الهروب من المستحيل: كيف واجه الفلاسفة الموت؟
كلما اخترقت الإنسانية عائقًا عصيًا على تطورها، ذكرتنا الفلسفة بحقيقة الموت التي لا مفر منها. إن جدار الموت هو الحاجز النهائي للقدرة البشرية، والنقطة القصوى التي يتوقف عندها أي مسعى إنساني مهما كان قويًا أو نبيلاً، لذلك صار الموت رديف التأمل الفلسفي منذ أقدم العصور، فكما كتب شيشرون، وهو من أشهر فلاسفة العصر الروماني: «التفلسف هو تعلم الموت».
لماذا نخاف الموت؟ هل ما نقدمه من حياة فاضلة يصمد أمامه؟ هل الموت فناء تام أم مجرد عتبة للآخرة؟ هل يفنى الجسد وتبقى النفس؟ إذا كان الموت هو النهاية الحتمية، فما غاية الحياة؟ هل الانتحار مشروع في تلك الحالة؟
لم تتوقف تساؤلات الفلاسفة لحظة عن الموت، ومنذ مواجهة الفيلسوف اليوناني «سقراط» البطولية لخبر محاكمته ثم إعدامه، وأقلام الفلاسفة مجالس لا تتوقف عن الدعوة لنموذج الموت الفلسفي.
بإجماع مهيب حفزت كتابات الفلاسفة لمصالحة مع الموت بلا خوف أو قلق ..
لكن، قد يتبادر إلى ذهنك: «كيف واجه الفلاسفة الموت في حياتهم الفعلية؟»
قال فيلسوف عصر النهضة الشهير «ميشيل دي مونتين» مرةً: «لو أنني مؤلف كتب، لكتبتُ كتابًا عن عدة وفيات، وعلقتُ عليها. فمن علم الناس الموت، علمهم الحياة».
لم ينفذ مونتين فكرته، وبلا شك كان يقصد «وفيات الفلاسفة» خصوصًا، لكن الفيلسوف القارئ المعاصر «سايمون كريتشلي Simon Critchley» التقط الفكرة، وجمع في كتيب صغير وفيات 190 فيلسوفًا كما تمنى مونتين لكي نتعلم الحياة من وفيات الفلاسفة.
انتقيت في المقال التالي سير وفاة بعض الفلاسفة، وتوخيت فيها العبرة والمعنى أكثر من شهرة بعض الفلاسفة الذين حكى عنهم سايمون، كما عملتُ بنصيحة مونتين: أن أُعلق عليها فلسفيًا..
زينون الإيلي (495 – 430 قبل الميلاد): عن مفارقة زينون الكبرى
مخترع الجدل الفلسفي، وهو منهج يقوم على التسليم بقضايا الخصم ثم يستخلص على أساسها نتائج متناقضة لكي يثبت بطلان القضية.
في كتابه «الهجمات Epicheiremata» المفقود الآن – ذكره أفلاطون وأرسطو – عدد من المفارقات المنطقية الشهيرة والتي عُرفت تحت اسم مفارقات زينون ضد الحركة (أشهرها مفارقة أخيل والسلحفاة)، والتي أراد من خلالها نفي وجود الحركة تماشيًا مع مذهب أستاذه «بارمنيدس» الذي قال بوهم المعرفة الحسية ونفي كل كثرة وحركة في العالم.
شارك زينون الإيلي في الثورة ضد الطاغية نيارخوس، وتم القبض عليه بعد فشل الثورة وتعرض لتعذيب شديد. أثناء نطق الحكم، طلب زينون أن يدلي بسر ضد الثوار في أذن الطاغية، وحينما اقترب منه، عض زينون أنف نيارخوس ولم يفلتها إلا وهو ميت من طعنات الحراس في جسده.
هنا تكمن مفارقة زينون الكبرى!
اعتاد أغلب الناس على رسم صورة مزيفة عن الفيلسوف: «ساكن البرج المتعالي عن الحياة الفعلية وهمومها»، فما بالك بالمجادل المثالي زينون الذي ينفي حدوث الحركة؟!
يهدم موت زينون البطولي أوهامنا عن حقيقة الفيلسوف، فلا يكتفي فقط بنفي فكرة الحركة بل هو قادر على محو غطرسة أنف الطاغية!
أفلاطون (428 – 347 ق.م) : راوي بطولة سقراط وسخرية القمل
لا يختلف أحد على أهمية أفلاطون البالغة، حيث تنطلق الفلسفة الكلاسيكية من محاوراته الشهيرة عن العدل والجمال والوجود، ولم يترك أفلاطون سؤالاً واحدًا في الفلسفة بدون مناقشة مستفيضة، حتى قال عنه البعض: تاريخ الفلسفة هوامش على متون أفلاطون.
