كيف تطور «جيمس بوند» من فتى مدلل إلى بطل خارق؟
لا يوجد منْ لم يسمع عن العميل السري «جيمس بوند»، أو يشاهد على الأقل فيلمًا واحدًا من أفلام أشهر جاسوس في تاريخ السينما، وأحد أبطالها المخلصين على الإطلاق، فمنذ عام 1962 ولأكثر من 60 عامًا، جلب جيمس بوند أرباحًا فاقت 7 مليارات دولار خلال 24 فيلمًا، في سلسلة من بين الأنجح، تناوب عليها 13 ممثلًا مختلفًا، من بينهم نجوم كبار أمثال «السير شون كونري» و«السير روجر مور» و«بيرس بروسنان» وأخيرًا «دانيل كرايج».
يعود النجاح المبهر والمستمر للشخصية والسلسلة إلى عدة أسباب، من أهمها تكيف الأفلام مع الظروف المحيطة في الفترة الزمنية، وتغير القصص والأشرار على مدى السنين، وحسن اختيار أوجه للشخصية، وكان أنجحهم وأول من قام بالدور هو «شون كونري»، ومن بعده آخر من قام بها «دانيل كرايج».
نستعرض معًا التغير في أفلام بوند وتطورها خلال الـ 60 عامًا الماضية، عن طريق النظر إلى أقدم 5 أفلام:
- فيلم Dr. No (1962).
- فيلم From Russia with Love (1963).
- فيلم Goldfinger (1964).
- فيلم Thunderball (1965).
- فيلم You Only Live Twice (1967).
وأحدث 5 أفلام:
- فيلم Casino Royale (2006).
- فيلم Quantum of Solace (2008).
- فيلم Skyfall (2012).
- فيلم Spectre (2015).
- فيلم No Time to Die (2021).
وسيكون التركيز بشكل أكبر على السلسلة القديمة بحكم أن الأغلبية لم تشاهد الأفلام القديمة، بينما الأفلام الجديدة في المتناول وشاهدها معظم الناس.
الأبعاد السياسية لأعداء جيمس بوند
لا يخفى من أول وهلة أن الأشرار في السلسلة الأولى جميعهم من الشرق، حيث منظمة Spectre تعتبر منظمة شيوعية بالأساس، وكل عملائها إمّا من الصين مثل Dr. No في الجزء الأول، أو من روسيا في الجزء الثاني، ولم تظهر المنظمة في الروايات حتى الرواية التاسعة، وقبل ذلك كان بوند في مواجهة المخابرات السوفييتية أو نازيين سابقين، مما يعتبر منطقيًا، لأن الروايات والأفلام كانت في ظل الحرب الباردة، وكان وجه الشر بوقتها السوفييت بشكل خاص.
حتى عندما حاولوا الخروج عن الـ Stereotype أو الشرير المعتاد، اتجهوا إلى ألمانيا والشر النازي المخيف، الذي تبعه شيوعية ألمانيا الشرقية، التي هددت الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، فكان بوسعك أن تضع قرونًا على رأس شيوعي، وتدّعي بسهولة أنه الشيطان، بنهج يشابه كفار قريش في الأفلام القديمة.
نجح هذا النهج في البداية، لكن بعدها وقعت السلسلة في فخ الرتابة والتكرار وتشابه الأحداث والدوافع، وظهرت تفاهة وسطحية الشر في الأفلام، لكن في نفس الوقت تماشت مع طبيعة الكوميديا والسخرية التي غلبت على الأفلام الأولى.
لكن حاليًا اتخذ تطور الأشرار منحنى أوسع وأشمل من شخصية بوند نفسه، فقد انخفضت أسهم الشيوعية وزال خطرها نظريًا بسقوط الاتحاد السوفييتي، وأصبح الخطر الغربي أكثر جذبًا للمشاهدين، خاصةً بالنسبة للسوق الصيني، أكبر سوق سينمائي حاليًا، والذي تدين له هوليوود بقدر كبير من أرباح أفلامها، ففرض التغيير نفسه على الشخصيات.
تطور الأشرار من ممثلين مغمورين في أدوار ضعيفة وشر مطلق لمجرد الشر، وكأنهم هنا فقط من أجل إيذاء بوند، إلى نمط أقرب لما يُطلق عليه Antihero أو البطل المضاد، ويمكن اعتماده يد الشر أو الفوضى، ولكن بدلًا من أن تكرهه، تتعاطف معه وتقتنع بمنطقه وأسبابه، وربما في بعض المراحل تشجع انتصاره على البطل، وخاصةً مع نجاح مثل ذلك النوع من الأشرار في السينما.
