كيف أدارت قطر معركتها ضد المثلية الجنسية في كأس العالم؟
ذلك التصريح الذي أشعل فتيل الحرب التي تراها منذ بداية المونديال بين الحكومة القطرية وعرب الشرق الأوسط من جهة، وأغلب لاعبي منتخبات القارة العجوز وإعلامهم الرسمي وغير الرسمي من جهة أخرى.
صحيح أن تلك الحرب كانت قادمة لا محالة، وتعددت مقدماتها في العام الذي سبق مونديال قطر 2022، لكن ذلك التصريح كان بمثابة الدق الرسمي لطبولها.
تصريح جاء من «خالد سلمان»، السفير القطري الرسمي لكأس العالم 2022، في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2022، وعلى قناة «ZDF الألمانية» الشهيرة. فلماذا في ذلك التوقيت وعلى تلك القناة تحديدًا؟
دعنا نستعرض سريعًا عدة مشاهد في العام الذي سبق المونديال، في محاولة لفهم القصة كاملة، بعيدًا عن الهجوم الغربي على قطر ومبالغات السوشيال ميديا العربية في توصيف جهود الدولة الخليجية الصغيرة حجمًا الكبيرة مكانة لمحاربة المثلية الجنسية في كأس العالم 2022.
استنتاج ما لم يُقَل
في بداية عام 2021 أعلنت «وكالة الأسوشيتدبرس» الأمريكية في تقرير لها أن أعلام قوس قزح وقمصان وشارات «مجتمع الميم» سيكون مرحبًا بها في مونديال قطر 2022.
لم يستند التقرير الذي حقق انتشارًا واسعًا حينها إلى أي تصريح رسمي من الحكومة القطرية، لكنه استند إلى استنتاجات الصحفي الإنجليزي الشهير «روب هاريس» بأنها بطولة تخضع للفيفا، وبالطبع ستخضع لقواعد «التسامح وتقبُّل الآخر» كما تقر الفيفا دائمًا، لذا فإنه «من المتوقع» أن يُسمح لمجتمع الميم بممارسة جميع طقوسه في قطر عام 2022.
استند التقرير أيضًا إلى تصريحات هجومية حادة من «جويسي كوك» مسئولة اللجنة التعليمية والاجتماعية بالفيفا في التقرير نفسه.
أثارت تلك التصريحات استياء الحكومة القطرية، وتواصلت بشكل غير رسمي مع «جياني إنفانتينو» للحد من وتيرة تلك الهجمة. خاصة أن المادة رقم 285 من قانون العقوبات القطري تجرم ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، بما في ذلك العلاقات المثلية، وتصل عقوبات المخالفة إلى السَّجن حتى سبع سنوات، مما يضع الحكومة القطرية في موقف حرج.
هدوء مُتعمَّد
أغلب الظن أن قطر لم ترغب في بدء تلك الحرب مبكرًا. لم تكن ترغب في وجود حرب من الأساس، لكنها فُرضت عليها بشكل أو بآخر. وإن كانت قطر كانت قد سُلبت من حقها في اختيار دخول الحرب من عدمه، فإنها حافظت بذكاء على حقها في تحديد وقت بداية الحرب بشكل فعلي.
في تلك الفترة كانت قطر تواجه هجومًا كبيرًا بسبب تقارير حقوقية تشير إلى انتهاكات تتعلق بحقوق العمال المهاجرين والذين يعملون في مشاريع كأس العالم قطر 2022.
لم يكن من الحكمة أبدًا أن تحارب قطر في جبهتين في نفس الوقت. لا سيما أن كل ذلك يحدث قبل عام ونصف تقريبًا من ضربة البداية للمونديال، مما يعني أن احتمالات سحب التنظيم من قطر ما زالت قائمة. صحيح أنها احتمالات ضعيفة، لكنها قائمة.
