محمد منصور: كيف اشترى وزير نقل مبارك أغلى نادٍ في أمريكا؟
عنوان يبدو لك من الوهلة الأولى أنه مفعم بالتناقضات، لكنه لن يكون على نفس المستوى من تناقض بطله الرئيسي. ذلك لأن محمد لطفي منصور هو واحد من أكثر الشخصيات المصرية غرابة وإثارة في تاريخ مصر الحديث.
بداية محمد لطفي منصور كانت في ريادة الأعمال، وبالتحديد في تنمية إرث عملاقة النقل المصرية «منصور»، الاسم الذي امتلك توكيلات العديد من علامات السيارات في مصر طيلة عقود، وهي مجموعة الشركات التي أسسها والده، وبدأ محمد الابن الأكبر في إدارتها منذ عام 1976.
أظهر محمد لطفي منصور طفرة عملية قوية لشركته في نهاية عهد محمد أنور السادات وطيلة عهد محمد حسني مبارك، رئيسي مصر الأسبقين. ولكن في تسعينيات القرن الماضي تحديدًا حظي بعلاقات مقربة لرجال مبارك، وبات من أهم رجال الأعمال في مصر والشرق الأوسط وأكثرهم ترفًا.
تملك سيارات؟ فلتتولَّ وزارة النقل!
طرق منصور باب السياسة نهاية عام 2005 على طريقة تعيينات أواخر عهد مبارك. تم تعيينه وزيرًا للنقل دون إرث أو خبرة حقيقية في مجال النقل سوى أنه يمتلك واحدة من أهم الشركات المصرية في صناعة السيارات، وكان هذا أول تناقض ربما في مسيرة الرجل الذي بدأ الخروج للعامة منذ تلك الفترة.
4 سنوات من كوارث النقل كانت كفيلة بحرق ورقة محمد منصور الشعبية، كما احترق العديد من رجال مبارك في فترة ما قبل ثورة يناير والسنوات القليلة التي أعقبتها. لكن محمد منصور اقترن بلحظتين فارقتين في عهده، أو كارثتين لن ينساهما التاريخ المصري.
الكارثة الأولى كانت عقب توليه وزارة النقل بشهرين فقط، وهي كارثة عبارة السلام 98 التي راح ضحيتها أكثر من ألف راكب، معظمهم من المصريين.
وكأن الرياضة آنذاك ارتبطت بمتناقضات محمد لطفي منصور العديدة، لأن اليوم الذي غرقت فيه العبارة كان مرتبطًا بظهور الرئيس محمد حسني مبارك في نهائي أمم أفريقيا 2006 التي أقيمت في استاد القاهرة، وعلى أهازيج الجماهير المصرية السعيدة بالتتويج بكأس أفريقيا كانت مئات الجثث تسكن قاع البحر الأحمر.
كان محمد منصور واحدًا من أطراف الحدث. سيل من التصريحات المضحكة المبكية خرجت من فم الرجل الذي كان مصرًّا على عدم تحميل نفسه أدنى مسئولية عن الحادث، بعد أن قال إنه تم إبلاغه كوزير للنقل بغرق السفينة عقب 9 ساعات من الحادث.
استمرت الولاية غير الموفقة لوزارة النقل المصرية في عهد منصور، حتى انتهت في 2009 بكارثة أخرى برًّا هذه المرة، وهو حادث قطار العياط الثاني، الذي أودى بحياة 30 شخصًا وإصابة نحو 56.
ترك قطارا العياط المتصادمان أثرًا شعبيًّا وسياسيًّا واسعًا، خصوصًا أنه كان بعد 7 سنوات من حادث مروع آخر هو الأشهر ربما في كوارث هذه الحقبة عام 2002، والمعروف بحادث قطار الصعيد.
لم يكن مبارك آنذاك مستعدًّا لزيادة الرصيد الشعبي الرافض، الذي كان قد بدأ يفقد السيطرة عليه؛ لذلك ضحى أول ما ضحى بمنصور، الذي ترك المنصب الوزاري «مستقيلًا إجباريًّا» دون تحقيقات تقريبًا رغم أنه حظي بجلسة ساخنة في مجلس الشعب. ومع وعود بحلحلة بعض الإشكاليات المتعلقة بمصادر دخله واتهامات إهدار المال العام أثناء توليه الوزارة؛ ليطلِّق الرجل السياسة المصرية بالثلاثة، ويسافر خارج مصر متسلحًا بجنسيته الأمريكية، وبادئًا مشوارًا عمليًّا رياضيًّا سياسيًّا خارج مصر، وبالأخص في بريطانيا.