حكى لنا أفلاطون في محاوراته المبكرة عن «محاكمة سقراط» الشهيرة؛ النموذج الأعلى للشهادة في سبيل الفلسفة، فقد دافع سقراط عن مبادئه الفلسفية حتى اللحظة الأخيرة من ابتلاعه للسم.
لكن من ناحية أخرى، لا نكاد نعرف شيئًا عن حياة أفلاطون، وفي محاوراته عن سقراط أشار إلى نفسه مرتين فقط: ذكر اسمه حاضرًا أثناء المحاكمة، وغائبًا في لحظة الإعدام!
لم يتزوج أفلاطون، ويُروى أنه لم يُرَ ضاحكًا أبدًا، وتحكي بعض الروايات أن حاكم صقلية قد باعه عبدًا بعدما فشلت فكرته عن المدينة الفاضلة، ولم ينقذه إلا فدية دفعها غريمه الفلسفي «أنيقارس» المدافع عن فلسفة اللذة اللحظية.
كيف مات صاحب الرواية الأعظم في تاريخ الفلسفة؟
مات أفلاطون عجوزًا على طاولة كتابته من عدوى قمل الرأس، وقد دُفن في مدرسته الشهيرة الأكاديمية. لم يكن أفلاطون فيلسوفًا عاديًا في نظر تلاميذه اللاحقين، فقد أثار موته المهين -من وجهة نظرهم- غيظهم، وعلى هذا الأساس بدؤوا في التفتيش عن أي مغزى في حادثة موت «أستاذهم الأكبر».
ارتبط أفلاطون، بالنسبة لأتباعه، بالهندسة والأرقام خاصةً؛ كتب أفلاطون على باب الأكاديمية: من لم يدرس الهندسة لا يدخل علينا، لذلك قالوا إن عمره عند الوفاة له دلالة عميقة، فالرقم 81 هو أكمل الأرقام، لأنه حاصل ضرب 9 في 9! (قداسة الرقم 9 فكرة لأفلوطين المصري وليست لأفلاطون اليوناني).
بل أن العلامة «توماس ستانلي» مؤرخ الفلسفة في عصر النهضة -أفلاطوني النزعة- قد قال تعليقًا على موت أفلاطون بقمل الرأس: «أن أولئك الذين ينشرون روايات بذيئة عن أفلاطون يؤذونه أذى بالغًا».
لكن الموت ساخر لا يدري شيئًا عن مكانة الفيلسوف مهما تحايل الأتباع، وكما تطول عبثية الموت العوام، لا ترحم كبار العقول.
الكونت ألبيرتو باسيرانو ( 1698 – 1737): دفاعًا عن الانتحار أو ألعن الكتب
إن الحياة منحة من حق البشر استعمالها، لكن الحياة ليست ملكًا لنا، لأنها حق الله وحده، لذلك من الواجب أن يصارع المسيحي الصادق الألم كما يصارعه جندي، ولا يحق له قتل نفسه تحت وطأة الألم. تلك كانت الرؤية التقليدية في المسيحية بخصوص الانتحار، لكن مع بدايات القرن السابع عشر تم وضع تلك الرؤية موضع التساؤل.
إن التفكير في «مشروعية الانتحار» بدأ مع فيلسوف إيطالي غامض يُدعَى «الكونت ألبيرتو»، وذلك في أطروحة صغيرة من 90 صفحة تحت عنوان «أطروحة فلسفية في الموت» سعى فيها للدفاع عن حق الانتحار ضد المسيحية والقانون.
يسأل ألبيرتو مستنكرًا: لمَ يُعد الانتحار خروجًا على القانون، وتجديفًا بحق الأخلاق؟
فالأفراد أحرار في اختيار طريقة موتهم، بل إن الانتحار بادرة تسم صاحبها بعزة النفس في حالة المصيبة، أي الانسحاب المشروع من آلام لا تطاق، وهو رأي الفيلسوف الشهير «ديفيد هيوم» فيما بعد:
«الانتحار ليس فعلاً يستوجب العقاب، إذ هو استجابة معقولة للمعاناة، ولا أعتقد أن إنسانًا سيهدر حياته إن كانت أهلاً للاستمرار».
من الواضح تأثر ألبيرتو بالمذهب الرواقي القديم السابق على المسيحية، فلم يرَ أعلامه في الانتحار إلا صلابة وشجاعة نفسية في مواجهة آلام الحياة.
يُذكر أن مؤسس الرواقية «زينون الرواقي» قد مات منتحرًا على قارعة الطريق، بعد أن سقط وكُسرت قدمه، فتمدد أرضًا من إثر الألم قائلاً: «أتيتُ طواعيةً، فلمَ تناديني؟» ثم حبس أنفاسه حتى الموت.
