احتلَّ المسجد النبوي أهمية كبيرة في نفوس المسلمين، بسبب فتاوى الفقهاء، وبخاصة المالكية، بأفضلية المدينة والمسجد النبوي بعد ما دفن النبي فيه عما سواها مقارنة بالتحديد مع مكة، وارتباط الحج والعمرة بزيارة مسجد النبي مع عدم كونه نسكًا من النسك، وهي المكانة التي لم تحدّ منها فتاوى «تبديع زيارة قبر النبي» وضرورة فصل الحج والعمرة عن زيارة المدينة والمسجد النبوي.

استئثار المسجد النبوي بهذا الكمِّ الكبير من الفتاوى لم يؤثر فقط على مزاج الناس، بل أثر أيضًا على سلوكيات الحكام والسلاطين الذين كان المسجد يقع تحت سُلطتهم وضمن حدود دولتهم، ابتداءً من الدولة الأموية حتى الدولة السعودية الحالية، جميعهم تعاملوا مع المسجد تعاملاً غير عادي، لأن العناية بشؤون المسجد النبوي الشريف أصبحت من مظاهر ترسيخ الحكم والنفوذ، هذه العناية المعمارية انطلقت من القناعات الفقهية لكل حاكم.

وبناء عليه، فإن الشكل المعماري الذي ورثناه لمسجد الرسول لم يأتنا عبثًا، وإنما كان نتيجة لمجموعة من العوامل الاجتماعية والدينية التي لعبت دورًا مباشرًا في صياغة معماره على هذه الشاكلة التي وصلتنا، وهو ما نناقشه بالتفصيل في هذا التقرير.

القبة الضريحية

القبة الخضراء فوق قبر الرسول

في ربيع الأول سنة 87 من الهجرة كتب الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى واليه على المدينة المنورة عمر بن عبد العزيز يأمره بإدخال حجر أزواج النبي في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى ساحة المسجد.

وبعد ما كانت تلك الغرف عمومًا والغرفة التي دفن فيها النبي- صلى الله عليه وسلم– غرفة عائشة- خصوصًا في الجهة الشرقية للمسجد، أدخلها عمر بن عبد العزيز ضمن توسعته للمسجد فأصبحت جزءًا من المسجد ضمن حدوده، منذ تلك اللحظة بدأ التعامل مع عمارة المسجد النبوي ببعد غير عمراني، وإنما ببُعد آخر يتعلق بأمور سياسية وعقدية.

فلقد كان الهدف الأساسي من إدخال تلك الحجرات إلى عمارة المسجد وإلى حرمه، هو إنهاء قوتها الروحية التي كان يستغلها العلويون المناهضون لبني أمية سياسيًا ودينيًا، حيث كانت تعقد البيعة لآل طالب داخل الغرفة النبوية التي دفن فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، لما لها من تأثير روحي على أهل المدينة.

بقيت الغرفة على حالها طوال التاريخ الإسلامي، غرفة مربعة دُفن فيها النبي وصاحباه أبو بكر وعمر، حتى فترة عمارة السلطان المملوكي المنصور قلاوون الذي أقام قبة فوق تلك الحجرة عرفت بالقبة الزرقاء في عام 678 من الهجرة، وفي عهد السلطان محمود الثاني العثماني تغيّر اللون إلى الأخضر وهو لون صوفي اشتهر في عمائر الصوفية وأضرحة الأولياء له علاقة بلباس أهل الجنة، وكذلك لباس أهل رسول الله– أهل البيت- وذلك عام  1228هـ، فاشتهرت بالقبة الخضراء، بعد أن كانت تعرف بالبيضاء– لقب منحه أهل المدينة للقبة كناية عن نور النبي- أو الزرقاء– لونها الأول الذي أقامه السلطان قلاوون- أو الفيحاء.

إلا أن إنشاء قبة فوق قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن بالأمر الهين على أهل المدينة وأرباب السلطة فيها، إذ رأوا ذلك انتهاكًا لقدسية النبي، صلى الله عليه وسلم، وإساءة أدب له بعلو النجارين ودق الحطب فوق الغرفة، معتبرين أن هذا الفعل يتعارض مع قول القرآن «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ» سورة الحجرات آية 2.