لذلك أصبح الشرير Sophisticated أو شخصًا راقيًا ومعقدًا يتبع كودًا معينًا، وله قدر من الأهمية بالفيلم ودور مؤثر، فكان لزامًا أن يقوم بهذه الأدوار نجوم كبار، تعدت نجوميتهم «دانيل كرايج» نفسه، مثل «مادس ميكلسن» و«خافيير بارديم» و«كريستوف فالتز»، أسماء معروفة ومميزة، فاز اثنان منهم بالأوسكار من قبل، كما أنهم ينتمون إلى منطقة غرب ووسط أوروبا، وبعيدًا عن روسيا والصين والشر الشرقي، ولهم من القبول ما يضم المشاهدين إلى صفوفهم، بعكس الشر المُنفِّر في الماضي.
كل ذلك انعكس على جودة الأفلام بشكل عام، وأضاف إثارة إلى الصراع، فكلما كان الشرير قويًا وصعبًا، كلما زادت قدرات البطل، وأصبح أفضل بانتصاره في النهاية. أمر أشبه بالصراع بين باتمان والجوكر، عظمة باتمان تكمن في قوة عدوه اللدود، وقدرته على إحداث الفارق.
المرأة المثالية لجيمس بوند
«فتيات بوند» هو مصطلح ظهر مع بداية أفلام جيمس بوند، ويصف أبطال المغامرات الرومانسية للعميل السري خلال الأحداث، ويظهر بوضوح الاختلاف الكبير بين فتيات بوند ما بين السلسلة الأولى والأخيرة، برغم عدم تغير معايير اختيار الممثلات كثيرًا في الجوهر.
اعتمد صانعو الأفلام الأولى على مجموعة من عارضات الأزياء وملكات الجمال الأوروبية بشكل حصري، حيث تم الاختيار بناءً على المظهر والجمال فقط، بدون الاهتمام بالخلفية الفنية أو الموهبة، حيث كان وجودهن فقط كمجرد دُمى يلعب بها بوند (فاتن النساء)، حتى إن معظمهن تم دبلجة دورها لأنها تتكلم الإنجليزية بصعوبة، أو حتى لا تعرف الإنجليزية على الإطلاق، وكلما زاد جمالهن برزت قدرات الوسيم بوند، الذي لا تستطيع أي امرأة أن تقاوم سحره، باعتباره الرجل المثالي الذي تحلم به كل امرأة، ويُقال إن فاتن حمامة قد رفضت أن تقوم بمثل هذا الدور عندما عُرض عليها، لتلك الأسباب.
كان جميعهن من إيطاليا أو ألمانيا أو سويسرا أو فرنسا، حتى في فيلم You Only Live Twice الذي تمت أحداثه في اليابان، وكأن الآسيويات لم يكنّ كافيات ولم يقدمن نفس التأثير على الشاشة، فتم إضافة ممثلة ألمانية، بدور غير مُبرَّر كإحدى أشرار الفيلم، والتي تدخل أيضًا في علاقة مع بوند، بالإضافة إلى البطلة اليابانية، فما الداعي لذلك! ببساطة للتماشي مع معايير الجمال في تلك الفترة، ألا وهي الأميرة الأوروبية، وعدم الخروج عن معايير جيمس بوند ساحر الجميلات.
أمّا حاليًا، فيمكن بسهولة متابعة تطور الاختيارات، ودخول معايير مختلفة -قليلًا- عن تلك في الماضي، فظهر في الأربعة أفلام الأخيرة نجمات كبار، صنعن اسمًا وسمعة بأدوار مميزة، ولهن شهرة واسعة في مجال التمثيل، مثل «إيفا جرين» و«ليا سيدو» و«مونيكا بيلوتشي» و«أولغا كوريلنكو»، ولكن ما العامل المشترك بينهن أيضًا؟
جميلات أوروبيات يقعن تحت سحر بوند (زير النساء)، ولكن لسن مجرد دمى جميلة أو عارضات أزياء، بل أعمدة رئيسية في القصة، ولهن رصيد في الإبداع قبل وبعد أدوراهن في السلسلة، بعكس الأخريات اللاتي اختفين تمامًا بعد أفلام بوند.
كيف تحول بوند إلى بطل خارق؟
لو كنت من تعساء الحظ الذين لم يشاهدوا الأفلام القديمة من قبل، فقد خُدعت في شخصية جيمس بوند، بعكس الأفلام الجديدة، فجيمس بوند في الأساس لا علاقة له بالجدية أو القوة، ونادرًا ما كان الفيلم دراميًا، فكان العميل السري شخصية كوميدية خفيفة بامتياز، وأهم صفاته أنه زير نساء ومُقامِر من الدرجة الأولى، ويستمتع بارتداء ملابس السباحة وشرب الخمر، كما لا يكاد يكون له أي دور حقيقي هو الآخر في الفيلم إلا أنه خفيف لطيف.
