كيف بدأت؟
إنها ليست قصة، وإن كان أمثالها على ألسنة القصاص كثير ، وليست رواية، وإن كان مثلها روي لأجيال، وليست كتابا، وإن كانت حروفه كتبت بين دفتين يتيمتين.
الآن وأنا أكتب هذه السطور، وأسترجع ذكريات مضت، لا أدري ما الذي دفعني إلى كتابتها، وأي شعور يسوقني نحو تسطيرها، وما الداعي لنثرها علنا بعدما سترها الزمن بثوب الليل الممتد بعدها، لست أدري، فلم يكن ثمّ ما يدعو لأن أعيد كتابة ما حدث ولا تذكره على الأقل، فأسوأ ما في الذكرى العاطفية والذي يجعل منها مأساة أنها متجددة، كشعلة لا تخبو مهما هطلت عليها السماء وعصفت بها الريح وعلاها التراب وسترها الليل.
إذ العقل والروح والفكر والوجدان والإحساس والشعور وما ملك الإنسان من أسباب الإدراك جنود منقادة عمياء بكل حمق وسفه وغباء لتلك الذكرى.
فتوقد من نفسها نفسها، وتتناوب على الاشتعال لتظل أبد الدهر مضيئة تحرق القلب حتى يتفحم ويسوّد فلا يصلح لشيء بعدها، ولا يعود لك كما عهدته قبلها.
وإن كنت أقاسي وقت كتابتها، فقد اهتديت أخيرا إلى أن الاعتراف (بالجرم) أولى عتبات الاسترواح، ثم تأتي العقوبة المطهرة كمطر السماء لتعيد كل شيء إلى نصابه وقالبه الخليق به.
لكنني تلقيت العقوبة كاملة، وما ثمّ راحة ولا هدوء، فأيقنت أن الاعتراف الساقط لا تتم الراحة إلا به.. فقررته.
وأجمعت نفسي بعد تردد على نثرها؛ لعلها تكون ذات فائدة لقلب ما.
لكن، هل ما كان بيننا جرم؟
من ذا بيده خطاب قلبه، ومن ذا إذا جُمع بيده كان قادرا على التوجيه، فقد كان قلبانا كجرمين سماويين انجذبا بحكم الطبيعة الرابطة بينهما، أما الآن .. فالشروخ التي أحدثها الانفصال لهي متشابهة في قلبينا تشابه حواف القارّات المتباعدة وتأمل الالتئام من جديد.
إنني الآن أريد أن اكتب، لا لشيء سوى أنني أريد، عن أي شيء بيننا؟ لا أعرف، ولكنها عادتي حتى لا أفقد بعضا من أدواتها وحرفيتها.
أكتب عن ماذا؟
عنك أم عن نفسي؟
إذن سيطول الكلام، فقررت الكتابة عن نفسي، فلا فارق بينكما.
لطالما قلت ذلك في وقت مضى، كنت تضحكين غير مصدقة، تسألين أسئلة فلسفية لا إجابة لها، وإن كان بعضا من إجاباتها موجود بوفرة عند المتصوفة والعشاق والشعراء. «كيف أتحول إلى نفس طائشة في عقلك وجسدك، صحيح أنك صدقت ذات مرة حينما أخبرتني في الهاتف ماذا أرتدي وما لونه وأين أجلس وما أفعل، أكان ذلك حديثا عن نفسك أم نفاذ بصيرة؟»
وقتها أخبرتك أن نفاذ البصيرة دليل على اتحادي معك، وذوبانك في نفسي. فكنت تضحكين أكثر، وتتهمينني بأنني مثقف قرأ في السحر والفراسة والإشارات فأمكنني معرفة ذلك، لكن المثقف وقتها كان أجهل من صحيفة صفراء وما تعلّم إلا على يديك.
هل تذكرين تلك الأيام؟
إنني على وشك أن أُكمل ما كان، ولكن لا أعرف بأي عين ستقرئينه، ربما تلعنين أياما جمعتك بي، ربما لأنها لم تتصل وتكتمل، فقد كنتِ أكثر اتصالا بالوقت والزمن والواقع، وتخشينه.
هل تذكرين عندما قرأنا معا ديوان البارودي وصرح باسم حبيبته صراحة، كان اسمها لمياء ضحكنا معا من جرأته، قلت لك وقتها قد أكتب ما بيننا يوما، فانتابتك دهشة وحذرتني من ذكر اسمك كما فعل في همزيته.
فضحكت، داعبتك، ربما أُكنّي عنك.
لكن أي كنية تليق بك، ليس القمر الذي طالما شبهتك به، فما القمر سوى وجه أصم أبكم، هكذا أصبحت أراه بعدك.
أم بالورد، فما الورد سوى وريقات ضعيفة لا تقوى على شيء.
إنني أُكَنِّي عنك بك.. يا وردة العمر كله.
وأسميها ورقة، لأن القلب ما هو إلا ورقة تُكتب مرة واحدة في العمر، لا يجوز فيها كشط حروفها ولا الكتابة عليها، فإما أن تبقيها كما هي فتتلظين بذكرياتها المؤلمة، وإلا تمزقينها، وفي تمزيقها مرارة الحياة إذ إنها قلبك، وقلبك هي.
ورقة لا أكثر، وكم في الناس من أوراق ممزقة ملقاة على قارعة الحياة، يرفُّها الصقيع، وتغزوها الوحدة والوحشة.
وكم من أوراق ذُيّلت بالخيانة
وأخرى بالفراق
وأخرى بالخيبة
وأخرى .. ذيلت بالموت.
وهذه الورقة جُمع فيها كل شكل من أشكال الألم الإنساني وبهجة العاطفة بين قلبين اجتمعا وافترقا.
فهي أخلاط من القرب والبعد، واللقاء والفراق، والدمعة والبسمة، والاتفاق والشقاق، والتهلل والتجهم، والذكرى المؤلمة، وأمل الوصل من جديد.
وإن كانت تلك الورقة تشكّلت من سطور نَثَرتها النفس وقت قربها، وأفرزها القلب حين مرافقتها، فقد جمعتها لأنها جزء مني لا ينفصل، وطفل لا أتبرأ منه، إذ إنه أتى من قلبين اتفقا وتعاهدا وعشقا، ولأنني أراها الآن في عقلي كبلابل تحوم حول أجمة مزهرة، وأراني مسلوب الإرادة؛ إذ إنها تجلت الآن في نفسي تجلي الزيغ في عقل السكير لكنها أعمق، وخامرت نفسي بنشوتها إلا أنها أشوق، فتبعها الفكر والحس منساقا إلى حيث كنا في وقت وصل مضى، إلا أنني بمفردي مع الذكري والأمل.
فهي ليست تجربة مضت، أو حالة انتهت، أو عاطفة خبت، ولكنها كارثة حلت، وسعادة ولت، وحب تعنت، وامرأة ظنت.. وكم من حب وأده الظن السيئ.. والأثرة.