التنسيق الأمني مقدس، وسوف يستمر سواء وافقنا على السياسة أم لم نوافق.
محمود عباس أبو مازن

هكذا صرَّح الرئيس الفلسطيني محمود عباس عام 2014 أمام حشد من الإسرائيليين، وهو يتحدث عن التنسيق الأمني بين قوات أمنه وحكومته وهو شخصيًّا من جهة، وبين قوات الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى. ينقل التصريح الكاتب ناثان ثرال، كبير محللي الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية، وصاحب كتاب اللغة الوحيدة التي يفهمونها، الذي يركز على تحليل الوضع الفلسطيني الإسرائيلي.

بين دفتي الكتاب وعلى رأس فصل مخصص للحديث عنه ورد فيه التصريح السابق، يتحدث ناثان عن عباس بصفة خاصة، وعن كيف خرج في وادي المقاومة الفلسطينية ومن بين الشعب المفطور على كره الاحتلال ومحاربة إسرائيل سلطةٌ أمنية تدين بالولاء للمحتل، وتُنسق معه ضد شعبها عامةً، وضد المقاومة خصوصًا. ورغم أن تلك السلطة لا تمثل إلا نفسها، إلا أنها باقية منذ سنوات كممثل رسمي ومُعترف به للشعب الفلسطيني.

غلاف كتاب «اللغة الوحيدة التي يفهمونها: فرض التسوية في إسرائيل وفلسطين» للمحلل الأمريكي ناثان ثرال

يستدل ناثان على كونها سلطة غير شعبية بذكره لحادثة 31 أغسطس/ آب 2010، في اليوم التالي لذلك التاريخ كان من المفترض أن يلتقي الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، قادة إسرائيليين وفلسطينيين لبدء جولة جديدة في جولات المفاوضات اللانهائية. لكن في التاريخ المذكور أطلق مسلحون من حماس النار على 4 مستوطنين يهود في الخليل، أكبر محافظات الضفة الغربية.

أدان الإسرائيليون وعباس الحادث، لكن المتحدث باسم حماس قال إن هدف العملية لم يكن إفشال المفاوضات، بل هدفًا أكبر، الهدف كان القول بأن التعويل على تعاون السلطة الفلسطينية مع الاحتلال عديم الجدوى.

كيث دايتون: لورانس العرب الفلسطيني

ضابط أمريكي، وُلد عام 1949، عُين من قبل الإدارة الأمريكية عام 2005 ليكون منسقًا أمنيًّا بين الفلسطينيين والإسرائيليين. حاصل على شهادتين إحداهما في التاريخ والأخرى في العلاقات الدولية، وخدم في سلاح المدفعية الأمريكية، ثم عمل ملحقًا دبلوماسيًّا في موسكو، ومفتشًا عن الأسلحة العراقية، لكن كل ذلك لا يوضح أهم ما يتميز به دايتون، ولا لماذا تم اختياره لتلك المهمة التاريخية.

دايتون يقدر على إعداد الجنود بطريقة تضمن ولاءهم، ويستطيع إقناعهم بأي هدف يردده على مسامعهم، لذا فدوره لم يكن مجرد التنسيق بين الطرفين، بل خلق طبقة أمنية فلسطينية تضمن أمن إسرائيل، وتعمل على استقرار الوضع في الضفة الغربية وغزة. فكان يقوم بزيارات ميدانية ليطلع مباشرة على أداء القوات الأمنية، ويُحدد كمية السلاح الذي يجب تقديمه لهم من واشنطن ونوعه، وبتوصياته المباشرة يُعين المسئولون الأمنيون الفلسطينيون.

فلسفة دايتون، التي أعلن عنها في أكثر من لقاء صحفي والتي اقتنعت بها الأجهزة الأمنية التي صنعها على عينه، أن أمن فلسطين يمر عبر أمن إسرائيل، وأن الخطر يظل مُحدقًا بفلسطين ما لم تَنعم إسرائيل بهدوء. ساعده في غرس تلك الفلسفة فريق مكوَّن من 8 ضباط إنجليز و18 ضابطًا كنديًّا وشركة ليبرا الأمنية، التي تعتمد على الجنود المرتزقة، بجانب دعم من دول مثل مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة.

