«ريان كينت».. هل سمعت هذا الاسم من قبل؟ حسنًا، هذا اسم ناشئ سابق في أكاديمية ليفربول، لم يتم تصعيده للفريق الأول فخرج في سلسلة إعارات، قبل بيعه لنادي رينجرز الأسكتلندي.

ما يهمنا في قصة «ريان» هو العائد المادي الذي حصل عليه الريدز نتيجة لتسويق خدماته، إذ يقول حسابه على موقع Transfermarkt إنه أدخل خزائن ناديه ما يقارب 7.7 مليون يورو حتى الآن، مع بند يلزم رينجرز بدفع المزيد كلما تألق اللاعب الوافد. 

هذا ليس مبلغًا صغيرًا في مقابل ناشئ خارج حسابات الفريق الأول، لكن ربما تظن أنه لن يصنع لليفربول الفارق في سوق الانتقالات حاليًا. ماذا لو أخبرتك أن الإدارة استغلت هذا الرقم لتمويل الصفقة التي جذبت اهتمام مانشستر يونايتد وميلان؟ «تاكومي مينامينو».

اللاعب الذي تألق أمام ليفربول خلال دوري الأبطال ثم أصبح أحد أفراد كتيبة المدرب الألماني نظير 7.25 مليون جنيه إسترليني، أي 8.5 مليون يورو فقط، ليضيف إليها عمقًا هجوميًا لم يكن ليضيفه ريان كينت. هل كان ذلك صدفة؟

يصعب الإجابة بنعم، لأنها لم تكن الخطوة الذكية الأولى التي يقوم بها النادي في الأعوام الأخيرة، بل هو أقرب ما يكون لنسق متكرر انتهجته الإدارة ليس فقط في سوق الانتقالات ولكن في شتى الملفات المهمة، منذ بدأت رحلة صعود النادي مع الإدارة الجديدة التي انتشلته من الضياع.

على شفا الإفلاس

الآن انسَ كينت وانسَ مينامينو أيضًا، وارجع بذاكرتك لعام 2007، العام الذي صعد فيه ليفربول لنهائي التشامبيونزليج، وهو نفسه العام الذي استحوذ فيه رجلا الأعمال الأمريكيان: «توم هيكس» و«جورج جيليت» على ملكية النادي الإنجليزي بقيمة 219 مليون جنيه إسترليني. 

قطع الثنائي وعودًا باستثمار المزيد من أموالهما الشخصية لصالح الريدز، وعدم الاقتراض من البنوك حتى لا تتراكم الديون على كاهل النادي، لكن تبين بمرور الوقت أنهما لم يكونا صادقين. إذ اقترضا أموالًا كثيرة من «مصرف اسكتلندا الملكي»، صاحبها الكثير من الفوائد التي تراكمت حتى قادتهم لاقتراض المزيد؛ لتتجاوز ديون الشركة المالكة لليفربول عام 2010 حاجز 350 مليون جنيه إسترليني

انعكس سوء الإدارة والتخطيط على وضع الفريق الأول من خلال سوق الانتقالات الذي شهد رحيل تشابي ألونسو، ماسكيرانو، وجبريل سيسيه لسد نفقات النادي، وتعويضهم بلاعبين أقل من المستوى المطلوب للمنافسة على البطولات، مما أشعل الخلافات بين الإدارة الأمريكية والمدرب رافا بينيتيز. 

المشكلة أن كل تلك التنازلات لم تكن كافية للتعافي ماليًا، بل إن الكلفة السنوية للفوائد وصلت لرقم مجنون يقدر بـ30 مليون باوند، وهو ما يعني 100 ألف باوند كان النادي يدفعها يوميًا لمنع البنك من الاستحواذ على أصول ليفربول، حتى ذلك الخطر لم يكن مستبعدًا كما يعترف السيد «كريستيان برسلو» المدير السابق للريدز. 

بالطبع، إدارة نادٍ في تلك الظروف ليست مدعاة للفخر، لكن «كريستيان» يمتلك شيئًا واحدًا على الأقل ليتباهى به، وهو كونه حلقة الوصل في صفقة بيع النادي عام 2010 بين الملاك: هيكس، وجيليت من ناحية والسيد «جون هنري» من ناحية أخرى.