فما كان من بعض الولاة إلا أن وشوا بمن بنى القبة فوق الضريح وهو أحمد بن عبد القوي الربعي القوصي وقد كان ناظر قوص ورئيسها في زمنه، وكان المشرف على بناء القبة فوق الغرفة النبوية الشريفة، فوصل مرسوم بضربه فضرب فكان من يقول: «إنه أساء الأدب وإن هذا مجازاة له»، لم يكتفِ الأمير علم الدين الشجاعي بهذا العقاب وحسب، بل خرب داره وأخذ رخامها وخزانئها ونقلها إلى المدرسة المنصورية بشارع المعز.

على الرغم من أنه كان أمرًا من سلطان مصر آنذاك المنصور قلاوون، فإن أحمد بن عبد القوي الربعي القوصي تصرف في بعض الأمور دون الرجوع إليه كمسألة اعتلاء النجاريين فوق المسجد النبوي، وعندما تفاجأ السلطان برد فعل أهل المدينة فقرر أن يضحي به، وربما لخصومة بينه وبين علم الدين الشجاعي فاستغل تلك الحادثة حتى أوقع بينه وبين السلطان المنصور قلاوون.

لم يقتصر الأمر والخلاف على هذا فقط بل امتد إلى صراع فقهي بين رجال الدين، بعد ما تباينت آراؤهم بين استحباب إقامة قبة على قبور الصالحين والأولياء وعلى قبر النبي تكريمًا لهم، ومنهم من أفتى بُحرمية هذا الفعل.

حسم هذا الخلاف، مذهب السلطان المنصور قلاوون الصالحي، أو بالأحرى مذهب دولة المماليك، وهي دولة أشعرية المذهب في العقيدة، متعددة المذاهب في الفقه مع أفضلية لمذهب الشافعي في المعاملات والمذهب الصوفي في السلوك، حينها سمحت القناعات الدينية للدولة المملوكية بإقامة قبة فوق ضريح النبي.

استنادًا على فتاوى مختلفة ومتفرقة أفتت بجواز بل باستحباب بناء القباب فوق قبور الأنبياء والصالحين منها ما أفتى به العز بن عبد السلام بهدم القباب التي في القرافة، واستثنى من ذلك قبة الإمام الشافعي؛ لأنها مبنية في دار ابن عبد الحكم؛ وبهذا استدلوا على بناء القباب على الصالحين وبه على الأنبياء.

تعليقًا على تلك الفتوى، فقد استدل فقهاء الشافعية منها على نقطتين، الأولى جواز بناء قبة في الأرض المملوكة لصاحب الدفن مثل قبة الإمام الشافعي المدفون عند ابن عبد الحكم، فلقد ملك الشافعي تلك الأرض حتى يدفن فيها، الثانية استحباب إقامة قبة فوق الصالحين والعلماء تعظيمًا لهم، وهو ما بينته فتوى الحلبي في حشايته على المنهج.

ويرى بعض علماء الشافعية جواز القدوم عليه؛ قال الحلبي في حاشيته على المنهج: «وأستثني قبور الأنبياء– عليهم السلام– والصحابة- رضي الله عنهم- والعلماء، والأولياء– رحمهم الله- فلا تحرم عمارتها في المسبّلة؛ لأنه يحرم نبشهم والدفن في محلهم، ولأن في البناء تعظيمًا لهم».

وقال السجلماسي في شرحه على العمل الفاسي: «مما جرى به العمل بفاس وغيرها تحلية قبور الصالحين بالبناء عليها تعظيمًا».

وفقًا لهذه الرؤية الدينية بقيت القبة على حالها ردحًا طويلاً من الزمن، حتى أن الوهابيين لما دخلوا المدينة لم ترق لهم قبة النبي أو أي قبة أخرى بُنيت فوق قبور الصحابة، وهو المعتقد الذي تعتنقه الدولة السعودية حتى الآن، ومؤخرًا أفتت اللجنة الدائمة بمخالفة إقامة تلك القبة وشركيته.

