سلاح الاستثمار: كيف استقطب اللوبي القطري قلعة الجمهوريين لصالحه؟
هذا التقرير جزء من مشروع «الحج إلى واشنطن» الذي أنجزه فريق ساسة بوست لتغطية أنشطة لوبيات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة بين 2010 و2020. ومعظم المعلومات الواردة في التقرير تستندُ لوثائق من قاعدة بيانات تابعة لوزارة العدل الأمريكية، تتبع لقانون «تسجيل الوكلاء الأجانب (فارا)»، الذي يُلزم جماعات الضغط بالإفصاح عن أنشطتها وأموالها، وكل الوثائق متاحة للتصفح على الإنترنت.
أثار الحصار الرباعي الذي فرضته السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطر، صراعًا من نوعٍ خاص بين شبكات المستثمرين وجماعات الضغط السياسي وشركات العلاقات العامة؛ وذلك لشراء القدر الأكبر من النفوذ واستمالة السياسيين في «عاصمة العالم»، واشنطن، لصالح زبائنهم.
يستفيد الساسة الأمريكيون من هذا النمط من الصراعات ويجدون مصالحهم في تناقضاتها، ويستغلونها بأكبر قدر ممكن. أحيانًا يستطيعون الموازنة، وأحيانًا أخرى عليهم الانحياز لطرفٍ دون الآخر.
في هذا التقرير، سنتعرف إلى السيناتور الجمهوري، ليندسي جراهام، ومن ثم نسرد لكم تفاصيل أنشطة اللوبي القطري في ولاية كارولينا الجنوبية، قلعة الجمهوريين، وجهوده في الضغط على ليندسي جراهام، وكيف كسبه لصفه عن طريق الصفقات التجارية.
على كل لون: ليندسي جراهام يؤيد ثم يعارض
وُلد ليندسي جراهام عام 1955 في ولاية كارولينا الجنوبية، وتعود أصول عائلته إلى العرق «الأسكتلندي الأيرلندي»، وفي عمر 22 فقد جراهام والديه، بعد دخوله جامعة كارولينا الجنوبية لدراسة علم النفس، التي تخرج فيها عام 1977، واستمر في مشواره التعليمي إلى أن حاز درجة الدكتوراه في فقه القانون.
عمل جراهام ما بين أعوام 1982 و1988 محاميًا عسكريًّا في القوات الجوية الأمريكية، وانضم بعدها إلى الحرس الوطني للقوات الجوية لولاية كارولينا الجنوبية عام 1989. ثم انتقل من القطاع العسكري إلى السياسي، عندما رشح نفسه لمجلس النواب ممثلًا عن ولايته، وخدم نائبًا لدورتين انتخابيتين.
في عام 2002، ترشح جراهام لمجلس الشيوخ عضوًا عن ولاية كارولينا الجنوبية، واستطاع الحصول على مقعده الذي ما زال مستمرًّا فيه منذ عام 2003 حتى اليوم.
أثناء عمله في مجلس الشيوخ، انضم جراهام للجان القوات المسلحة، ولجنة المخصصات، واللجنة القضائية، ولجنة الموازنة. وفي عام 2015، ترأس اللجنة الفرعية للعمليات الخارجية التابعة للجنة المخصصات، وهي اللجنة التي لديها سلطة قضائية على موازنة وزارة الخارجية وأي عملية خارجية. وفي عام 2019، ترأس جراهام اللجنة القضائية.
وحين نافس في الانتخابات الداخلية للحزب الجمهوري على بطاقة الترشح للانتخابات الرئاسية في عام 2016، كان جراهام من الناقدين والمستهزئين بالمرشح دونالد ترامب، واصفًا إياه بأنَّه أفضل «لاعب جولف»، وبعد فوز ترامب بالرئاسة أصبح جراهام من أشدِّ المدافعين عنه، على عكس صديقه السيناتور الجمهوري جون ماكين، الذين عارض ترامب وكان ممن أفشلوا مشروع ترامب وزعيم الأغلبية، ميتش ماكونيل، لتعطيل برنامج «أوباماكير».
