كيف قدم المبدعون في أفلامهم تحيتهم للسينما؟
يستخدم المخرجون السينما منذ ميلادها لرواية حكاياتهم، على شاشتها تتجلى مخاوفهم وآمالهم وأحلامهم شعرًا مرئيًا، لكن خلف تلك الحكايات تكمن حكاية بعينها، هي حكاية المبدع والسينما، كيف حلت على عالمه، ولماذا كانت هي دون غيرها الأداة المُثلى ليروي حكايته ويصنع تحققه؟ يحاول مقالنا تتبع أفلام حاول صناعها أن يُقدموا عبرها تحيتهم الخاصة جدًا للسينما وما تعنيه لهم.
سكورسيزي: السينما دعوة السحرة للحالمين
يبدأ فيلم Hugo، بكادر تلصص مُحبب، طفل ينظر عبر برج ساعة عملاقة لمحطة قطار مُفعمة بالحركة، عبر زجاج الساعة المؤطر بدائريته ونظامه يرى الطفل «هيوغو» أبدية مُمتدة في الأفق، أبدية تغويه بالمُراقبة لكنها تُرهبه كذلك من المشاركة فيها.
في عُمر السبعين يتذكر «سكورسيزي» عبر هيوغو طفولته في حي «ليتل إيتالي» بنيويورك، كان «سكورسيزي» يٌشبه «هيوغو»، بينما الأخير طفل سجين يخشى انكشاف حياته وحيدًا في أبراج محطة القطار لكيلا يُرسل لدور الأيتام، كان سكورسيزي طفلاً سجين مرضه، مُصابًا بالربو الذي يمنعه من الخروج واللعب، قضى سنوات يُحقق وصاله مع العالم مثل «هيوغو» عبر فعل التلصص من النافذة، من مربع نافذة منزله في حي مشهور بالعنف، رأى رجال العصابات يُجرون صفقاتهم، والأطفال يخلقون بخيالاتهم ألعاب في ساحة الشارع والمُتحابين يختلسون القُبلات. تلك العناصر سوف يُخلدها في أفلامه عبر مربع تلصص أكثر جمالية وهو شاشة السينما.
في فيلمه الشهير Goodfellas نرى بطله «هنري» يُراقب رجال العصابات عبر نافذة منزله بالافتتان ذاته، سوف تجعله الغواية ينضم لهم في النهاية، ربما كان هذا أحد أحلام «سكورسيزي» التي تحققت له عبر شخوصه.
في Hugo تتشكل الرابطة بين الأب وابنه بالذهاب للسينما، وفي حياة سكورسيزي يتشكل المهرب الوحيد له من سجن مرضه برحلاته مع أبويه للسينما، كان الواقع لجسده محدودًا، ولعالمه مُخيفًا، يقول سكورسيزي إنه في ليتل إيتالي لينجو المرء إما أن يكون رجل عصابات أو قسًا. عبر حياة هيوغو المُفعمة بالخطر يستعيد سكورسيزي ما تعنيه السينما له. الجميع يهرب من واقعه للأحلام، بينما وجد هو في السينما وأحلامها خيار ثالث للعيش والنجاة.
يدور Hugo حول استعادة قصة حياة صانع الأفلام «جورج ميلييز»، الذي يتميز دونًا عن غيره من السينمائيين أنه هبط لصناعة السينما من عوالم السحر، كان ساحرًا شهيرًا بعروضه القائمة على الوهم والخيال، تلك الجذور هي ما جعلته يأخذ اختراعًا بسيطًا مثل كاميرا «الأخوين لوميير» ليبتكر بها أكثر من 400 فيلم ويقدم فيهم خدعًا سينمائية مُتقدمة يصل عبرها أبطاله للقمر ويحاربون وحوشًا في أعماق البحر.
اعتبر الأخوان لوميير السينما موضة عابرة لا تلبث أن تزول بينما رآها «ميلييز» امتدادًا بديهيًا للسحر والأحلام، لهذا لم يجد صعوبة في أن يبيع مسرحه السابق ويُضحي بعروضه القديمة لصالح السينما، لأنها امتداد للعبته القديمة جدًا وهي التخييل وليست موضة مُستحدثة.
تنهار مكانة ميليز ويُفلس بحلول الحرب العالمية الأولى، يقول إن الرجال عادوا من الحرب وقد رأوا كثيرًا من الواقعية، لم يعودوا قادرين على الحلم، هذا جعلهم يهجرون السينما.
يربط «سكورسيزي» بإبداع بين حُب السينما والقدرة على الحلم، لهذا نرى الفيلم بأكمله من منظور الطفل، الأطفال أكثر المخلوقات امتلاكًا للمُخيلة، بها يخلقون الوحوش والسحر، يدين سكورسيزي لطفولته ونافذته التي صنعت سحرًا روض وحشة عالمه.
