مقدمة:

الدراسة النظرية لا غنى عنها، لكن إذا أردت تعلُّم كتابة السيناريو حقًّا، فلا يصح أن تكتفي بالقراءة (عنه) فحسب. ربما هذا هو هدف السلسلة الأوَّل، حيث تضع كل محبي كتابة السيناريو أمام مؤلفين ثقال وهم يحكون بأنفسهم كيف أتتهم الفكرة وكيف طوَّروا شخصياتهم، وماذا يحدث في كواليس الصناعة بشكلٍ عام.

كيف تصبح كاتبًا أفضل؟ دعنا نأخذ تلك النصائح من الرواد. كيف كتب تشاك بالانِك نادي القتال؟ كيف حاك كريستوفر نولان شخصية معقدة مثل جوكر؟ كيف أتى ديفيد تشيس بفكرة المسلسل الذي سوف يصبح عرَّاب التليفزيون للأبد، آل سوبرانو؟

في هذه السلسلة لا يوجد وسطاء، بل نسمع من أفواه الكبار مباشرةً، وهيَّا نبدأ.

تنويه: المقال يبدو كما لو كان على لسان نِك بيزولاتو، لكنه مجمع من حواراته من مصادر مختلفة.

رحلة «True Detective»

كان ذلك في صيف عام 2010، كانت روايتي قد نُشِرَت لتوِّها وكنت في أمسِّ الحاجة للخروج من الأوساط الأكاديمية، وكنت أرغب، منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في إيجاد طريقة لدخول مجال التليفزيون، فقد أصبح التليفزيون الأمريكي جيدًا جدًّا مع “ذا سوبرانوس” و”ذا واير” و”ديد وود”.

أدركت، في فترة عرض تلك المسلسلات، أنها كانت تغذي رغبتي في الخيال بطريقة أكثر ثراءً مما كانت تفعل الروايات المعاصرة. كانت روايتي قد اختيرت من أجل محاولة شراء حقوقها، ولم يكن هناك مال يكفي لتحويلها إلى فيلم، لكن هذا سمح لي بالتواصل مع وكلاء هوليوود، فسألتهم عما يجب عليَّ فعله لدخول مجال التليفزيون، فقالوا: يجب عليك أن تكتب نصوصًا تليفزيونية، هل سبق لك كتابة أي نصوص تليفزيونية من قبل؟ فقلت: لا، فقالوا: إذا كنت تستطيع كتابة حلقة تجريبية لمسلسل من ابتكارك وحلقة جيدة من مسلسل متواجد، فيمكن أن نبدأ في محاولة الحصول على عمل لك.

وفي يوليو من عام 2010، كتبت ستة نصوص تليفزيونية، وكان أحدها الحلقة التجريبية لـ “ترو ديتكتف”.

من مسلسل «True Detective»
هذا المكان يبدو وكأنه ذكرى شخص ما عن بلدة والذكريات تتلاشى. يبدو الأمر وكأنه لم يوجد هنا سوى غابة.

تمنحك قصة الجريمة حبكة وسلسلة من التصعيدات والضغوطات التي يمكنك صبُّها على شخصياتك، لكنها تميل أيضًا إلى تقديم نوع من النظرة المستعرضة للمجتمع الذي تقع فيه الجريمة، لأن طبيعة التحقيق ستعرِّضك لكل جوانب هذا المكان.

كان هذا أحد الأهداف الهيكلية الأساسية للمسلسل، حيث استخدام آلية الإجراءات للوصول إلى ما يهمني، وهو تشريح الشخصية، والدافع، ورؤية للعالم يمكن أن تشمل هذه الأشياء وتعكسها.

لم يكن ليسمح لي أحد بصنع مسلسل تليفزيوني لا يحكي إلا عن رجلين يتجولان بسيارتهما ويتبادلان الحديث، فوضعت به جرائم قتل. كل شخصية وكل واحد منا، بطريقةٍ ما، صورة نمطية، ولا نقطع نمطيتنا تلك إلا عندما نتفحَّص الشخصية بالتفصيل. لدينا شرطيان يتجولان بسيارة ولا يوجد توافق بينهما بالضبط، هل رأيت هذا من قبل؟! كان هذا بحد ذاته مجازًا أردت تفكيكه وإعادة النظر فيه، لن يكون هذا ما تعتقده، سنفعل أشياء مثل قضاء 6 دقائق من التجول بالسيارة ومناقشة الفلسفة التشاؤمية.