محمود عباس نفسه اتصل بنا وطلب منا، ضغط علينا، لمواصلة الحملة العسكرية والإطاحة بحماس.
أفيغدور ليبرمان

استطاع دايتون أن ينجح فيما فشل فيه سلفه الجنرال ووارد وهو صناعة طبقة أمنية تؤمن أن دورها هو تجريد المقاومة الفلسطينية من سلاحها، وملاحقة كل المقاومين أو من يُشتبه في تعاطفه، فضلًا عن انضمامه، لهم. كما يجب عليها تدمير البنى التحتية للإرهاب، كما تصفه السلطة. وفي مقابل ذلك تُدعم الأجهزة الأمنية بالمال والسلاح لأداء تلك المهام، وأبرز مهامها هو نشر ثقافة مناهضة للمقاومة ومؤمنة بالسلام مع إسرائيل عبر الخضوع لتصرفاتها أيًّا كانت.

أشد ما تجلى فيه نجاح دايتون وبرزت فيه ملامح الطبقة التي صنعها ما أعلن عنه في محاضرة في مركز داراسات الشرق الأدني في 7 مايو/ آيار 2009 حين أعلن أن الإسرائيليين قادوا فرقةً من الأجهزة الأمنية الفلسطينية للقيام بعملية عسكرية في الجليل ضد المقاومة، في تلك العملية استُشهد عبد المجيد دودين قائد كتائب القسام. وعلَّق الضابط الإسرائيلي، قائد المهمة، بأنه يثق في الشباب الفلسطيني الذين كانوا معه، ويستعد للتعاون معهم لاحقًا.

الجدير بالذكر أن عملية التسليح للأجهزة الأمنية التي أشرف عليها دايتون حرصت على أن تبقى القوات الأمنية مكشوفة للإسرائيليين دائمًا. فدايتون أعلن أمام الكونجرس أن السلاح المُعطى لهم تمت معالجته مسبقًا ليصبح غير قاتل، كما ترفض واشنطن إمدادهم بالملابس الواقية للرصاص معللةً بأن الحماية من الإصابة قد تشجعهم على إطلاق النار، لذا جعلتهم مُسلحين ومكشوفين في الوقت نفسه، ولا تستطيع أسلحتهم الوصول لمدى بعيد ولا اختراق ملابس الجندي الإسرائيلي، فضلًا عن تحصينات إسرائيل العسكرية.

إسرائيل تتقاسم المعلومات مع السلطة

الجهاز الأمني الفلسطيني، الخاضع نظريًّا لعباس، يخضع واقعيًّا لسلَّام فياض، رئيس الوزراء غير المنتخب الذي عيَّنه عباس بعد سيطرة حماس على قطاع غزة لضمان ألَّا يتكرر هذا الأمر في الضفة الغربية. فياض وزير المالية في عهد ياسر عرفات، والحاصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة تكساس، أثبت أنه جدير بالمهمة وضمن استمرار تدفق المساعدات المالية التي تعتمد عليها السلطة الفلسطينية رغم وجود حماس على رأس قطاع غزة.

فياض جلس بجانب آرييل شارون في حفل زفاف ابنة شارون وتحدَّث معه لساعات طويلة، واستقبله بوش في المكتب البيضاوي بترحاب شديد، وأشادت الصحف الأجنبية به بسبب اقتراحه توطين اللاجئين الفلسطينيين في دولة فلسطينية جديدة، ولإدانته المستمرة للعنف ضد إسرائيل، المقاومة، باعتباره لا يخدم التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني. وشبَّهه بنيامين نتنياهو بديفيد بن جوريون.

نحن نتكفل بكل مؤسسات حماس وفقًا لتعليماتكم.
رئيس المخابرات العسكرية الفلسطينية للقادة الإسرائيليين

فياض كان مؤمنًا بمذهب دايتون، لذا تحدَّث عن إصلاحات أمنية واقتصادية وتنموية، لكن أبرز ما في خطته هو مكافحة الإرهاب الموجه بشكل أساسي لحماس واستهداف أعضاء حماس والمتعاطفين معهم. وشاركت القوات الفلسطينية والإسرائيلية في 300 نشاط منسَّق ضد حماس، بزيادة قدرها 72% عن العام السابق لتولية فياض، وأُلغيت جميع المؤسسات الاجتماعية والموارد المالية والأنشطة الخيرية التابعة لحماس ومنظمة الجهاد الإسلامي.

ووفقًا لتقرير جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي عام 2009 فإن دور الأجهزة الأمنية الفلسطينية هو السبب الرئيسي في تراجع الهجمات من الضفة الغربية والقدس الشرقية. لهذا منحت إسرائيل الأجهزة الأمنية سلطات أكبر، وتقاسمت معها معلومات استخباراتية عالية الجودة، وقللت ساعات حظر التجول المفروض في الضفة الغربية. وخفضت نقاط التفتيش في الضفة الغربية، وأزالت العوائق المادية.

