاب (يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002) الصادر عن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، ومن ثمَّ تألق بكتاب (صهر الوعي) الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات، إذ عُد هذا الكتاب مرجعًا للحركة الأسيرة يكشف خلاله الواقع المجتمعي المُعقد الذي يُعايشه الأسرى في محاولات الاحتلال تفكيك عقولهم المُقاومة، وإفراغها من كل شيء، إلا اليأس والانهيار، ليربطه بالأمن الداخلي للاحتلال وشراكة السلطة الفلسطينية في إنتاج واقع مُخيف لا نهاية له، بالإضافة إلى رسائله لـ «ميلاد» طفله الذي لم يُولد بعد.
رحلته مع زوجته سناء
في العام 1996 كان لقاؤهما الأول داخل أقبية الأسر، هو من خلف قضبانه يقص أخبار الأسر ويروي تفاصيل معاناة الأسرى، وهي من أمامه تسمع وتحيك التقارير والقصص الإخبارية لتنشرها للعالم عبر نافذتها الإعلامية صحيفة «الصبار» التي تصدر في يافا، ومنذ ذلك الحين تعلقت سناء بوليد، حتى وثّقت ارتباطها به أبدًا بعقد قرانها معه في الأسر عام 1999.
في لقائهما الأول طلب منها أن تُحضر له كتاب «الحرب والإستراتيجية» لكاتب إسرائيلي يُدعى «يوشفاط أركابي»، أخبرها أنه بحاجة له في دراسته، وعلى مدى شهرين من بعد الزيارة الأولى كان يُرسل لها مع أهله بعض المقالات ويطلب منها أن تنشرها في صحيفة «كل العرب» فتفعل. فكان وليد بالنسبة لها المثقف الواعي الجسور، والمحلل النقدي، الذي غطت مقالاته مختلف القضايا، وباتت تصلح للنشر حتى بعد أن يكون مر عليها عمرًا طويلًا.
كثيرًا ما كان الأمل يُراود سناء بأن يتحرر زوجها لتعيش معه حياة الأسرة وكذلك هو حتى أنهما بدآ يحلمان بـ «ميلاد» ابن الأسير والحرية.
وعلى الرغم من ذلك كله، بقي وليد محور حياة زوجته حتى وإن لم تنجح في معانقته يومًا، فهي لا تكل من العيش لأجله ولأجل قضيته وقضية الأسرى، كيف لا وهو من يُعلمها الصبر ويمدها بالأمل حين يكتب لـ «ميلاد» ابنه الذي لم ير النور بعد، تمامًا كما هو غارقًا في غياهب الأسر بعيد المنال.
تحيا من أجل رؤيته حُرًا
في إحدى قصائده قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش إن «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».
كان يرى أن حب الوطن وعبير ثراه المُخضب بدماء الشهداء يستحق لأن نحيا من أجله ثائرين مُدافعين عنه، والحال هنا لدى الحاجة «فريدة» أم الأسير وليد تمامًا كما سابقه، فهي تُغالب موت الذاكرة من أجل أن تلقى ابنها حيًا، تُعانقه وتُبلل بدموع الشوق الذي احتبس في قلبها لواحدٍ وثلاثين عامًا وجنتيه، أو تطبعَ قبلة على جبينه فيردها إليها على كف يدها بكثيرٍ من الشوقِ أيضًا.
هذه المرأة التي جاوزت العقد الثامن من عمرها، لا تزال تُعاند «آلزهايمر» الذي أصابها خلال السنوات العشر الأخيرة، لتُبقي صورة وليد الذي غادرها شابًا في الخامس والعشرين من عمره، تُزين ذاكرتها، تجدها تُعلق في صدر البيت صورته بزي السجن بعد أن حُكم عليه أن يبقى أسيرًا أبد العمر، تُجالسه وتُحدثه في كل حين، تارة تُعاتبه لأنه أطال الغياب، إذ لا تُدرك وقتها أنه قابع في زنازين العتمة الإسرائيلية، وتارة أُخرى تلمس غيابه وتيقن أنه في الأسر فيتفوه قلبها قبل لسانها:
وتبدأ بتحسس وجهه وتفاصيل جسده، تعُد أصابع يديه واحدة تلو الأخرى، وتمسح على شعره وكأنّه يجاورها، وتُتمتم متسائلة: تُرى ماذا فعل بك السجن؟
يُحاول «أسعد» شقيق وليد أن يُنشط ذاكرة والدته دومًا لتبقى متأهبة لتُعانق ابنها إذا ما رأته بعد التحرر في صفقة مرتقبة، أو زيارة استثنائية كاستجابة إنسانية من إدارة السجن رأفة بها وبه، يُخبرها أنّها ما انفكت تزوره منذ أو وقع أسيرًا في عام 1986، بينما هي أحيانًا لا تذكر ذلك لأنها منذ أن وهنت ذاكرتها قبل نحو عشر سنوات تقريبًا لم تعد تزوره، فقط كلما حنّت إليه تُبصر صورته وتبكيه بدمع الشوق.
والدة الأسير الفلسطيني وليد دقة
ويسمح الاحتلال الإسرائيلي لثلاثة أقارب من الدرجة الأولى بزيارة وليد مرة كل أسبوعين لمدة لا تتجاوز الـ 45 دقيقة وبينهم زجاج عازل كليًا لا يُمكن معه ملامسة الأسير أو حتى رؤيته بشكلٍ واضح، كانت والدته أحد المُداومين على زيارته إلى جانب زوجته سناء، فيما الزائر الثالث متغير، وغالبًا يكون أحد أشقائه أو شقيقاته دونما أيٍّ من أبنائهم.
31 عامًا في الأسر: من المسئول؟!
في إبريل/نيسان 2015، كان من المفترض أن يُطلق سراح وليد ليس لانتهاء محكوميته والمُقدرة بالسجن المؤبد «مدى الحياة»، وإنما وفقًا لتفاهمات رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، السابقة مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، والقاضية بالإفراج عن كل الأسرى القُدامى، إلا أن ذلك لم يحدث، حيث خرق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاتفاق، وأبقى على من تبقى من الأسرى القدامى رهن الاعتقال.
في أحد حواراته مع الحقوقيين الذين يتمكنون من زيارته في الأسر، عبّر الأسير وليد عن سخطه من حالة الترهل في التمسك بقوة بالإفراج عن الأسرى القُدامى، ورأى أن التفاهمات التي أُبرمت وبعد ذلك نُقضت مجرد غطاء من أجل العودة للمفاوضات، ناهيك عن استخدامها لنا كأداة مناكفة مع حماس التي أفرجت عن أسراها بفعل صفقة الجندي الإسرائيلي «شاليط»، وليس صحوة ضمير ولا مراجعة سياسية من قبل السلطة تجاه الأسرى القُدامى الذين زجوا في السجون قبل أوسلو.
وكيف له أن يقتنع بغير ذلك والسلطة الفلسطينية تركت لسطوة الاحتلال التحكم في أسماء وأرقام وتفاصيل دفعات الأسرى المفرج عنهم، لذلك هو يجزم تمامًا أن الادعاء بعدم التزام إسرائيل وتنصل نتنياهو من الاتفاق مجرد تفاصيل وحجج لا معنى لها.