أما عن مواقفه السياسية الخارجية، فكان جراهام مدافعًا تاريخيًّا عن صفقات الأسلحة للسعودية، ولكنَّه– بغرابة– اتخذ موقفًا مغايرًا بعد حادثة مقتل خاشقجي، فشنَّ حملة ضد محمد بن سلمان في الكونجرس، وكان يحاول دعم أي تشريع يحظر تصدير الأسلحة للسعودية، وصرَّح بأنَّه سيسعى لفرض «عقوبات» على المملكة.
لدى جراهام موقف آخر جديرٌ بالتأمل؛ إذ كان داعمًا لقانون «جاستا» الذي يسمح للمتضررين من هجمات سبتمبر بمقاضاة الدول المرتبطة بالهجمات مثل السعودية، وكان جراهام من الداعمين الرئيسيين لهذا التشريع، وتواصل اللوبي السعودي معه بكثافة قبل مرور القانون. وبعد ما لمع نجمه بوصفه أحد الداعمين وصدق على القانون، قدَّم جراهام بمساعدة السيناتور ماكين تعديلًا على القانون.
وفي ملف مصر، انضم جراهام إلى صديقه ماكين في الهجوم على الجنرال عبد الفتاح السيسي، ووصف ما حدث بـ«الانقلاب»، بعد ما رفضت إدارة أوباما استخدام هذه الكلمة؛ لما فيها من تبعات على قطع المساعدات الأمريكية للجيش المصري.
حثَّ ماكين وجراهام الإدارة الأمريكية على قطع المساعدات الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية (وليس مساعدات وزارة الدفاع) للضغط على السيسي لنقل السلطة سلميًّا.
لكن جراهام لم يستمر على موقفه الناقد للسيسي، ففي عام 2016، صرح بتصريح مناقض لكل مواقفه قال فيه: «أعتقد أنَّ السيسي هو الرجل المناسب في الوقت المناسب». وبعد صعود ترامب للسلطة، زار جراهام مصر في يوليو (تموز) 2019، والتقى جراهام بالسيسي لبحث «حل لمسألة المستوطنات»، وعبَّر جراهام عن أهمية العلاقات الاستراتيجية بين مصر وأمريكا.
وكانت هذه بعض المواقف القليلة التي انتقل فيها جراهام من طرف إلى نقيضه في وقت قصير. ويمكنك الاطلاع بالتفصيل على مواقف جراهام التي تغيرت من السيسي في هذا الموضوع.
قطر وعلاقاتها في ولاية كارولينا الجنوبية
تمتلك دولة قطر علاقات استثمارية مميزة في ولاية كارولينا الجنوبية، التي يمثلها ليندسي جراهام، والسيناتور الجمهوري، تيم سكوت.
تعد غالبية سُكان الولاية من المحافظين، مثل معظم الولايات الجنوبية. واستطاع الحزب الجمهوري فرض سيطرته على الولاية منذ عقود. ومنذ عام 1980، تُصوت الولاية لمرشحين الرئاسة الجمهوريين، ويسيطر الجمهوريون اليوم على غالبية مقاعدها التشريعية. وتتميز ولاية كارولينا الجنوبية بأنَّها ولاية ساحلية، تتحكم بميناءين استراتيجيين، ويوجد فيها مصانع الأسلحة، ومصانع الطائرات الحربية والمدنية.
تبرز علاقة قطر أكثر في مدينة تشارلستون الساحلية التي تقع عند ملتقى نهري أشلي وكوبر. في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، دخلت مدينة تشارلستون اتفاقية دولية مع مدينة الدوحة على «توأمة المدن»، الاتفاقية التي ستسهل العلاقات التجارية والثقافية بين المدينتين. وجاءت هذه الاتفاقية بعد زيارة وفد قطري، على رأسه مشعل بن حمد آل ثاني، السفير القطري للولايات المتحدة، ولقائه عمدة المدينة جون تيكلينبورج، وعقد الوفد اجتماعاتٍ أخرى مع حاكم الولاية هنري ماكماستر.
وكانت إحدى أبرز العلاقات التجارية مع تشارلستون هي العلاقة مع مصنع شركة بوينج المصنعة لطيارات «787 دريملاينرز – 787 Dreamliners». وتملك الخطوط الجوية القطرية 94 طائرة من طراز 787 دريملاينرز، وطلبت 30 طائرة أخرى في عقدٍ بلغ 11 مليار دولار، وخلق 6800 وظيفة جديدة في ولاية كارولينا الجنوبية؛ مما عزز اقتصاد الولاية، وبالتالي زاد من فرص إعادة انتخاب ممثليها، مثل ما حدث في انتخابات عام 2020.