لا يصح الاحتجاج ببناء الناس قبة على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- على جواز بناء قباب على قبور الأموات، صالحين، أو غيرهم؛ لأن بناء أولئك الناس القبة على قبره- صلى الله عليه وسلم- حرام يأثم فاعله؛ لمخالفته ما ثبت عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته.
نص فتوى اللجنة الدائمة

رغم كون هذه القبة مخالفة للشرع، وفقًا للمعتقد الوهابي، فإنها لم تهدم حتى على أيدي جماعة «إخوان أهل الله» المتشددة التي دعّمت الملك عبد العزيز خلال فترة تأسيس المملكة الأولى. بالفعل عملت جماعة الإخوان على هدم كل ما فيها من أضرحة وقباب، لكنهم توقفوا عن قبة النبي تحديدًا.

وفي فتوى أخرى للجنة الدائمة، قالت «ليس في إقامة القبة على قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، حجة لمن يتعلل بذلك في بناء قباب على قبور الأولياء والصالحين؛ لأن إقامة القبة على قبره: لم تكن بوصية منه، ولا من عمل أصحابه، رضي الله عنهم، ولا من التابعين، ولا أحد من أئمة الهدى في القرون الأولى التي شهد لها النبي، صلى الله عليه وسلم، بالخير، إنما كان ذلك من أهل البدع».

وعلى نهج تلك الفتاوى سار مشايخ السعودية حتى يومنا هذا، ومنهم تلك الفتوى التي قالها مقبل بن هادي الوادعي، وهو أحد أعلام المذهب السعودي نقلها عنه عبد الله الزقيل أحد تلاميذه: «هذا وقد هم الإخوان– رحمهم اللهُ– في زمنِ عبدِ العزيز– رحمهُ اللهُ– عند دخولهم المدينة أن يزيلوا هذه القبةَ، وليتهم فعلوا، ولكنهم خشوا– رحمهم اللهُ– من قيامِ فتنةٍ من القبوريين أعظم من إزالةِ القبةِ، فيؤدي إزالةُ المنكرِ إلى ما هو أنكرُ منهُ». «راجع البحث المقدم من تلميذه عبد الله بن محمد زقيل بعنوان المُخْتَصَرُ الجَلِيُّ فِي تَأْرِيخِ بِنَاءِ قُبَّةِ مَسْجِدِ َالنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم»

شباك القبة

يوجد أعلى القبة كوة أو شباك صغير يوازي الشباك الذي يوجد في القبة الداخلية، هذا الشباك يرجع تاريخه إلى بعد ممات النبي مباشرة، وله بُعد عقدي ارتبط بأهل المدينة منذ تلك اللحظة حتى زمن قريب، إذ كان إذا اشتد عليهم القحط فتحوا تلك الكوة أو الشباك يستسقون برسول الله حتى لا يكون بينه وبين السماء حجاب.

في ذلك حديث عن عائشة، رضي الله عنها، ففي الوفاء لابن الجوزي من طريق أبي محمد الدارمي بسنده عن أبي الجوزاء، قال: قحط أهل المدينة قحطًا شديدًا، فشكوا إلى عائشة، رضي الله عنها، فقالت: فانظروا قبر النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق.

وفي هذا يقول نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد بن علي الحسني السمهودي في كتابه وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: وسنتهم اليوم فتح الباب المواجه للوجه الشريف من المقصورة المحيطة بالحجرة، والاجتماع هناك، والله أعلم.

ثم ينقل في نفس كتابه رواية عن أبي بكر الزين المراغي أحد مؤرخي المدينة: واعلم أن فتح الكوة عند الجدب سنة أهل المدينة حتى الآن، يفتحون كوة في سفل قبة الحجرة: أي القبة الزرقاء المقدسة من جهة القبلة، وإن كان السقف حائلًا بين القبر الشريف والسماء.