لنخصم بالديون

هذه الصفقة كلفت شركة «جون هنري» «Fenway Sports Group» مبلغ 300 مليون باوند، وبمجرد توليه القيادة، لم يتسرع بإطلاق الوعود، وهمّ بترتيب أولويات ذلك النادي العريق صاحب الحاضر المزري بميزانية سنوية تشير لخسائر بقيمة 50 مليون باوند.

يملك «هنري» باعًا طويلاً مع الإدارة عمومًا، والإدارة الرياضية بوجه خاص، إذ يتولى قيادة نادي «بوسطن ريد سوكس» الأمريكي بالإضافة لشركة متخصصة في سباق السيارات. والحق أنه كان جادًا للغاية بشأن خطة إنقاذ ليفربول باستهداف القضاء على الديون أولاً. فبدأ في عقد تسويات مالية مستعينًا بعلاقاته وخبرته، ونجح بشكل مباشر في خصم 70 مليون باوند من الديون. 

مهد النجاح في هذه الخطوة الطريق للخطوة التالية، من أجل تطوير النادي من الناحية التسويقية، والتركيز على العوائد التجارية التي يحصل عليها ليفربول عبر الرعاة وبيع منتجاته. لماذا؟ لأن الفريق لا يتأهل لدوري الأبطال، وبالتالي لا يمتلك مصادر دخل تتيح له انتداب صفقات قوية إلا عبر تطوير علامة النادي التجارية. 

وبالفعل كان له ما أراد، إذ تقول الأرقام إن عوائد الريدز التجارية قدرت بنحو 62 مليون باوند خلال موسم 2009/2010، لكن بعد أربعة أعوام من العمل التسويقي قفزت بنسبة 87% لتتجاوز 116 مليوناً. ومع بروز ليفربول أورربيًا من جديد بنهاية موسم 2017/2018، وصلت العوائد لـ155 مليوناً، دون حساب عوائد البث التلفزيوني والإعلانات. 

بالطبع، فإن المكاسب التجارية مقرر لها أن تزيد بنهاية موسم 2019/2020، ليس لأن ليفربول بطل مونديال الأندية وقد ينهي الموسم بطلاً للبريمرليج، لكن لأنه وقع عقدًا مع شركة نايكي الأمريكية لتكون الراعي الرسمي للفريق مستقبلاً. وتقول صحيفة Financial times إن العقد الجديد يلزم نايكي بدفع 70 مليون باوند سنويًا، مع تعهد بتسويق قمصان النادي في ما يزيد على 6 آلاف متجر حول العالم. 

https://twitter.com/LFCLaurie/status/1154740337732202496

الرجل الثاني

هذا النجاح الاقتصادي لم يكن ليتحقق دون استقرار النادى إداريًا، وإيمان مالك النادي الجديد بالتخصص. لذلك قرر «جون هنري» بعد التخبط الذي وقع بفريق الكرة خلال الشهور الأولى منح «مايكل جوردون» صلاحيات إدارية واسعة.

«مايكل» هو الرجل الثاني في مجموعة «FSG»، وقد تم تعيينه في إدارة ليفربول بمجرد استحواذ الأخيرة على النادي، ثم تولى منصب المدير ليكون مسئولًا بذلك عن متابعة أحوال النادي اليومية، ومراقبة سيره وفقًا للإستراتيجية المرسومة.

لا يحب «مايكل» الظهور كثيرًا، ونادرًا ما تجد له حديثًا صحفيًا، إلا أن تأثيره يفوق الجميع داخل غرفة صناعة القرار بليفربول. فكان المسئول عن إعادة رسم الهيكل الإداري للنادي، وتحديد ميزانية الانتقالات، حتى تعيين المدربين. 

من إقالة الأسطورة كيني دالجليش عام 2012، ثم الرهان على رودجرز، وأخيرًا الاستعانة بالألماني يورجن كلوب الذي جدد تعاقده، مؤخرًا، لأربعة أعوام ونصف العام مقبلة؛ كان جوردون هو من يتخذ القرار. ويؤكد المدرب الألماني دومًا على دور جوردون المباشر في وصول ليفربول لتلك النقطة، لدرجة أنه يصفه بشخصه المفضل في النادي.