لو فقدنا القُدرة على الحلم، لن نُحقق وصالنا مع السينما. لهذا يحمل ثقل القصة طفلًا وسط رجال بأطراف ميكانيكية وعيون تحمل أهوال ماضي الحرب الكبرى، يقف «هيوغو» بينهم مثل أعجوبة، طفل لم تضمر بعد قدرته على الحلم.
يستعيد «ميلييز» مكانته في النهاية عبر رسالة والد هيوغو لإبنه، كان والده رجلًا علميًا مفتون بالآلات، لكنه لم يفقد قدرته على الحلم، يقول هيوغو إن أباه لم ينس أبدًا فيلم ميلييز «رحلة إلى القمر»، كان للقمر فيه وجه بشري، اخترق صاروخ إحدى عينيه، صورة سيريالية مُفعمة بالخيال، تتحول لحظة خيال عابرة على شريط سينما لافتتان ثم رسالة ثم وعد تحمله مُخيلة الابن «هيوغو» بعد أعوام ليوصلها في النهاية لميلييز الذي يقتنع أخيرًا أن أفلامه لم تمت، كل ما تحتاجه السينما للخلود هو شخص واحد لم يفقد بعد قدرته على الدهشة والحلم.
اختار سكورسيزي عبر هيوغو الطفل أن يُقدم تحيته للسينما في سن السبعين، يقف ميليز في نهاية الفيلم ليقول سكورسيزي عبر لسانه لمعشر السينمائيين:
يرى سكورسيزي نفسه امتداد لطائفة مُميزة من البشر، طائفة حالمين يُمكنهم أن يُمرروا لك أبدية لا نهائية عبر مٌربع مشاهدة فقير، لم يتعد أول فيلم في تاريخ السينما أن يكون لقطة لقطار يصل لمحطته، يومها ارتعد المتفرجون وهبطوا أسفل مقاعدهم خوفًا من أن يخترق القطار حائط العرض، لحظة الدهشة البكر تلك لن تزول أبدًا ما دام هناك سحرة يصنعون الحكايات وحالمين يتلقونها.
داود عبد السيد: السينما كادر يؤطر العجز والمُقاومة
في أفلام «داود عبد السيد» تحضر ثنائية العجز والمقاومة باعتبارها الهم الأساسي، كل شخوصه عاجزون، بعضهم يتبدى عجزه في صورة إعاقة مثل العمى لدى الشيخ حُسني في «الكيت كات»، والرُهاب وصعوبة الكلام لدى يحيى في «رسائل البحر»، تحضر الإعاقات الجسدية باعتبارها العجز الأخف وطأة بينما العجز الأكبر هو الخوف في نفوس أبطاله، عدم قدرتهم على مُجاوزة شرط واقعهم وقيوده نحو الحياة وفق ما يتمنونه، وفق حرية مقموعة بداخلهم.
لا يصطنع داود في أفلامه أي شرط للحُرية سوى إرادة شخوصه أن يكونوا أحرارًا، في «الكيت كات» نرى الابن الشاب أكثر عجزًا وأقل جرأة على شرط الحياة من أبيه الأعمى، لا يُمثل الشيخ حُسني راية تمرد لكنه بالأحرى دعوة لمراوغة العجز بالحيلة، يرى حُسني قيود سكان الكيت كات وتناقضاتهم ويفضحها بخفة حد أن يظن الجميع أنه مٌبصر، بينما العجز يُثقل على نفس ولده حد أنه لا يستطيع مُمارسة الحُب مع امرأة.
ربما اللحظة الأجمل التي قدم فيها «داود عبد السيد» تحيته للسينما هي فيلم «أرض الأحلام» الذي يتكرر فيه الهاجس ذاته.
يُقدم الفيلم شخصية «نرجس»، أم في خريف العُمر، لكنها تبدو على سنها مثل طفلة، لم تختبر الحياة أبدًا، في بداية الفيلم تُحاول تحريك سيارتها المركونة بين سيارتين، لكنها تفشل وتصطدم بكل ما حولها، ذلك مجاز بصري عن عجز نرجس عن قيادة حياتها، وخوفها أن قيادة حياتها وفق حريتها سيخلق صدامه مع كل ما حولها كما صدمت بسيارتها كل شيء.
نرى التناقض في صورة أمها، التي تبدو رغم حياتها في دار مُسنين وسط عجائز ينتظرون الموت، أكثر شبابًا ونضارة، أكثر تمردًا، تراوغ قوانين الدار وتفر منها مع رجل تُحبه وتختلس وقتًا للسينما.
