كيف تغير الحرب الأوكرانية شكل العالم كما نعرفه؟
أول حرب كبرى داخل أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، هي حرب روسيا وأوكرانيا. بجانب ما تطرحه الحرب من تساؤلات عن التأثيرات اللحظية أو قريبة المدى على العالم، فإنها تطرح سؤالًا أكبر وبعيد المدى عن شكل العالم بعد تلك الحرب. فالحرب غيّرت العديد من موازنات القوى، وتنبأت بنظام عالمي جديد.
إضافة إلى ذلك، فإنه ليس المميز حقًا في الحرب الأوكرانية ما تطرحه من تكنهات بالتغيّرات التي ستطال العالم، بل المدى الزمني الذي تحدث فيه تلك التغيرات. فالعالم يشهد تغيرات تدريجية وتراكمية على مدار العقود الطويلة الماضية، لكن الحروب الروسية الأوكرانية أتت لتجعل الانتقال للعالم الجديد عنيفًا وسريعًا.
أول ما كشفته تلك الأزمة أن الحديث عن تكتل روسي صيني هو حديث قد يبدو مبالغًا بعض الشيء. فوجود خطاب المصلحة المشتركة الذي يصدر من روسيا والصين قد أوحى أن الصين مستعدة لشراكة إستراتيجية بلا حدود مع روسيا، كما عبّر عن ذلك الرئيس الصيني في اجتماعه مع الرئيس الروسي على هامش الألعاب الشتوية 4 فبراير/ شباط 2022. لكن الأزمة الأوكرانية قد أوضحت للجميع أن هناك حدودًا لن تتخطاها الصين في هذا التكتل، ولن تكون في معسكر واحد مع روسيا في مواجهة الناتو والولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الدعم المحدود الصيني يخبر الولايات المتحدة وأوروبا أن النظام العالمي لا يجب أن يخشى من الصين، وأن العدو الذي يسعى لتغيير النظام العالمي هو روسيا، لا الصين. وأنه من الخطأ التعامل مع روسيا والصين باعتبارهما قوة واحدة أو قوتين في معسكر واحد، رغم كل هذا التنسيق المشترك.
الألمان يعودون للحرب
وقد أدرك الجميع الآن أن روسيا سوف تبقى عدوًا للجميع، وعدوًا للأبد. خصوصًا مع كون غزوها لأوكرانيا تزامن مع تصريحات بوتين عن إرث الاتحاد السوفييتي. فالاتحاد رغم انهياره قد ترك وريثًا مجروحًا يبحث عن إرثه، ما يعني أن التهديد الذي شعر به الغربيون من الاتحاد السوفييتي لم ينتهِ بعد، ولم يزل الشرق مصدرًا للتهديد.
كذلك غيّرت الأزمة الراهنة مفهوم الحياد الأوروبي، فدول مثل السويد وفنلندا المعروفتين بحيادهما، اضطرتا للتخلي عن حيادهما وإدانة الغزو الروسي. ذلك لأن الأزمة الراهنة قد أبرزت مفهوم أمن أوروبا القومي. فعلى الرغم من الخلافات الداخلية فإن الجميع بات يشعر أنه مهدد من عدو واحد، ما يعني أن الحياد قد لا يفيد. لذلك لا يبدو غريبًا بعد انتهاء الحرب الراهنة أن تتطلب دول محايدة مثل السويد وفنلندا الانضمام المباشر للناتو.
من أبرز التحولات التي شهدها العالم جراء الحرب الأوكرانية هو خروج العملاق الألماني عن أهم ثوابته منذ الحرب العالمية الثانية، وهي تحجيم الإنفاق العسكري والبعد عن أي عمل عسكري خارجي. أولاف شولتز المستشار الألماني أعلن عن إنشاء صندق خاص لتعزيز القدرات الدفاعية برأسمال 100 مليار يورو. وزيادة الإنفاق العسكري بأكثر من 2%.
المهم أيضًا أنه وسط هذا الاستقطاب الدولي، فقد بدأت مجموعة من الدول في الوقوف في المنتصف لمراعاة مصالحها مع الغرب ومع روسيا في نفس الوقت. ربما ليست مواقف تلك الدول بالقوة التي يمكن وصفها بعدم الانحياز، لكنها بالتأكيد نواة مهمة لكتلة دولية تتشكل تحرص على الخروج من الاستقطاب العالمي.
كذلك يشهد العالم حاليًا أكبر محاولة لإعادة رسم خريطة الطاقة، ومعها خريطة الأوضاع الجيوسياسية. فألمانيا أعلنت بدء تخفيف اعتمادها على الغاز الروسي، رغم أن روسيا هي مصدرها الأساسي. لكن السعودية رفضت الاستجابة للضغط الأمريكي بزيادة الإنتاج، وحافظت على شراكتها مع روسيا ضمن تحالف أوبك بلس. وامتنعت الإمارات عن إدانة الغزو الروسي في تصويت مجلس الأمن الذي تزعمته واشنطن.
الناتو ميّت دماغيًا
أما فنزويلا، دولة أمريكا اللاتينية التي تحاصرها العقوبات الأمريكية من كل جانب، فقد باتت مغرية للزيارات الرسمية الأمريكية حاليًا. فقد طلبت الإدارة الأمريكية من فنزويلا زيادة إنتاجها من النفط، ورحب الرئيس الفنزويلي بذلك الطلب شرط فتح صفحة جديدة مع بلاده. وزيارة الوفد الأمريكي لفنزويلا هو بالفعل صفحة جديدة، وخطوة لإعادة دمج فنزويلا مع الغرب من باب الطاقة.