يمكننا أن نعتبر ذلك درسًا إداريًا كبيرًا لكل الأندية التي تستعين بلاعبين سابقين، كل مؤهلاتهم أنهم كانوا لاعبين ذوي جماهيرية كبيرة، لكن دون خبرة وأدوات إدارية تمكنهم من تحقيق الإضافة المرجوة كما فعل «جوردون».

مايكل جوردون رفقة مدرب ليفربول يورجن كلوب بعد تجديد تعاقده.

مايكل الثاني

الآن لنعد مجددًا لكينت ومينامينو، وكيف تمكن ليفربول من بيع ناشئ بهذا الرقم؟ وشراء لاعب أفضل بسعر مقارب؟ هذه ليست مهمة كلوب أو جوردون، بل شخص آخر يدعى «مايكل إدواردز»، المدير الرياضي لليفربول.

بدأ «إدواردز» عمله  كمحلل أداء عام 2011، ثم أثبت كفاءة ليتم ترقيته ويصبح مسئولًا عن فريق الكشافين الذي يحلل احتياجات الفريق عبر الإحصائيات وبالتالي يختار اللاعبين المنضمين وفقًا لتلك البيانات. وعليه تم منحه ثقة الإدارة لسيره وفقًا لمنهجهم، لكن شخصًا واحدًا كان غاضبًا منه؛ برندان رودجرز.

لم يكن الأمر شخصيًا، بل كان يتعلق بتوزيع المهام، إذ رأى رودجرز أن دوره يقتضي اختيار اللاعبين وما على الإدارة سوى التوقيع معهم، لكن جوردون نجح في إخماد الصراع بين الطرفين حينها. يشاع أن فريق إدواردز استهدف التعاقد مع فيرمينو وإيمري تشان، بينما أصر رودجرز على خدمات بنتيكي ولوفرين، لذلك لم يكن هذا الوضع ليستمر أبدًا.

رحل رودجرز، وبدأت الإدارة تفكر في المدرب الجديد. وكان أحد أهم معايير الاختيار هو مدى تعاون المدرب الوافد مع منظومة الإدارة الرياضية. وقع الاختيار على كلوب لأنه سبق وعمل بنجاح باهر رفقة مايكل زورك المدير الرياضي لبورسيا دورتموند، وفي شمال غرب إنجلترا كان مقدرًا له العمل مع مايكل آخر.

بعد قدوم يورجن، أضحى «إدواردز» المدير الرياضي. وتمثلت مهامه في تطوير قطاع الكرة، وتحديد اللاعبين المطلوبين، والتفاوض مع الأندية. وعمل كحلقة وصل قوية بين الإدارة والفريق، لذلك لم يمر وقت طويل حتى جنى ثمار عمله.

صلاح، ماني، فينالدوم؛ كل هؤلاء كانوا لاعبين في فرق متوسطة، ونجح «إدواردز» في استقطابهم بأسعار قليلة قبل أن يتحولوا لنجوم. لم يتوقف الأمر هنا، بل امتدت براعته لإقناع آخرين رغم تدخل أندية كريال مدريد والسيتي وتشيلسي لمنافسته. فان دايك وأليسون وفابينيو كانوا خير مثال على قدرات «إدواردز» ومدى قدرة المشروع على إقناع اللاعبين.

عمليات بيع اللاعبين أيضًا كانت بنفس جودة عمليات الشراء. انظر مثلًا للاعبين مثل كيفن ستويرت، سولانكي، داني وارد، أندريه ويسدوم، وطبعًا ريان كينت؛ كل هؤلاء لم يستفد الفريق من وجودهم تقريبًا وظلوا خارج قائمة المباريات أغلب الوقت، لكن «إدواردز» نجح في بيعهم بنفس السعر الذي حصل به على خدمات هداف البريميرليج محمد صلاح، وأفضل ظهير أيسر بإنجلترا روبيرتسون، والصفقة المنتظرة مينامينو، مجتمعين.

نخلص مما سبق أننا أمام نموذج إداري جدير بالاهتمام والاحترام، لا يصح أن تكون كاريزما كلوب وتألق كتيبته سببًا في بخس حقه. تذكر من أتى بكلوب أصلاً؟ من وفر المال الكافي؟ من جعل ليفربول سبّاقًا على مستوى تحليل البيانات؟ المنظومة الكاملة هي من تصنع المجد الحقيقي، وعلى الجمهور أن يرى الصورة كاملة.