السلطة تخسر شعبها لصالح العدو

بداية التنسيق كانت من الجنرال ووارد الذي أرسله بوش لفلسطين بعد أيام من وفاة ياسر عرفات وفوز محمود عباس رجل الولايات المتحدة المفضل، وحين انتصرت حماس في الانتخابات التشريعية على فتح لم يعد ووارد كافيًا فتسلم دايتون منه المهمة، وأضاف لنفسه هدفًا جديدًا، منع تشكل حكومة تسيطر عليها حماس. وبدأ رجال وزارة الخارجية الأمريكية إيجاد السبل للاستمرار في مساعدة حركة فتح، رغم اقتراب سيطرة حماس عليها.

لذا بدأت السلطة الأمريكية في فصل السلطة التشريعية ومنحها لرئاسة الوزراء وإصدار تعيينات تُحد من حكم الحكومة الجديدة خصوصًا على الأجهزة الأمنية، فأنشأت حماس جهازها الأمني الخاص، فأعلن عباس حظر قوة حماس في مرسوم رسمي، وأعلن مجلس الوزراء لاحقًا أنها غير قانونية، فدارت الاشتباكات بين فتح وحماس وسقط قادة من الطرفين.

لدينا عدو مشترك، حماس.
رئيس قوات الأمن الوطني الفلسطيني للإسرائيليين

وطردت حماس قوات الأمن الفلسطينية من غزة، وأطاحت بالاستثمار الأمريكي الذي استمر لسنوات في أجهزة الأمن. كان الأمر خسارة فادحة للجانب الأمريكي، لكن دايتون استطاع إقناع الجميع أن ما حدث دليل على أن التنسيق الأمني كان ضرورة، وأنه بهذه الطريقة أصبح العداء بين فتح وحماس أبديًّا، وتلاشى حلم حكومة الوحدة الوطنية. وبتشكل حكومة سلام فياض أدركت الولايات المتحدة أنها أصبح لديها أفضل حكومة للسلطة الفلسطينية في التاريخ، فقدمت لها 500 مليون دولار، وزادت من التنسيق مع الطرف الإسرائيلي.

المعضلة التي رصدها ناثان في كتابه أن مقاومة إسرائيل والهجمات المضادة للاحتلال هي في وجهة النظر الشعبية هجمات وطنية محترمة. وغالبية الفلسطينيين يفرحون مع كل هجوم تنفذه حماس على الجانب الإسرائيلي، ما يعني أن الشعب لا يوافق على ما تمارسه السلطة ضد حماس، لذا ابتعدت السلطة عن الشعب، وابتعد عنها الشعب.

قوات الأمن: تحمي إسرائيل

https://www.youtube.com/watch?v=Kc0FC6PtO5Y

وتجلت تلك الكارثة في حرب غزة 2008 – 2009 حين وقفت قوات الأمن بالزي المدني والعسكري ضد المتظاهرين الذين يهتفون لحماس، وأغلقوا المساجد، ووقفوا دروعًا بين المتظاهرين الغاضبين وحواجز التفتيش الإسرائيلية، وأطلقوا الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل على المتظاهرين، وأعملوا فيهم الهراوات.

استطلاعات الرأي أظهرت أن شعبية السلطة الفلسطينية في أدنى مستوياتها، في وقتٍ تزامن مع تصريح لدايتون يتفاخر فيه بإنجازه بتلك السلطة التي صنعها من شباب فلسطينيين يبادرون للموت في سبيل حماية أمن إسرائيل. انهارت شعبية فياض وحكومة التنسيق الأمني بسبب محاولة فاشلة لقتل حامد البيتاوي، قيادي بارز في حماس، كما اعتقلت اثنين من أبنائه.

وخرجت المظاهرات الحاشدة ضد السلطة بعد أن اغتالت قوات الاحتلال ثلاثة مسلحين فلسطينيين يُشتبه في مشاركتهم في قتل حاخام يهودي، عملية الاغتيال نُفذت بناء على معلومات استخباراتية قدمتها السلطة الفلسطينية. فخرج في جنازة الثلاثة أكثر من 20 ألف فلسطيني يهتفون ضد الحكومة المنسقة.