كل تلك المحاولات الأمريكية تحركها رغبة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الحفاظ على أسعار النفط متدنية للناخب الأمريكي، كي لا يتأثر الحزب الديموقراطي في انتخابات التجديد النصفي القادمة. خصوصًا أن بايدن وتجاهله للحديث مع ولي العهد محمد بن سلمان، وإصراره على التحدث فقط للملك سلمان، وتكليف مسئولين أقل رتبة للحديث مع ولي العهد، وهو السبب الرئيسي وراء الجفوة بين واشنطن والرياض، بعد الدفء الذي ساد في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
ومما كشفته الحرب الأوكرانية أن حلف شمال الأطلسي، الناتو، قد يبدو أنه في حالة موت دماغي، كما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، منذ شهور. ماكرون قال بأن الخلافات بين أعضاء الحلف جعلته حلفًا منزوع القوى، وهو ما أكدته الأزمة الأوكرانية. فصراع أوكرانيا كان بالأساس على انضمامها لحلف الناتو، وكان الرئيس الأوكراني متوقعًا لدعم غير محدود من الناتو حال حدوث الاجتياح الروسي. لكن وجد الرجل نفسه في نهاية المطاف وحيدًا، حتى أعلن منذ أيام أن بلاده لن تنضم للناتو.
كذلك يستعد العالم للتعرف على نظام اقتصادي جديد بعد أن قرر الغرب ضرب روسيا بالنووي الاقتصادي عبر إخراجها من نظام سويفت. روسيا هي الاقتصاد رقم 11 على مستوى العالم، وناتجها المحلي يبلغ 1.5 تريليون دولار سنويًا. روسيا سوف تتأثر بالخروج، والعالم كذلك سيعاني لأن البنوك الروسية موجودة في عمق التجارة العالمية. والأهم أن روسيا أسست شبكة خاصة بها للاتصالات المالية، الشبكة الروسية شهدت مليوني عملية مراسلة عام 2020، وبعد العقوبات يتوقع أن تصل المراسلات المالية عبرها إلى 30% من المراسلات الداخلية الروسية.
يا سيدي.. المساواة درجات
أمّا أبرز ما كشفته الأزمة الأوكرانية للعالم أن اللاجئين قد لا يعتبرون مشكلة كبرى. فقد استقبلت دول شرق أوروبا قرابة 2.5 مليون لاجئ فقط في بضعة أيام. واستطاعت الدول احتواء هذا العدد الضخم وسط تغطية إعلامية ترحب بهم وتعتبرهم أيدٍ عاملة ويتمتعون بالمؤهلات المطلوبة التي تخدم سوق العمل الأوروبي. لكن بالطبع قد صرّح غالبية المسئولين في دول شرق أوروبا أن ذلك الترحيب قد لا يستمر، لأنه مع استمرار الحرب يتوقع وصول أفراد أقل كفاءة وأكثر فقرًا.
ومن المفاهيم التي اختلفت أيضًا مفهوم المقاتل الأجنبي، المرتزق. ففي وسط التعاطف الشعبي الجارف مع أوكرانيا، ارتفعت الدعوات للتطوع للقتال بجانب الجيش الأوكراني. الحكومات الغربية أعلنت تسهيلات كبيرة للراغبين في السفر لأوكرانيا. ما يستدعي للأذهان العالمية دعوات الجهاد ضد الروس في أفغانستان، ثم بعد انتهاء الغزو الروسي تحول المقاتلون المتطوعون، المجاهدون، إلى إرهابيين مطلوبين للعدالة الدولية. وهو المصير الذي ينتظر المتطوعين الأوروبيين وفقًا للقانون الدولي، لكن قد تكون هناك استثناءات حينها، أو يتم تكييف الأمر قانونًا خصوصًا مع توقيع المتطوعين لعقود رسمية مع الجيش الأوكراني.
في وسط كل التأثيرات العالمية للحرب يبرز التأثير الأكبر لشخص بوتين، ضابط المخابرات السابق الذي لا يبالي إلا بمجد روسيا الكبرى. فما يفعله الرجل مع أوكرانيا حاليًا فعله مع جورجيا عام 2008، والقرم 2014، و بيلاروسيا عام 2020. يتبع بوتين سياسة واضحة من شرذمة أراضي جيرانه وتأليب المواطن على حكومته ثم الاجتياح العسكري إذا لزم الأمر. فالرجل يدرك أن عودة الاتحاد السوفييتي أمر مستحيل، لكن على الأقل لا بد من جعل الدول المجاورة غير مستقلة، أو تتولاها حكومات موالية لروسيا.
فما بعد الأزمة الأوكرانية لن يكون فقط هو التساؤل عن مصير أوكرانيا والروس. بل مصير أكثر من 15 دولة أخرى انفصلت عن الاتحاد السوفييتي، ويعدّها القوميون الروس، وعلى رأسهم بوتين، ملكًا لهم. وروسيا بوتين تبدو عازمة على التمدد، وأوكرانيا بمثابة بيان بسيط يلقيه بوتين في وجه العالم كي يستعد العالم لمزيد من التوسع الروسي.
وهنا تبزر مقولة ميخائيل خودوركوفسكي، معارض روسي منفي في لندن، أنه على الغرب أن يحسم قراره. إما أن يستسلم لفلاديمير بوتين في كل مكان يرى بوتين أن له فيه مصالح، أو يُظهر الغرب استعدادًا للرد على العنف بالعنف.