مصري في بريطانيا
أتت الثورة وطالب الكل بفتح إرث منصور المحيِّر، ولكن كما حدث مع العديد من أصحاب رءوس الأموال في عهد مبارك، انطمس كل شيء، وبدأ الرجل مسيرته العملية والسياسية خارج مصر بضمانات كاملة.
الحق أن الرجل كان له باع في بريطانيا تحديدًا منذ وقت طويل. فقد أقام فترة لا بأس بها من حياته في أعقاب مصادرة الدولة المصرية لممتلكات عائلته في عهد جمال عبد الناصر، قبل أن يتعافى في عهدي السادات ومبارك، ويصبح من أغنى رجال مصر والشرق الأوسط.
وصف ذلك في رسالة لصحيفة «تليجراف» البريطانية عام 2022، بأنه «أقام في بريطانيا لأنها بلد سيادة القانون»؛ لذلك كانت كل خطواته حتى مع الجنسية الأمريكية مرهونة بانتمائه البريطاني أولًا، ووضعيته المهمة في حزب المحافظين الذي تعد تبرعات منصور من أهم مصادر دخله الإضافي.
خلال ذلك، ظلت الرياضة في المملكة المتحدة تشغل بال منصور كمجال استثماري، إبان رحيل رومان أبراموفيتش عن رئاسة تشيلسي، برز اسمه بقوة كمالك محتمل للنادي. كان ينوي اتخاذ تلك الخطوة باسم نجله لطفي، الذي يعد من مشجعي تشيلسي وحاملي تذاكره الموسمية طيلة السنوات الأخيرة، لكن «تود بويلي» أنهى الجدل وتولى الكونسورتيوم الخاص به رئاسة تشيلسي ليبدأ حقبة مجنونة أخرى في تاريخ «البلوز».
تظل بريطانيا الوجهة الاستثمارية الرياضية المثلى لمنصور، لكنه يعرف جيدًا أنه لا بد من تجارب عديدة قبل اقتحام أهم الدوريات الأوروبية، لذلك فهو يتولى نادي نورشيلاند الدنماركي، إلى جانب نادي سان دييجو الأمريكي الذي انطلق معه في مستوى استثماري جديد، يدرك جيدًا أنه سيؤتي أكله بعد فترة وجيزة وسط التوجه الأمريكي الداعم لكرة القدم بشكل متنامٍ في السنوات الأخيرة.
لقد صنعت أموالك في مصر!
في خضم ذلك يدرك منصور أن عليه الحفاظ على وضعيته السياسية على الأقل داخل حزب المحافظين، وهو ما دفعه لضخ 5 ملايين جنيه إسترليني إلى خزائن الحزب على شكل تبرع، هو الأعلى في آخر 20 عامًا داخل حزب المحافظين.
قال منصور إنه يؤمن أن ريشي سوناك، رئيس وزراء بريطانيا الحالي، محل ثقته. جدير بالذكر أن منصور في نهاية 2022 تولى أمانة خزانة الحزب بشكل رسمي، لتصبح هذه التبرعات «في بيتها» بالمعنى الحرفي للكلمة.
هذا التبرع الضخم من قبل منصور أثار حفيظة الدولة المصرية التي تبحث عن العملات الأجنبية في خضم أزمة محلية وعالمية طاحنة.
تدافعت وسائل الإعلام المصرية لتذكِّر منصور بأنه «صنع أمواله في مصر»، وأنه كان من الأجدى أن يرسل هذه الأموال إلى البلد الذي عاش فيه حياته وتضخمت فيه رءوس أمواله، أو بالأحرى الذي كان ينتمي إلى أباطرة فساده في وقت من الأوقات!
قبل أسابيع قليلة، دشَّن منصور رقمًا قياسيًّا جديدًا في إنشاء النوادي داخل الدوري الأمريكي، إذ حصل على حقوق إنشاء نادي سان دييجو مقابل 500 مليون دولار، متفوقًا بنحو 175 مليون دولار على الرقم القياسي المسجل باسم نادي شارلوت الذي حصل الملياردير الأمريكي ديفيد تيبر على حقوق إنشائه في 2019 مقابل 325 مليون دولار.
سيبدأ «سان دييجو» المشاركة في الدوري الأمريكي بدءًا من عام 2025، وسيكون أحد أغلى 10 أندية في كرة القدم حول العالم بأسره.
تاريخ منصور حافل بالمتناقضات والمجالات المتضاربة، ورغم أن الرجل طرح آلاف الأسئلة دون إجابات على من يتابع تجاربه الممتدة طيلة 75 عامًا هي قوام حياته، وحين يظهر في مقصورة نادٍ إنجليزي عملاق رئيسًا له في غضون سنوات قليلة، لا تنسَ أبدًا أن هذه الثروة الطائلة صنعها هذا التاريخ المتناقض، تمامًا كبلد المتناقضات الذي نعلمه جميعًا!