عاش ألبيرتو شبابه في إيطاليا، واعتنق البروتستانتية ثم هرب إلى لندن. وقد نشر أطروحته هناك، وتسببت في إثارة قلق كبير في لندن، وبتحريض من أسقف لندن قال المدعي العام عن الأطروحة: «أكثر الكتب كفرًا وألعنها».
اعتقل ألبيرتو وتم تغريمه، ثم هرب فيما بعد إلى هولندا ومات في فقر مدقع في مدينة روتردام، فقد حكم كتاب الانتحار على صاحبه بالموت. ولم يكن الأمر محض جدال نظري، فقد أقدم موظف يدعى «ريتشارد سميث» في عام 1732 على الانتحار هو وزوجته بعد أن أطلقا النار على ابنتيهما، وترك رسالة أشار فيها إلى أطروحة ألبيرتو، مما فتح النقاش مرة أخرى حول «حق الانتحار»، وما زال التساؤل حيًا حتى اليوم!
سيمون فايل (1909 – 1943): قديسة الفلسفة في القرن العشرين
يقول شوبنهاور: «إن أعلى درجات الزهد موت طوعي بتجويع النفس». رفض شوبنهاور كل أشكال الانتحار على اعتبار أنها شكل آخر من الخضوع لإرادة الحياة العمياء، إلا انتحار الفيلسوف المضرب عن الطعام.
يتطلب موت القديس الحق -بحسب شوبنهاور- شرطين:
أولهما: نبذ الإرادة نبذًا تامًا، فلو كان نابعًا منها، فهو ما زال حبيس أوهام الحياة.
ثانيهما: ينبغي على الزاهد المضرب عن الطعام أن ينال أعلى درجات الحكمة الفلسفية قبل موته.
لم تحقق شخصية في تاريخ الفلسفة تلك الحالة على أكمل وجه كما فعلت الفيلسوفة الفرنسية من أصول يهودية «سيمون فايل».
لم تعش سيمون سوى 34 عامًا فقط وقد حققت فيها التالي:
درست الفلسفة وتفوقت فيها (حازت المرتبة الأولى في اختبار الحصول على شهادة «الفلسفة العامة والمنطق»، بينما حلت سيمون دي بوفوار في المرتبة الثانية)، تعمقت في التصوف والروحانيات (حاولت فهم طقوس كل دين كتعبير عن الحكمة المتعالية)، غزيرة الإنتاج (تجاوزت مؤلفاتها العشرين)، خدمت في الحرب الأهلية الإسبانية (رغم ضعف بصرها الشديد)، عملت في مصنع سيارات بعد أن درَّست الفلسفة في مدرسة إعدادية للبنات (غالبًا لتتمكن من فهم الطبقة العاملة بشكل أفضل)، كتبت مقالات سياسية، وخرجت في مظاهرات، وأيدت حقوق العمال (لم تنضم أبدًا للحزب الشيوعي، وانتقدت الماركسية بشكل واسع ودخلت في مساجلة مع تروتسكي المناضل الشيوعي).
في عام 1940 انتقلت سيمون من باريس إلى مارسيليا، ثم سافرت بعد ذلك إلى نيويورك على متن آخر المراكب. وعكفت هناك في مكتبة نيويورك على دراسة مكثفة، لكنها فضلت الرحيل إلى لندن في النهاية لمساندة المقاومة. حين وصلت لندن، أضربت سيمون عن الطعام تدريجيًا وبسبب سوء التغذية والإجهاد، خرّت مغشيًا عليها ونقلت إلى المستشفى، وقد وافتها المنية بعد ذلك ببضعة أشهر.
تركت سيمون دفاتر ملاحظات ضخمة فيها الكثير من البصيرة الفلسفية والروحية معًا، وقد كانت آخر فقرة في دفترها عن «البعد الروحي للطعام»، حيث ذكرت لذة حلوى البودينغ في أعياد الميلاد، كتبت تقول في جملتها الأخيرة: «إن مغزى الوليمة وبهجتها تكمن في الطيبة التي تنفرد بها».
وصفها الفيلسوف الفرنسي «ألبير كامو» قائلاً: «الروح العظيمة الوحيدة في عصرنا»، أما الشاعر روان وليامز فقد خلد ذكراها في الأبيات التالية:
جاك دريدا (1930 – 2004): هل نجح فيلسوف التفكيك في تجاوز حكمة الموت الفلسفية؟
تمثل كتابات دريدا حالة فريدة في تاريخ الفلسفة، كتابة تخوض حربًا متواصلة على الأفكار السائدة في كل عصر، وعلى صورته النرجسية عن نفسه. يصفه سايمون كريتشلي بأعظم قارئ للنصوص الفلسفية: الصبر، والتدقيق، والانفتاح، والمساءلة، والإبداع بلا حد.