لذا اتسمت تصريحات جميع المسئولين الرسميين القطريين بعباراتها العمومية والمهادنة بشكل أو بآخر في تلك الفترة، بما فيهم أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني. ردد مسئولو قطر عبارة واحدة: «الجميع مُرحب بهم في قطر دون تمييز، والجميع سيشعر بالترحاب والأمان».
حتى حينما رفضت صحيفة مونت كارلو الفرنسية تلك العبارات الدبلوماسية في لقائها مع القطري «ناصر الخاطر» المدير التنفيذي لبطولة كأس العالم قطر 2022، وطلبوا منه عبارات أكثر حسمًا عن وضع المثليين في مونديال قطر 2022، كان رده ساخرًا.
ظلت قطر محافظة على هذا النسق الهادئ من التصريحات بداية من عام 2021، وصولًا إلى أكتوبر/تشرين الأول لعام 2022. خالد سلمان نفسه الذي دق طبول الحرب رسميًّا، كان يقول التصريحات نفسها في تلك الفترة، وكان يؤكد أن الجميع مُرحب بهم في قطر دون تمييز.
لكن ما الذي حدث في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2022؟
أكتوبر الساخن
في 24 أكتوبر/تشرين الأول لعام 2022 وقبل شهر واحد من بداية المونديال، أصدرت منظمة «هيومان رايتس ووتش» تقريرًا عما وصفته بالانتهاكات الجسدية والضرب المبرح والاعتقالات التعسفية في سجون تحت الأرض بالدوحة، لأشخاص مثليين وعابرين جنسيًّا في آخر عامين سبقا كأس العالم، بالإضافة إلى حجب أي وسيلة إعلامية تغطي أخبار المثليين.
ساعد ذلك التقرير في سرعة اشتعال الحريق الذي كان في طريقه للاشتعال بالفعل. لكن ما أضافه ذلك التقرير هو شهادات 6 حالات تم القبض عليهم وتعذيبهم بالفعل، وهو ما أخاف مثليي الجنس من الحضور إلى قطر. الأمر انتقل لديهم الآن من موقف الأعلام والشارات والقمصان، إلى إمكانية الحضور من الأساس.
وكما هو متوقع، اشتعلت الحملة الغربية الشرسة على المونديال القطري كما تابعها الجميع، وخاصة في الإعلام الألماني الرسمي الذي استضاف وزراء وحقوقيين ولاعبين … إلخ، لمهاجمة المونديال قبل أن يبدأ وتحدي الحكومة القطرية بشكل مبالغ فيه.
قطر تضرب الآن
هنا قررت قطر أنه حان وقت الضرب، والاكتفاء بما قدمته من موقف دفاعي. فخرج خالد سلمان بتصريحه الحاسم على قناة «ZDF الألمانية»، وتبعه «عبد الله الأنصاري» مدير أمن بطولة كأس العالم بالتأكيد على أن رفع علم المثليين لن يُسمح به خلال كأس العالم، وسيُسحب من صاحبه.
الأمر لم يتوقف عند الهجوم الإعلامي فحسب، لكن لاعبين مثل هاري كين ومانويل نوير وفيرجيل فان دايك أعلنوا عن إصرارهم على دعم مجتمع الميم، وارتداء شارة دعم المثلية الجنسية أثناء مشاركاتهم في مباريات المونديال بما يتعارض مع قانون وعادات الدولة المستضيفة.
معركة أخرى لم تكن تتوقعها قطر، لكن طرفها الآخر هذه المرة هم اللاعبون، العنصر الأساسي المكون للبطولة من الأساس؛ لذا لم تدخل قطر هذه المعركة من الأساس، لكنها اختارت من ينوب عنها في تلك المعركة، لتكون ضربتها تحت مظلة قانونية؛ نظرًا لحساسية الموقف تلك المرة.
اختارت قطر «رجل الأعمال السويسري» أولًا، ورئيس الفيفا ثانيًا، «جياني إنفانتينو» لينوب عنها في تلك المعركة. وبعد أقل من 24 ساعة أثبتت قطر للعالم أجمع أنها أحسنت اختيار رأس الحربة في معركتها تلك.