وفي عام 2017، وقَّعت قطر والولايات المتحدة اتفاقية صفقات سلاح بلغت 12 مليار دولار مقابل 72 طائرة «إف-15» مصنعة من شركة بوينج، وبعدها بقرابة العام وافقت وزارة الخارجية على صفقة بقيمة 197 مليون دولار تسمح لشركة رايثون بتطوير المعدات ونظام الدعم الخاص بمركز العمليات للقوات الجوية القطرية.
وقدَّرت وثيقة أنَّ الخطط القطرية الاستثمارية في ولاية كارولينا الجنوبية ستوفر 50 ألف فرصة عمل إضافية. إلى جانب ذلك، يعمل في قاعدة العديد الجوية في قطر قرابة 750 عسكريًّا من قاعدة شاو الجوية التي تقع في ولاية كارولينا الجنوبية، ويعمل آخرون من قاعدة تشارلستون المشتركة التي تقع في ولاية كارولينا الجنوبية.
الجميع يعرف لغة المال.. اللوبي القطري يُعزز من وجوده
في مارس (آذار) 2018، أفصحت شركة «برزان القابضة» عن علاقتها بمكتب «برزان للطيران إل إل سي – Barzan Aeronautical LLC»، الذي يقع في مدينة تشارلستون. وتملك وزارة الدفاع القطرية «برزان القابضة»، وتُركز الشركة استثمارها في تطبيقات أنظمة «آي إس آر – ISR» الداعمة للمتطلبات الأمنية والدفاعية لدولة قطر، ويعمل المكتب على متابعة صفقات تطوير طائرات مراقبة تُصنَّع محليًّا، ووقَّع على الوثيقة ريتشارد كرافين، وهو بريطاني يشغل منصب المدير التنفيذي لمكتب شركة «برزان للطيران» في تشارلستون، ويعمل الأمريكي فنسنت رينز، مسؤول العمليات في المكتب.
أفصحت الشركة عن هذه العلاقة بعد زيارة وفد قطري، على رأسه عبد الله بن محمد بن سعود آل ثاني، رئيس جهاز قطر للاستثمار، إلى ولاية كارولينا الجنوبية في فبراير (شباط) 2018، حيث التقى مسؤولين من شركة بوينج، واستقبل الوفد حاكم الولاية، هنري ماكماستر، والسيناتور جراهام.
بعد أن أبدى المسؤولون القطريون حسن نواياهم تجاه واشنطن، بدأوا بالاستعداد لعقد صفقات استثمارية كبيرة من أجل تعزيز اقتصاد ولاية كارولينا الجنوبية، واستمرت جهود مكتب برزان في الولاية في ذلك، عندما استأجر شركة «أوت آند بيليتزكي آند أونيل – Ott, Bielitzki & O’Niell» مقابل خدمات قانونية واستشارية في يوليو (تموز) 2018.
نسقت الشركة في النصف الثاني من عام 2018، اجتماعات مع كاثي كراوفورد، من مكتب السيناتور تيم سكوت، ممثل ولاية كارولينا الجنوبية، وتبع ذلك اجتماعات مع موظفين من مكتب السيناتور جراهام.
ونسَّقت الشركة اجتماعًا لمسؤولين في شركة «برزان» مع لجان الخارجية في مجلس الشيوخ والنواب، وموظفين يعملون في مكاتب أعضاء في الكونجرس، مثل السيناتور الجمهوري تيد كروز، والسيناتور الجمهوري روب بورتمان.
الضغط يزيد وجراهام يغيِّر موقفه من السعودية
استقبل العالم، في أكتوبر 2018، خبرًا صادمًا بجريمة مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، وأشارت تقارير وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى أنَّ ولي العهد، محمد بن سلمان، هو من أمر بتنفيذ هذه الجريمة، وسبق كل ذلك تقارير متراكمة عن الانتهاكات الإنسانية للتحالف السعودي في حرب اليمن.