يستطيع دريدا زعزعة توقعات أي قارئ وتبديل فهمه للفلسفة كليًا، وقد وصفه زملاؤه بأنه: لا يعرف متى يتوقف، ولا كيف ينهي ما بدأ، ووصف هو نفسه: «أخوض دائمًا حربًا ضد نفسي».
كعادة دريدا مع أغلب التراث الغربي، رفض حكمة الفلسفة الكبرى التي صاغها شيشرون: «التفلسف تعلم الموت» فقد وجدها منفرة، وقال: «سأظل أميًا بشأن حكمة تعلم الموت»، وفي افتتاحية كتابه الشهير «أشباح ماركس» قال على لسان غيره: «تعلمتُ أخيرًا كيف أعيش».
لكن هل تجاوز دريدا رهبة الموت؟
ردًا على سؤال «ما المهم بالنسبة لك اليوم؟» في مقابلة صحفية عام 2002، أجاب: «وعي أنني أشيخ، وأنني سأموت، حياتي قصيرة. بتُ يقظًا لما تبقى لي من أيام. لم أهادن الموت حتى يومي هذا، ولا أخالني سأفعل، وهذا الوعي يملأ كل ما أفكر فيه. ما يجري في العالم بشع، جميع هذه الأمور في بالي؛ لكنها تسير بموازاة رهبتي من الموت».
كتب دريدا مرارًا عن وفيات أصدقائه والفلاسفة المقربين (بلانشو، ولافيناس) وحتى الذين لم يكونوا مقربين إليه (فوكو، ودولوز) ولكنه شَعر معهم بصلة قرابة، حتى أصبحت ثيمة الحداد محورية في كتاباته منذ وفاة رولان بارت 1980.
فقد صديق، بالنسبة لدريدا، يعني أن يحمل المرء ذكراه حملاً لا يطيق احتماله، كما لو كان ما زال حيًا، بل وكأنه شبح يطارد المرء، فلا تشفى النفس أبدًا بعد وفاة الآخر، وتظل مجروحةً مشتتةً في نظر نفسها.
يعيش المحبوب أو الصديق داخلنا كالشبح الذي يهدم الخط الفاصل بين الأحياء والأموات، وكثيرًا ما كتب دريدا عن الأشباح والأطياف والمبعوثين من الموت. في كتابه المهم «سياسات الصداقة – 1994» عاد لشيشرون في الاقتباس الافتتاحي كاتبًا «وأصعب من ذلك كله، عيش الموتى فينا»، فكلما قُرئ فيلسوف؛ بعث حيًا.
مات دريدا كأبيه وجده بسرطان البنكرياس، وطاردته أفكاره التفكيكية عن «الآخر» حينما تمرد على حكمة الموت الفلسفي. نعم، تخلى عن مثال الموت الفلسفي النرجسي على حد قوله، لكن شبح الآخر جعل الموت يخترق الذكرى بلا هوادة.
جاك لاكان (1901 – 1981): أجمل وداع لأستاذ فلسفة
إن أفضل طريقة لفهم لاكان هي النظر له كأستاذ جمع ما بين الممارسة المهنية للطب النفسي، والتراث الفلسفي لكلٍّ من هايدجر وهيجل وفرويد. ألقى لاكان دروسه دون تحضير، وفي الغالب أمام مئات من الناس، وتكشف دروسه عن الدرجة العالية لمعارفة وأصالته الفكرية.
كان الصمت علامة بارزة في فكر لاكان الأخير، فسّره البعض بالحكمة والعمق، بينما يعزوه آخرون إلى شلل دماغي. وقد نجح لاكان في تشخيص نفسه طبيًا بسرطان القولون ، ولكنه رفض إجراء عملية طبية بسبب رهاب العمليات الذي يعاني منه.
عندما استفحل سرطان القولون في لاكان، اضطر لإجراء العملية، فأصيب بالتهاب الصفاق، وكأستاذه الأول في التحليل النفسي «فرويد» تناول المورفين، ونطق كلماته الأخيرة: «أعاند .. أحتضر».
تروي كاتبة سيرة لاكان أن في محاضرته الأخيرة، فتح فمه ووجد نفسه عاجزًا عن الكلام، فخيم الصمت على الحضور. لقد فقد لاكان الصوت الذي استحوذ على الحياة الثقافية في فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين.
التفت لاكان إلى السبورة وأخذ يرسم نقوشًا وغيرها من الأشكال الطوبولوجية التي شغلته دائمًا.
ارتبك في النهاية، والتفت إلى الحضور، وغادر القاعة. لكن فتاة من الحضور قاطعته وعلقت: «لا تقلق، محبتنا لك لم تتغير».