من مسلسل «True Detective»
-يعني هذا أنني سيئ في الحفلات.
–دعني أخبرك أنك لست رائعًا خارج الحفلات أيضًا.

بالنسبة لي، يتحلَّى كلاهما بالبطولة، يتحلَّى بها كول أكثر من هارت. كلاهما معيب بشكلٍ لا يصدَّق كغيرهما من رجال المجتمع، قد يكون هارت، على سبيل المثال، زوجًا وأبًا سيئًا، وقد يكون كول صديقًا وزميلًا فظيعًا في بعض النواحي، لكن كليهما يتحلَّى بالشجاعة والشرف في لحظات قد لا يتحلَّى بهما الكثير منا. لقد كتبت بطرقٍ شتَّى، وعالجت الكثير من المواضيع الشخصية في كتاباتي، وهذا ما أفعله في كتاباتي الخيالية أيضًا. كان كلا الرجلين يمثِّلان نوعين مختلفين من الطرق السيئة التي يمكن أن أتخيَّل نفسي عليها، لكني أجد كول مثيرًا للإعجاب في نهاية المطاف. أعتقد أن عيبه المأساوي يكمن في أن لديه بقعة عمياء ضخمة مثلما يفعل أي شخص آخر عندما يتعلق الأمر بنفسه.

قلتُ من قبل إنه ليس عدميًّا بالتأكيد، كان ليغدو أكثر عدمي فاشل في التاريخ. كل شيء مشحون بالمعنى بالنسبة لكول. إنه مُفرِط الحساسية، ونجد أن لديه متلازمة الحس المُرافِق، وبهذه الطريقة، فإن حديثه عن تأمُّل فكرة صلب الذات، وأنها ما يوقظه صباحًا لمواجهة العالَم وأداء وظيفته، ليس سوى أحد أشكال الصلب الذاتي، لأنه شديد الحساسية، واستخدامه لفلسفة فرانكنشتاين اللا إنجابية تلك يبدو لي كثيرًا كموقف دفاعي يعلنه أكثر من اللازم. لا تختلف شكواه كثيرًا عن شكوى النبي أيوب. إذا كنت تؤمن بوجود إله يحدِّد مصير الجميع، فأنت مجرد شخصية في قصة هذا الإله، وكان أيوب يشكو كونه شخصية في قصة لم يعجبه طريقة حكيها، هكذا تسأل: إلى من يشكو كول؟

من مسلسل «True Detective»
العالم بحاجة إلى الرجال السيئين. نحن نبقي السيئين الآخرين بعيدًا عن الباب.

أعتقد أن هناك أشخاصًا خطرين في العالم، وغالبًا ما يُستدعى أشخاص خطرون لمقاومتهم. تقول الحكمة القديمة إن هناك خطًّا رفيعًا جدًّا بين الشرطي الجيد والمجرم الجيد، فكلاهما يشترك في الكثير من ذات الصفات، مثل الجرأة، والجسارة، والعناد، والغرور إلى حدٍّ ما، والهوس. الذريعة الأبسط هي محاربة النار بالنار، لكني أعتقد أن وجهة نظر كول تجنح لما هو أكثر من ذلك، فكول لن ينفي صفة السوء عن أي رجل.

أحد أكثر الأشياء التي تثير الإعجاب فيه، بالنسبة لي على الأقل، أن لديه ميثاق شرف صارمًا جدًّا لم يفرضه عليه أحد، ميثاقًا يبدو من خارج الثقافة، لهذا يتَّصِف بغرابة الأطوار مع رجال الشرطة الآخرين، لأن ميثاق شرفه لا علاقة له بسياقاتهم الثقافية. أحد التناقضات المثيرة للاهتمام بين الرجلين أن أولهما ليس لديه ما يحكمه حرفيًّا لكنه يحافظ على توازنه بصرامة، بينما الثاني لديه عائلة وينبغي أن يكون محكومًا أكثر لكنه يستخدم ذلك كذريعة للتصرف بلا قيود.

إذا كنت قادرًا على تحمُّل الأذى النفسي الذي ينجم عن كتاباتك، فلا يوجد شخصية لن يمكنك تخيُّل وجهة نظرها وفهمها بكل جوارحك.

من مسلسل «True Detective»
أنا لا أتفوَّه بالكثير من الكلمات الطنَّانة كما تفعل أنت، لكن مقارنةً برجلٍ لا يرى أي معنى في الوجود، فأنت تقلق بشأنه كثيرًا.