حماس مشكلتنا أكثر بكثير مما هي مشكلة إسرائيل أو الولايات المتحدة.
سلام فياض، رئيس الوزراء الفلسطيني

حاول فياض احتواء الغضب الشعبي بتبني مجموعة من مظاهر الاعتراض السلمي، كحرق المنتجات المصنوعة في إسرائيل، وتنظيم مظاهرات ضد الجدار العازل. لكن حتى في تلك اللحظة حين خرجت مظاهرات يسارية ضد المحادثات المباشرة مع إسرائيل، قامت قوات الأمن بتفريقها بعنف. لم يسلم فياض من الانتقادات في كل حركة يقوم بها، فآثر الانسحاب عام 2013 وقدَّم استقالته.

أربع طرق فاشلة للتحرر، لا تجرِّبها

رغم تغيُّر أسماء من يشغلون مناصب القيادة المسئولة عن التنسيق الأمني بين الجانبين، فإن التنسيق استمر. ربما لأن سكان الضفة أنفسهم أصبحوا يريدون النقيضين، فهم يرغبون في مقاومة أكثر فعالية للاحتلال لكن دون خفض مستويات المعيشة أو المعاناة من آثار الانتفاضة. وغرقت قيادة الضفة في تلك المعضلة هيى الأخرى، ولم تستطع أن تدرك أو حتى تبلغ شعبها أن هذين الهدفين متعارضان.

وخرج عن هذه القاعدة مجموعة من الشباب غير المنتمين لأي فصيل سياسي حين بدأوا مجموعة من عمليات الطعن والاشتباكات مع الجانب الإسرائيلي أدت لمقتل 30 إسرائيليًّا على مدى 6 أشهر، واستشهاد 200 فلسطيني. تلك الأحداث أعطت مؤشرًا للجانب الإسرائيلي أن عهد عباس يقترب من نهايته.

ما يعني خسارة كبيرة للجانب الإسرائيلي الذي ينظر لعباس على اعتباره فترة استراحة للانتعاش من السنوات المدمرة التي نتجت عن الانتفاضة الثانية. فحين أتى للسلطة كان بمثابة موظف يمكنه استجداء المجتمع الدولي لمنحه مبالغ مالية تمكنه من ترميم المجتمع الفلسطيني الممزق دون الحديث عن مقاومة إسرائيل أو إنهاء الاحتلال.

 لكن ناثان يقول بأن تلك الفترة التي قضاها عباس في السلطة ستنتهي وتكون ارتدادًا على إسرائيل، لأن الإرهاق من مقاومة إسرائيل سيزول، وتتم إعادة بناء الضفة الغربية، ولن تبقى حماس خارج السياسة للأبد، واستمرار الاحتلال يثير المقاومة، والقادة الذين قمعوا المقاومة سوف يفقدون مصداقيتهم، وسيكبر جيل جديد من الفلسطينيين لا ذاكرة له عن تكاليف الانتفاضات، ولن يفهم السبب وراء موافقة آبائه على مهادنة إسرائيل والتعاون معها رغم أنها محتل.

وستفشل نظريات عباس وفياض وغيرهما من الذين رأوا أن مهادنة الاحتلال سوف تمنحهم الدولة، فبقاء عباس كان يعتمد على مقامرة تتكون من 4 محاور، أولًا توفير أمن إسرائيل وقمع معارضة الاحتلال سوف يجعل إسرائيل تثق في الفلسطينيين. والمحور الثاني هو تلبية الفلسطينيين لمطالب الولايات المتحدة بالتخلي عن العنف وبناء المؤسسات وإجراء انتخابات ديمقراطية، سوف تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لتقديم تنازلات مناسبة لإقامة دولة فلسطينية.

أما المحور الثالث فهو استدراج حماس لانتخابات تشريعية، تحصد حماس فيها على عددًا كافيًا من المقاعد لتوريطها في الحكم، لكنه ليس كافيًا لتتمكن من زمام الأمور. والمحور الرابع بعد تحقق كل ذلك سوف يصبح لدى عباس الوقت الكافي لبناء دولة فلسطينية مستقلة قوية.

لكن بالطبع فشل عباس في المحاور الأربعة، فالإسرائيليون اعتبروا تنسيقه الأمني معهم أمرًا مفروغًا منه، ولم يمنحوه أي مكافآت عليه. ولم تمارس الولايات المتحدة أي ضغط على إسرائيل لتمنح الفلسطينيين أي مكاسب. وفازت حماس في الانتخابات التشريعية وسيطرت على قطاع غزة ولم تتبنَّ برنامج عباس السياسي. كما أن سكان الضفة كرهوا عباس ويرغبون في استقالته، وتلاشي نموذجه، وأيقنوا أن طريقته لا يمكن أن تنجح بأي حال.