أفقد تهور ابن سلمان مؤسسات الدولة الأمريكية صبرها، ومع ميل جراهام للجانب القطري بسبب المصالح المتدفقة في ولايته، كان عليه اتخاذ موقفٍ حازم تجاه ابن سلمان؛ فأعضاء مجلس الشيوخ الذين على شاكلة جراهام لا يفضلون المواقف الحادة في السياسة، فهم يعرفون كلفتها، لكنَّ ابن سلمان لم يترك شيئًا يمكن للساسة الأمريكيين التمسك به لصالحه، باستثناء الرئيس السابق دونالد ترامب.
وفي هذا السياق، دعم ليندسي جراهام مشروعات القوانين التي تُحمِّل السعودية مسؤولية الانتهاكات الإنسانية في حرب اليمن، ووصف العلاقة مع السعودية بأنَّها أصبحت عبئًا على الولايات المتحدة، وقدَّم جراهام مشروع قانون رقم «S.Res.714» الذي يُحمِّل ولي العهد محمد بن سلمان مسؤولية الأزمة الإنسانية في اليمن، وحصار قطر، وسجن النشطاء السعوديين وتعذيبهم في السجون، وجريمة مقتل خاشقجي.
أثناء حديثه في المجلس، ذكر جراهام أنَّ طريقة تعامل السعودية مع الملفات السياسية «كارثية»، وذكر أمثلة استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، والحصار الذي فرضته السعودية على قطر.
وبالعودة إلى جهود اللوبي القطري في ولاية كارولينا الجنوبية، فقد نسَّق مكتب برزان في أبريل (نيسان) 2019، غداءً مع وزارة التجارة في ولاية كارولينا الجنوبية لنقاش الاستثمارات المستقبلية في مدينة تشارلستون. وفي يوليو (تموز) 2019، استقبل الشيخ تميم السيناتور جراهام في ديوانه، وعبَّر السيناتور أثناء اللقاء عن شكره لدور قطر، وأثنى على دور قاعدة العديد في العلاقات الاستراتيجية الثنائية بين الدولتين.
وفي هذه الفترة، نسَّق مكتب برزان الجوي ما بين فبراير (شباط) – أغسطس (آب) 2019، لشراء معدات عسكرية أمريكية، ونُسِّقت بعض الاجتماعات بين مسؤولين في وزارة الدفاع القطرية والوكالات أو الشركات الأمنية الأمريكية المسؤولة عن عمليات بيع السلاح ونقله. وفي 28 أغسطس 2019، نسق المكتب اجتماعًا لريتشارد كارفين مع حاكم ولاية كارولينا الجنوبية، جون تيكلينبورج.
وعملت شركة «أوت آند بيليتزكي آند أونيل» على تنسيق حضور السيناتور جراهام إلى منتدى الدوحة الذي عقد في ديسمبر (كانون الأول) 2019، والذي كان متحدثًا رئيسيًّا فيه. وفي يناير (كانون الثاني) 2020، عقدت الشركة اجتماعًا لمكتب برزان مع باول كامبيل، السيناتور السابق في مجلس الشيوخ عن ولاية ساوث كارولينا، ورئيس هيئة الطيران في تشارلستون.
وفي سبتمبر (أيلول) 2019، استأجرت السفارة القطرية شركة «نايلي كريك – Naele Creek» التي أسسها أندرو كينج، المساعد السابق للسيناتور جراهام. ونصَّ العقد على منع الشركة من التعاقد مع أيِّ زبون آخر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باستثناء المغرب.
وركز كينج تواصله مع لجان المخصصات والعلاقات الخارجية، وعقد اجتماعات مع شيوخ مثل: تود يونج، وليندسي جراهام، وريتشارد بار، الذي كان يترأس حينها لجنة الاستخبارات. وبلغت المدفوعات، حتى كتابة هذا التقرير، 300 ألف دولار.
وبحسب وثائق وزارة العدل التابعة لقانون «فارا»، فقد بلغت موازنة شركة «برزان» في تشارلستون خلال العامين الماضيين 20 مليونًا و569 ألف دولار. من بين جهود تعزيز العلاقة مع مدينة تشارلستون، أعلنت السفارة القطرية في الولايات المتحدة تبرعها بـ100 ألف دولار للمدينة، دعمًا لها في مواجهة أزمة كورونا.
هذا التقرير جزءٌ من مشروع «الحج إلى واشنطن»، لقراءة المزيد عن «لوبيات» الشرق الأوسط اضغط هنا.