إذا نظرت إلى كول، فسترى أنه يمثِّل شخصية المحقِّق القاسي النمطية، لكن ما أردت فعله من وراء ذلك كان منح تلك الشخصية أبعادًا حقيقية حتى تصبح قاسية حقًّا وفي الوقت نفسه تكون لها أفكارها الفلسفية. إن لديه الوسائل والقابلية للتعبير عن الأفكار والفلسفات التي تكمن وراء هذا النوع من السلوك القاسي. يكاد يكون، بهذه الطريقة، النسخة الأصلية لما يدعي هارت أنه عليه.

بالنسبة لي، يمثِّل كول ما سيصبحه هيكلبري فين في القرن الحادي والعشرين. كان لدى هيكلبري فين القدرة على تحرير العبد جيم، لكن كل شيء نشأ عليه يخبره أنه سيذهب إلى الجحيم إذا حرَّر هذا الرجل، سيحترق في نيران الجحيم للأبد، لكن هيكلبري فين يحرِّر صديقه العبد ويقول: تبًّا لذلك، سأذهب إلى الجحيم، وهذا هو رَست.

هذا النوع من الانبهار العام بالقتلة المتسلسلين حوَّلهم لما يشبه أشرار القصص المصورة، وقد أردتُ قاتلًا لا تكون قصته معقدة للغاية بحيث لا يستغرق تفكيكها كل وقتنا. كلما كانت حبكتك بسيطة ومتينة، اكتسبت الحرية لاستكشاف طرق للسرد لم تجرَّب بعد وعمل استطرادات في المشهد والحوار.

من مسلسل «True Detective»
  طول الحياة يكفي بالكاد ليتقن المرء شيئًا واحدًا.
 إذا كانت بهذا الطول، فكن حذرًا مما تتقنه.

أعتقد أن النصيحة الأهم هي أن تتعلم حرفتك بأفضل ما يمكنك، أن تتعلم  ما تجيده وما يحركك. عندما تقرأ كتاباتك، كن صادقًا في تقدير مدى سوئها، تمعَّن فيها وابحث عن الأماكن التي تتجلى فيها الحياة، حتى لو كانت لحظة واحدة فقط، حتى لو كانت سطرًا واحدًا، لأن تلك الأشياء هي المفتاح لاكتشاف ما سيجعلك ناجحًا.

توقَّف عن أن تكون مساعدًا شخصيًّا إذا أردت أن تكون كاتبًا. لا يمكنك تعلُّم أن تكون كاتبًا إذا كنت تقضي 15 ساعة يوميًّا في رعاية شخص ما. أنت بحاجة إلى العيش في مكان ذي تكاليف معيشة منخفضة وتكريس نفسك لسنوات لتعلُّم كيفية الكتابة، بدلًا من أن تأمل: حسنًا، إذا خدمت المسئول التنفيذي المناسب لعدد سنوات معينة، فربما يسمحون لي بالانضمام إلى غرفة الكتَّاب أو ما شابه.

العمل الجيد أفضل ما يمكنك المضي نحوه، ولن تحصل على عمل جيد إلا بتعلُّم حرفتك ومواجهة هويتك الإبداعية، ما الذي تجيده، ما هو صوتك الخاص؟ يثير إعجابك مبدعون آخرون ويمتعونك لكن لا يمكن أن تكون هم، فلا تحاول أن تكون هم، فالعالم يضمهم بالفعل، فمن أنت؟

كما أذكِّر نفسي، فما أتى بنا إلى هنا، أينما كنا، سواء كان نجاحًا أم فشلًا، فكان أنني أكتب في عزلة وأسعى لتحقيق الرؤية التي أريد، وأنا لا أعمل في صناعة الخدمات، أنا لن أسأل الإنترنت: كيف تريد مسلسلك التليفزيوني؟! هل آتي لك بصنف جانبي معه أو أنك لا تحب ذلك المسلسل على الإطلاق؟! دعني أحضر لك مسلسلًا جديدًا.

لم أحاول القفز إلى هذا المجال قط؛ لأنه بدا وكأنه يوجد العديد من الحواجز الطبقية والمالية والجغرافية بيني وبينه، ثم تعلمت أنه إذا جئت بعملٍ جيد، فلن يتركوا موهبة جيدة في الخارج، فهم يرغبون في استثمار المواهب وضمِّها.