وأورد ابنُ تيميةَ في «اقتضاءِ الصراطِ المستقمِ (2/685)»: «لما بُنيت حجرتُهُ على عهدِ التابعين- بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم، تركوا في أعلاها كوةً إلى السماءِ، وهي إلى الآن باقيةٌ فيها، موضوعٌ عليها مشمعٌ على أطرافه حجارةٌ تمسكه، وكان السقفُ بارزًا إلى السماءِ، وبنى كذلك لما احترق المسجدُ والمنبرُ سنةَ بضعٍ وخمسين وست مئة».

أُغلق هذا الشباك عندما دخل إخوان من أطاع الله المدينة، وفي هذا الشأن أقرَّ الألباني بدعية هذا الشباك بناء على تضعيفه للحديث الذي ورد عن عائشة، رضي الله عنها، وعليه استند مشايخ الدولة السعودية، وسبقه بذلك ابن تيمية المرجع الرئيسي لمشايخ السعودية، وفيه أقر ببدعية هذا الأمر في كتابه «الرد على البكري»، حين قال:

«وما روي عن عائشة، رضي الله عنها، من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا: أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان باقيًا كما كان على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، بعضه مسقوف، وبعضهم مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء. بعد ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم.. ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدارًا عاليًا، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا اُحتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف . وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بَيِّن»

مقصورة الشيعة

تلك المقصورة التي لا يعلم تحديدًا وقت إنشائها، لكنها على الأرجح أنشئت في الفترة الفاطمية المتأخرة، أنشأها كبار الشيعة، وكان موضعها في الجهة الشمالية من الحجرة النبوية الشريفة موضع حجرة فاطمة، باعتبارها شخصية محورية في التاريخ الشيعي، وكانت مقصورة كبيرة مربعة المساحة، كانوا يقومون بالصلاة وتدريس المذهب الشيعي فيها، ونقل السمهودي في كتابه وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى عن ابن فرحون قاضي المدينة المالكي السني في عهد المماليك رواية «أن كبار الشيعة كانوا يؤذنون بحي على خير العمل بصوت عال عند كل صلاة».

في سنة 729 هجريًا، في عمارة الناصر محمد بن قلاوون للمسجد، استغل بعض أهل السنة من سكان المدينة أعماله المعمارية في المسجد فعمدوا إلى هدم تلك المقصورة التي قام بها الشيعة، وأدخلوا جزءًا منها في الحجرة الشريفة وجُعِل فيها الباب الشامي، وجاء أن المحرض على هدمها إمام المسجد النبوي الشيخ شرف الدين الأسيوطي السني.

كانت هذه الخطوة نتيجة طبيعية لما فعله المنصور قلاوون من تقليص حُكم قضاة الشيعة في المدينة المنورة بعد ما حظوا بثقل كبير فيها طول الفترة السالفة على حكمه، ومنذ هذا التاريخ ارتفع شأن أهل السنة واقتصرت أحكام قضاة الشيعة على اتباع مذهب أهل المدينة السني، بعد ما كان للشيعة مذهب سائد في المدينة يجبرون الناس عليه.

ويذكر نور الدين السمهودي في كتابه وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: «أن الشيعة حتى زمانه يحبون الصلاة في هذا المكان وهو المعروف بدكة الأغوات شمال غرفة فاطمة، والملاحظ في وقتنا الحاضر تفضيل الشيعة المكوث في هذا المكان».

القباب فوق الروضة

قباب المسجد النبوي الشريف

يُلاحظ في عمارة سقف المسجد النبوي وتحديدًا أعلى رواق الروضة، الذي تميز بالقباب الضحلة وهي سمة عامة في عمارة العثمانيين، أن القباب المنشأة تكثر فيها الشبابيك العلوية خلافًا لبقية قباب رواق القبلة، كما تتميز بصغر الحجم وعدم الانتظام، ولهذا بُعد تاريخي يختلف عن الغرض التوظيفي لتلك القباب.