إنفانتينو أم تشي جيفارا؟!
تصريحات صاروخية، وليست نارية فحسب، أطلقها جياني إنفانتينو في بداية كأس العالم، جعل العرب يشعرون وكأن تشي جيفارا هو من في المؤتمر الصحفي، لا جياني إنفانتينو.
لم يفق الإعلام الأوروبي من صدمته بسبب تصريحات إنفانتينو تلك، حتى فاجأهم رجل الأعمال السويسري بالإعلان عن معاقبة اللاعبين الذين سيرتدون شارة دعم المثلية بالبطاقة الصفراء قبل بدء المباراة، وهو ما جعلهم جميعًا يتراجعون عن تلك الخطوة.
كيف أقنعت قطر إنفانتينو لإطلاق صواريخ كتلك، والمخاطرة – ولو لأيام معدودة – باسمه ومنصبه وعلاقاته مع منظمات لها أذرعها الإعلامية الشرسة؟ لا أحد يعرف حتى الآن. لكن ما نعرفه ورأيناه جميعًا أنها نجحت في فرض كلمتها على الجميع، على الأقل حتى الآن.
وإن كنت لا ترجح تلك الرواية، وترى أن إنفانتينو قال تلك التصريحات من تلقاء نفسه، دعني أذكرك أن إنفانتينو نفسه متورط في تسريبات مع المدعي العام السويسري السابق «مايكل لاوبر» في تحقيق ما زال مفتوحًا حتى الآن، بخصوص استثناء بعض رجال الفيفا القدامى من حقبة جوزيف بلاتر، من المحاكمة على إثر مخالفات مادية سابقة لهم.
إنفانتينو بعد أقل من 48 ساعة من تلك التصريحات كان يلتقط صورًا تذكارية، وهو يشير مبتسمًا إلى شارة دعم المثلية الجنسية بألوان قوس قزح، مع وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر في ملعب خليفة الدولي، قبل لقاء منتخب ألمانيا واليابان.
هذا يعطيك صورة أوضح عن ذلك الرجل. هو رجل أعمال يبحث عن مصلحته أولًا، ثم مصلحة مؤسسته التي تبني إمبراطوريته الوظيفية والتسويقية ثانيًا، ومن الصعب للغاية أن يغامر بتلك التصريحات فقط من أجل مبادئه. هذا في حالة إن كانت مبادئه تتفق مع ما قاله من الأساس.
ماذا يقول كأس العالم؟
كيفية إقناع قطر لإنفانتينو للقيام بهذا الدور مهم، لكننا في الغالب لن نعرفها؛ على الأقل في المدى القريب. لذا دعنا الآن فيما صرنا نعرفه، ألا هو وجود دولة عربية أصبحت تجيد قواعد لعبة الصراعات، فصارت تناطح كبارها وتستخدم نفس أدواتهم.
دولة عربية جعلت رئيس فرنسا بذاته يدعمها ببيان رسمي في موقف شائك كهذا على عكس رغبته بكل تأكيد؛ أملًا في كسبها سياسيًا بعدما وقعت قطر منذ أيام عقدًا لتصدير الغاز الطبيعي المُسال للصين لمدة 27 عامًا مقابل 60 مليار دولار، في ظل تنامي احتياج أوروبا للغاز في هذا العِقد، بعد الحرب الروسية-الأوكرانية.
صارت هناك دولة عربية مسلمة تمثل قوة لا يُستهان بها على الإطلاق، وصار لها كلمتها المسموعة في مساحة كرة القدم العالمية، حتى في أعقد القضايا كقضية المثلية الجنسية تلك، التي كان الجميع قد ظن أن انتشار دعمها في أهم المناسبات الكروية صار أمرًا غير قابل للمقاومة.
وكما قالت الأستاذة هبة عبد الجواد في وصف حالة قطر تلك من قبل: «الفلوس كل حاجة، لكن الفلوس بدون ناس بتفهم ولا حاجة».