في مشهد بديع تجلس نرجس مُرتعدة في السينما وهي تُحاول إعادة أمها للدار، بينما يختار داود عبد السيد أن تعرض السينما في اللحظة ذاتها بطله الأثير الشيخ حُسني في «الكيت كات». كأننا نرى حكاية في حكاية، فأحد شخوصه المتخيلة يلهم الآخر.
يقول داود إن السينما خاصته ليست سينما نظيفة لا تجرح أحدًا، وليست سينما تُجارية، لكنها سينما تحمل همومًا، ولا يعني بالهموم المشاكل بقدر ما هي الأسئلة الوجودية عن الحياة والموت والإرادة والعجز، أسئلة بلا إجابة، لكننا في تفحصها نجد حياة تستحق العيش.
لا تُشير سينما داود بالبنان لعائق بعينه خارجنا، لا تحوي أفلامه شريرًا بالقضاء عليه تتحقق النهاية السعيدة، العائق والشر بداخلنا، وهي القيود التي نضعها لأنفسنا، الحيز الضيق الذي نُقرر أنه يسع حريتنا. بينما حُريتنا يسعها براح بداخلنا، نعلمه لكننا لا نملك الشجاعة لمجاوزة عجزنا وخلقه.
كل ما تريده تلك السينما أن نجلس بجوار نرجس، نرى رجلًا كفيفًا يراوغ عجزه أو ربما نجلس لنُشاهد نرجس ذاتها، السيدة الهلوع التي لم تقل لا يومًا وهي تجلس في النهاية سعيدة بعد أن اختارت لأول مرة في حياتها أن تقول لا.
في هذه المشاهدة وهذا التماهي مع شخوص أكبر منا سنًا وأصعب منا حالًا وأعقد منا ظرفًا يُمكن أن يرتد علينا سؤال حُريتنا، لنسأل أنفسنا، لماذا يراوغ هؤلاء عجزهم على الشاشة، بينما نحن نستوطن عجزنا ونمنحه شرعية؟
أسامة فوزي: السينما إنجيل بديل
في فيلمه «بحب السيما» يُقدم المخرج الراحل «أسامة فوزي»، تحيته للسينما، باعتبارها إنجيلًا بديلًا، في مشهد تخييلي نراه بعيون الطفل نعيم، يشبه لحظة دخوله للسينما بلحظة دخول الجنة، مشهد قيامة ينتهي بسعادة غامرة تليق بجعلها لحظة فوق أرضية. هنا يُمكننا أن نسأل لماذا اختار أسامة أن تكون السينما دينًا بديلًا؟ أو عقيدة نجاة لبطلها؟
يُقدم المخرج فيلمه في الحقبة الناصرية، حيث اليقين المُخيف طافح في كل صور الحياة اليومية، الجرائد والراديو والشوارع تُمجد «جمال عبد الناصر» بيقين لا يقبل المساءلة باعتباره أبًا أكبر لأسرة مليونية في وطن كبير، بينما في الوطن الصغير أو منزل نعيم نجد مُعادلًا لناصر في صورة الأب عدلي، الذي يخلق في منزله جحيمه الديني الخاص، بيقين لا يقبل المُساءلة يرى عدلي الحياة لعبة سادية إلهية، فيها ينتظر الرب خطيئة عابرة ليقبض روحه، يتمنى عدلي لو كان مثل اللص التائب على الصليب، أن يحيا حياة اللذة ثم يتوب في اللحظة الأخيرة فينال نصيب الدنيا والآخرة، لكنه يخاف أن يحيا مقلوب السيناريو، أن يكون ورعًا طوال حياته ويموت على خطيئة.
رؤية عدلي للرب لا تختلف عن رؤية المصريين لحقبة ناصر، يُحبونه ويؤلهونه، لكن كلمة خاطئة أو وشاية بسيطة قد تجعل المرء ضيفًا في جحيمه، مثلما تحول انحياز المدرس عدلي للطلبة الفقراء إلى اتهام بالشيوعية جعله يتذوق جحيم ناصر.
تجربة التعذيب سوف تُحطم عدلي لأنها امتدت ببراعة لرؤيته للإله نفسه، يصدمه أنه يرى ربه بالطريقة نفسها، كيانًا مخيفًا يطيعه بالخوف لكنه لا يدري لو تخلى عن خوفه يومًا هل سيتبعه أم لا؟
السينما في هذا السرد هي المحراب الوحيد الذي لا يطلب من أتباعه اليقين، كنيسة تتعدد عقائدها بتعدد الحكايات والشخوص، لهذا يُحب نعيم السينما، لأنها تخلو من كل صور اليقين وكل السلطات التي تقهرنا عليه سواء دينية أو سياسية، في السينما وحدها لا يخرج أحد ليُملي عليك ما يجب أن تشعر به وتصدقه، يتمرد نعيم بطفولة على كل السلطات بدءًا من الأب وصولًا للطبيب الذي يملي عليه أوامره بعدم اللعب.