لمّا عمّر النبي، صلى الله عليه وسلم، المسجد في أول حياته، جعل في رواق القبلة أساطين من جذوع النخل ووضعها بطريقة غير منتظمة ثم سقّف فوقها الجريد حتى تكون ظلة للصلاة من الشمس، فلما جدد أبو بكر الصديق المسجد بعد وفاة النبي عمل على ترميم تلك الجذوع التي نخر فيها السوس، ولكنه تحرى الدقة ووضع جذوع نخل في نفس المواضع التي وضعها النبي، لأهمية تلك الأساطين التاريخية، وارتباطها بحوادث حصلت في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وعرفت تلك الأساطين في حياته بأسماء تلك الأحداث، فانسجمت في مخيلة الناس وإرثهم وعليها بني المسجد وعرفت مواضع تبرك الناس بها بعد وفاة النبي

من تلك الأسطوانات، أسطوانة التوبة وتعرف بأسطوانة أبي لبابة، لأنه ربط نفسه بضع عشر ليلة بعد السر الذي أفضى به لحلفائه بني قريظة، وبعد أن ندم على ما فعل كانت ابنته تحل رباطه إذا حضرت الصلاة، وحلف ألا يحل نفسه حتى يحله النبي، وهو ما قام به النبي بالفعل، بعد أن تاب الله على أبي لبابة.

ومنها، أيضًا، أسطوانة عائشة، والتي عرفت بأسماء عدة أشهرها القرعة، والسهمان، والمخلقة والمهاجرون، وفيها قالت عائشة نقلاً عن عبد الله بن الزبير، إنها قالت: «إني لأعلم سارية من سواري المسجد لو يعلم الناس ما في الصلاة إليها لاضطربوا عليها بالسهمان»، وعن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن في مسجدي لبقعة قبل هذا الأسطوانة لو يعلم الناس ما صلوا فيها إلا أن تطير لهم قرعة».

ومنها أسطوانة السرير، وقد كان للنبي سرير من جريد عند هذا الموضع، ثم أسطوانة مصلى رسول الله، وكذلك أسطوانة التهجد وغيرها من الأسطوانات التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالناس، فأصبحت جزءًا لا يتجزأ من مورثهم الديني والثقافي، يتبركون بمواضعها ويتحرونها عند كل صلاة.

ولما جدد عمر بن الخطاب المسجد ووضع أساطين من الحجارة بدلًا من جذوع النخل، وفعل ما فعل أبو بكر الصديق من التحري الدقيق لأماكن تلك الأساطين، وعليه سار أهل المدينة في كل تجديد ينال المسجد، اتباعًا للنبي وتحري مواضعه التي سار عليها حتى في أبسط الأمور.

تلك الأساطين لم تؤثر على عمارة سقف المسجد ما دام كان سقفًا مسمطًا، إلا أنه في عمارة السلطان عبد المجيد سنة 1859 م، واجه المهندسون مشاكل في عمل القباب على السقف لعدم انتظام وتوحد المسافات بين تلك الأعمدة، إذ من المعروف هندسيًا أنه عند إقامة قبة يجب أن تكون المساحة التي تقوم عليها القبة مساحة مربعة متساوية الأضلاع، وهذا ما لم يتحقق في تلك المسافات بين الأعمدة، فعمل محمد راشد أفندي الموكل بعمارة المسجد النبوي الشريف في عهد السلطان العثماني عبد المجيد على تغيير مواضع تلك الأعمدة، إلا أن أهل المدينة اعترضوا اعتراضًا شديدًا على ذلك، وأرسلوا احتجاجهم إلى السلطان العثماني، فما كان منه إلا أن وكل أسعد الدين أفندي بعمارة المسجد، وأوصاه بأن يسير على نهج من سبقوه في عمارة المسجد، وأن يتحري مواضع الأعمدة القديمة، فما كان منه إلا أن قام بتلك المعالجات المعمارية التي نتجت عنها عدم انتظام تلك القباب على السقف، وتعددت أشكالها وأنماطها، فكثرت الشبابيك فيها كنوع من أنواع المعالجة المعمارية.

قصائد مدح النبي

باب السلام، أحد مداخل المسجد النبوي الشريف

في عهد السلطان عبد الحميد الأول سنة 1777 ميلاديًا عمل على إجراء ترميمات في المسجد النبوي والغرفة الشريفة ومن ضمن الأعمال التي اشتملت المسجد، كتابة قصيدة مدح الرسول، صلى الله عليه وسلم، على محيط الحجرة الخارجي مكتوبة بخط الثلث المحفور على ألواح خشبية، محيطة بجدار الحجرة الشريفة من أعلى المشبك الحديدي، قيل فيها: «يا سيدى يا رسول اللّه خذ بيدى‌ ** مالى سواك و لا الورى إلى أحد» أورد أيوب صبري باشا كاملة القصيدة في كتابه موسوعة مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب الجزء الثالث.