بعكس ما تصوِّره الأفلام الجديدة على أنه البطل المغوار الذي يحارب الشر بمفرده ويتغلب على الصعاب، بالإضافة إلى صفاته السابقة، أنه باتمان مثلًا ويقوم بكل شيء بمفرده، لكن بوند بالأساس Team Player أو يعمل في فريق وليس وحيدًا، ويقبل المساعدة بكل أشكالها من مختلف الأطراف.
تظهر الرؤية القديمة للشخصية، والتي تعد الأنجح على الإطلاق، مثلًا في فيلم From Russia with Love، حيث تم إنقاذه من الموت 3 مرات، أنقذه الشرير في البداية، ثم الحظ، وفي النهاية أنقذته إحدى فتياته، بدون أن يكون هو قادرًا على إنقاذ أحد أو نفسه.
كذلك في Goldfinger، طوال الفيلم كان بوند محتجزًا عند منظمة إجرامية، يقضي كل الفيلم تقريبًا في الشرب والاستمتاع بالشمس المشرقة، في حين تقوم باقي الشخصيات بالأدوار الجادة في الفيلم، بالرغم من أن بوند يظهر في كل مشهد تقريبًا. وحتى في النهاية التي من المفترض أن يكون فيها بوند هو البطل، كان على وشك قتل الجميع بما فيهم نفسه، لولا أن أنقذه الآخرون في الوقت المناسب.
كان ذلك بعكس البطل الخارق الذي يحاولون تصويره الآن، فقد نضج بوند بشكل ملحوظ خلال السلسلة الحالية، واتخذت الأفلام جدية أكثر، خاصةً مع تطور الأعداء وزيادة خطرهم كما ذكرنا، فلم يعد بوند قادرًا على الاستمتاع بوقته كما بالسابق، بل تحوّل إلى شخصية درامية مع فاصل قصير من الكوميديا أو السخرية، وبدلًا من علاقات عابرة كمراهق، يجد الاستقرار العاطفي طريقه إلى بوند، حتى ولو على استحياء.
هل يقتل «دانيل كرايج» نفسه كما وعد؟
يعد فيلم No Time to Die الحلقة الأحدث في حياة بوند، وربما الأخيرة في مشوار «دانيل كرايج» مع الشخصية، والذي يصدر في سبتمبر/أيلول من العام الحالي (2021)، ولأول مرة تخرج السلسلة عن أعراف بوند الممتدة من السلسلة الأولى، حيث دائمًا كل من الشرير وفتاة بوند ذات ملامح أوروبية ما عدا استثناءات طفيفة ومرات قليلة على استحياء، لكننا نجد هذه المرة أن فتاة بوند الرئيسية والبطلة «آنا دي أراماس» لاتينية الأصل لأول مرة، والشرير «رامي مالك» من أصول عربية لأول مرة أيضًا.
ربما يكمن سر هذا التغير المفاجئ في الجو العام حاليًا، مع شدة وطأة التيار الليبرالي والصوابية السياسية في هوليوود، وفرض فئات بعينها على صنّاع الأفلام، فقرّر صنّاع أفلام بوند تفادي أي مشاكل وانتقادات من حملات الإرهاب الفني في هوليوود، وقرّروا الاعتماد على أقليات في الفيلم الجديد، لإرضاء الصوابية السياسية من جهة، وكسب الجمهور بالحصول على خدمات نجوم (التريند) حاليًا.
فكان أساس اختيار «رامي مالك» النجاح الكبير لفيلمه Bohemian Rhapsody، وفوز رامي بالأوسكار، وأنه نظريًا أفضل خيار حاليًا من الأقليات، وكذلك «آنا دي أراماس» التي تعد أشهر ممثلة وأكثرهن شعبية في الوقت الحالي، مع نجاحها وظهورها المميز في Blade Runner 2046، ومن بعده Knives Out.
أمّا بوند نفسه، فكان في محل شك بعد رفض «دانيل كرايج» العودة للدور، بعد الانتهاء من فيلم Spectre في عام 2015، حيث قال كرايج في مقابلة صحفية:
ويُعتقَد أن ذلك راجع إلى إصابات تعرّض لها خلال المشاهد الخطرة، وأن الدور يتطلَّب منه مجهودات بدنية جبارة خاصةّ مع تقدمه في السن، ولكنه وافق أخيرًا بعمر الـ 52 على القيام بالدور من جديد مقابل مبلغ خيالي يُقدَّر بين 25 أو30 مليون دولار، في حين ذهبت بعض التقارير إلى ما يزيد عن 100 مليون دولار لعمل فيلمين، ولو صح الرقم الأخير، فإنه ليتقاضى في فيلمين فقط أكثر من الأربعة الذين قاموا بالدور قبله في 14 فيلمًا.