يُروى فيلم «بحب السيما» على لسان نعيم في سن الأربعين، وفي نهاية الفيلم يُخبرنا كيف تشتت مصائر الأبطال بين الموت والسفر، لا نعلم هل تزوج نعيم؟ هل صار سعيدًا؟ لكننا نعلم أنه ما زال مؤمنًا وحيدًا في محراب كنيسة بديعة، ما زال يُحب السينما.
يُقدم أسامة فوزي تحية فريدة للسينما باعتبارها إنجيلًا بديلًا يسعنا الهروب له، بينما يلجأ الخائفون للإيمان الأعمى المُكبل لكل الممكنات يلجأ الحالمون بسخرية وتمرد للسينما لتفتت كل يقيناتهم في حكاية.
لا يُشيح نعيم في المشهد الأخير النظر عن الشاشة وهي تنقل سحرها بينما جده يموت في خلفية المشهد، يؤسس للسينما في النهاية كلحظة خشوع لا تنقطع، حتى لو كانت هزلية، لحظة يمكن في الغرق فيها أن تُلطف العالم ولو كان في حداده.
سبيلبرج: إله النهايات السعيدة
في فيلمه الأخير The Fabelmans، يختار «سبيلبرج» أن يستعيد علاقته بالسينما، في عمر 75 خلوًا من الرغبة في إثبات الذات والتحقق، يجد أخيرًا الوقت مُناسبًا في نهاية مسيرته العظيمة للعودة للبدايات، لما عنته السينما له من الأساس.
يبدأ الفيلم باصطحاب الأبوين للطفل «سامي» للسينما، مع وعد أمه أن بعض الأحلام مُخيفة لكن هذا سيكون حلمًا جميلًا، يشاهد سامي مشهدًا مخيفًا لقطار يدهس سيارة، يخرج من السينما صامتًا في صدمة، تنتابه الكوابيس في الأيام التالية وفيها دومًا يخرج الفيلم من حيزه الخيالي، قطار مٌسرع قادم من عوالم الخيال ليدهس واقعه، لا تنتهي دورة الخوف إلا عندما يبتاع له أبواه كاميرا وقطار ألعاب، يُعيد سامي تجسيد المشهد وتصويره مرارًا حتى يملك سيطرة وإرادة عُليا عليه.
يقول «سبيلبرج» إن السينما كانت دومًا له أداة للسيطرة على واقع لا يملك السيطرة عليه، لهذا نرى في كل أفلامه انعكاسًا لمشاكل حياته وتعقيداتها مع منحها في الأفلام نهاية سعيدة وانعتاقًا.
يُمثل البطل سامي مُعادلًا لحكاية سبيلبرج مع السينما، يُعاني من التنمر فيصطنع فيلمًا لمُتنمريه، ينهزم المُتنمر عندما يرى حضوره السينمائي بعيون سامي، في الحقيقة عاني سبيلبرج من التنمر ليهوديته وضآلة جسده، وخلد مخاوفه من مُطارديه في فيلمه البديع duel عام 1971 عن شاحنة عملاقة تُطارد البطل بلا سبب.
عانى سامي في الفيلم من انفصال والديه نتيجة تعلق والدته برجل آخر، يصب سامي غضبه تارة على الأب وتارة على الأم، يجعل سبيلبرج الأفلام وسيلة سامي لاكتشاف الأمر برمته. تمثل الحكاية انعكاسًا لمأساة أسرة سبيلبرج التي عانت من الأمر نفسه.
في البداية سوف يصب سبيلبرج غضبه على أبيه لهذا نجد صورة الأب السكير الذي يخذل أسرته في أفلامه مثل إنديانا جونز ولقاءات من النوع الثالث وهوك، وعندما يُحقق مُصالحته مع أبيه نجد صورة أكثر جمالية للأب في أفلام مثل Lincoln وCatch Me If You Can و Saving Private Ryan الذي قدمه تحية لجيل أبيه ومقاتلي الحرب العالمية الثانية.
تدور سينما سبيلبرج حول مُحاولاته لترويض واقعه في حكاية ومنحها نهاية سعيدة، في Fabelmans، يقول المُتنمر لسامي أن الحياة ليست كالأفلام، لكن سامي يبتسم ويُخبره أن الفيلم الذي صنعه له جعل المتنمر يفوز بقلب حبيبته. تلك قوة السينما وهدفها في نظر سبيلبرج أن تمنحه انتصارًا وسيطرة على واقع لا يُمكن السيطرة عليه.
فيلم Fabelmans مُصارحة سبيلبرج الأخيرة حول ما تعنيه السينما له، وكيف تجعله إلهًا مسيطرًا على مقدرات عالمه، لكنه إله حنون لا يبخل بالنهاية السعيدة التي يرفضها الواقع.