وتلك القصيدة توسل بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وجوّزها الفقهاء، إذ قال تقي الدين السبكي في كتابه «شفاء السقام»، قائلاً: «اعلم: أنه يجوز ويحسن التوسل، والاستغاثة، والتشفع بالنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى ربه، سبحانه وتعالى، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين، وسير السلف الصالحين، والعلماء والعوام من المسلمين، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية، فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار».

وقد خالفت اللجنة الدائمة تلك الفتوى، وأصدرت برئاسة ابن باز فتوى رقم 18461، تقول «التوسل إلى الله سبحانه بذوات الأنبياء والصالحين والأولياء أو جاههم – بدعة، ومن وسائل الشرك»، وهو مذهب الدولة السعودية منذ أن قامت، وبهذا فقد مُحيت تلك الأبيات.

إلا أن القصائد النبوية بخاصة قصيدة البردة كانت دائمًا محط صراع شديد بين المذاهب المتفرقة، بخاصة بعد دخول السعوديين المدينة، وفي عهد الملك عبد العزيز آل سعود، وأثناء ترميمه أجزاء من المسجد النبوي في أول ولايته، أمر بإزالة بعض تلك الأبيات التي كانت تغطي مقصورة الحجرة النبوية الشريفة بطبقة من الدهان، واستبدلت أجزاء منها بلوحات أخرى كتب عليها آيات من القرآن الكريم، عند المواجهة الشريفة.

ومن الأبيات التي تم محوها:

إنى إذا مسنى ما يروعني*** أقول يا سيد السادات يا سندي
به التجأت لعلّ اللّه يغفر لي*** هذا الذي هو في ظني ومعتقدي

وأفتت اللجنة الدائمة مخالفة لذلك أيضًا بشركية الأبيات التي تغالي في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم، مثل قصيدة البردة وغيرها من القصائد التي تشابهها.

وقد أفتى ابن باز في غير مرة بشركية قصيدة البردة أيضًا وفيه قال: «هذه أبيات منكرة، شرك، هذه من أبيات البردة للبوصيري لا تجوز، بل هذه من الشرك الأكبر نعوذ بالله، فإن الرسولﷺ ليس من جوده الدنيا وضرتها، ضرتها الآخرة، هذا من جود الرب، جل وعلا، من ملك الرب، جل وعلا، ما يملكه النبي ﷺ، ولا يعلم ما في اللوح والقلم، عليه الصلاة والسلام».

في النهاية شكّل المسجد النبوي على مر العصور عاملًا مؤثرًا في نفوس العامة والحكام على حد سواء، شكل بعدًا دينيًا وعقديًا مهمًا تجسد بطبيعة الحال على عمارته وذهب لأكثر من ذلك، إلا أنه كان ساحة كبيرة يتنافس فيها أصحاب السلطة على توطيد مذاهبهم العقيدة على واقع عمارة المسجد النبوي.

المراجع
  1. تاريخ الرسل والملوك، لمحمد بن جرير الطبري
  2. كمال الدين جعفر بن ثعلب، الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد، تحقيق سعد محمد حسن
  3. نور الدين السمهودي، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى
  4. ابن النجار، الدرة الثمينة في أخبار المدينة
  5. إسحاق الحربي، المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة
  6. تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية الكبرى
  7. ابن تيمية، مجموع الفتاوى
  8. أيوب صبري باشا، مرآة الحرمين الشريفين وجزيرة العرب
  9. محمد هزاع الشهري، عمارة المسجد النبوي منذ إنشائه حتى نهاية العصر المملوكي
  10. محمد هزاع الشهري، المسجد النبوي الشريف في العصر العثماني
  11. صالح لمعي، المدينة المنورة تراثها وتاريخها