كيف أجاب ابن سينا على «معضلة الشر»؟
لماذا توجد الأمراض والفقر والكوارث؟ ما الذي يدفع البشر نحو العدوان والحرب والاستبداد؟ لماذا وُجدت «المعاناة» في حياتنا؟ بعبارة أخرى: لماذا يوجد الشر في هذا العالم؟ هل هو من صُنع الإنسان، أم هو من مسببات الطبيعة، أم هي الإرادة الإلهية ولا شيء سواها؟
وطالما كنّا نؤمن أن جميع الموجودات تخضع لإرادة إلهية عُليا تسيّر الأحداث وتدبّر أفعال العباد، فكيفَ يستقيم إيماننا بأن تلك الإرادة هي إرادة خيّرة، ومع ذلك فإنها تأمر – أو تسمح – بأفعال الإنسان الشريرة ونوائب الدهر المؤلمة؟
لطالما مثلت مسألة «الشر» معضلة إنسانية كبرى للإنسان، ليس فقط لأنه يتألم إذ يعاين أحداثه، ويصير ضحية لهذا الشر، بل لأنه وجد دومـًا إشكالية في فهمه، ولم يستطع كثيرًا أن يُفسّر أسباب وجوده أو يدرك الغاية من ورائه، وهو الأمر الذي يبعث على التشاؤم إزاء أمر لا يقبل الفهم ولا الاستئصال، ولا نستطيع حتى – في كثير من الأحيان – التخفيف من وطأته.
من هُنا تأتي أهمية دراسة الدكتور محمد الصادقي، «الشر وموقعه ضمن التصور الميتافيزيقي للعالم عند ابن سينا» (مجلة تبين للدراسات الفكرية والثقافية، العدد 17)، وتعرض لمقاربة ابن سينا، كنموذج للتعاطي الإسلامي مع مفهوم الشر وتمثّلاته. وقد جاء اختيار ابن سينا بحُكم ما يتميز به فكره، فهو وارث المذهب الأرسطي المشائي في الفلسفة، وهو لم ينظّر للموضوع من زاوية أخلاقية أو تربوية صرفة، أو من فلسفة محضة، بل دمج ما هو ديني ضمن ما هو فلسفي ميتافيزيقي.
الخير أصل الموجودات: كيف عرّف ابن سينا الشر؟
يرتبط تعريف الشر عند ابن سينا بثنائية «الوجود والعدم»، فيُقال للشيء «شرًا» عندما يترتب عليه حرمان الموجودات من الكمال، فالعمى يُعد شرًا لأنه يحرم حاسة الإبصار من كمالها ومن سلامتها التامة التي هي البصر، وهذا الشر ذاتي وليس بالقياس إلى أي شيء آخر.
أما إذا كانت الأمور التي نحكم عليها بأنها «شرور» وجودية، أي موجودة في الواقع وليست مجرد إعدام لأشياء أو ظواهر، فإن ابن سينا يرى أنها «ليست شرورًا بذاتها، بل لأنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة» (المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، ٢/٥٢٠)، فهي شر بالنسبة إلى من وقع عليه الضرر، شر بالنسبة لفاعلها.
مثال على ذلك القتل، فهو – من حيث قدرة القاتل على استعمال آلة القتل – يعد كمالًا له، كما يُعد كمالًا للآلة، فيما هو شر للمقتول لأنه يتضمن زوال حياته، فالخير هو الوجود والشر هو العدم، ومن هنا الشر لا يصيب الكمال المطلق (مثل الخالق تعالى أو الأنبياء ذوي الفطر الكاملة)، كما أن الشر لا يتجسد في مخلوقات بعينها، لأن العدم المطلق لا وجود له، ومن ثم فليس لما يُعرف بـ «الشر المطلق» وجود.
كما أن ابن سينا يرى أن الشر مرتبط بالمادة، فالأشياء إما أن تكون لا مادية، وبالتالي لا شر فيها إذ لا نقص يعتريها، وإما أن تكون مادية، موجودة بالقوة ومعرضة بالنقص، وترتيبًا على كل ما سبق يكون حاصل تعريف الشيخ هو تحديد الخير كما ذكرنا بأنه هو الموجود، بينما الشر هو العدم، فيصبح الأصل في الأشياء هو الخير، ويضحى الشر حدثًا عارضًا، وإن وجد في هذا العالم، فهو موجود بصورة محدودة، ومقترنًا دائمًا بالخير.
ويمكننا أن نميز مع ابن سينا في الشر بين:
– الشر الطبيعي: ويتعلق بما يؤذي الإنسان ويُلحق ضررًا بسلامته وبرغباته، ووسيلتا الإنسان لتمييزه هما اللذة والألم.- الشر الأخلاقي: ويتعلق بما يراه العقل ضارًا أو مؤذيًا من الأفعال الاختيارية للإنسان.- الشر الميتافيزيقي: ويتعلق بالنقص الذي يمس الموجودات ويمنعها أن تصل إلى درجة الكمال وهو نقص طبيعي وصميم.
الحكمة الإلهية من وجود الشر
حتى لو كان وجود الشر محدودًا وعرضيًا، فإن وجوده في عالم تحكمه إرادة الله «الخيّرة» يظل أمرًا باعثًا على التساؤل والتعجب.
بالنسبة لفيلسوف من العصر الوسيط الإسلامي مثل ابن سينا، فإنه – وإن أقر بنصيب من المسؤولية الأخلاقية للإنسان- فإنه لا يستطيع أن يفصله عن الدين والميتافيزيقا، بل يربط الشر بالإرادة الإلهية، ويجعل وجوده محدودًا وعرضيًا على نحو ما ذكرنا سابقًا، لتتناسب محدودية وجوده مع خيرية الإرادة الإلهية التي خلقت المخلوقات بالأساس لأجل أن تبلغ كمالها الواجب.
ولا يجعل ابن سينا الباري سبحانه وتعالى سببًا مباشرًا أو فاعلًا للشر أو متصفًا به، فالله تعالى لم يخلق مخلوقات شريرة شرًا مطلقًا، ولا عَالَمَا يهيمن عليه الشر، بل يغلب خيره شره، كما لو أنه قصد ابتداء ألا يخلق إلا المخلوقات الخيرة، لكن الضرورة اقتضت ألا توجد هذه الموجودات وألا تدوم خيريتها إلا بأن يعرض عليها بعض الأفعال الشريرة، فالله تعالى مريد للشر مقدر له، لكن «بالعرض وليس بإرادة ابتدائية».
المسؤول عن الشر إذا ليس العلة الفاعلة -أي الله تعالى- بل العلة القابلة -أي الأشخاص والموجودات-، وسبب الشر كما يرى الشيخ أن المادة لا تقبل أبدًا الكمال المطلق، بل لحق الشر بها إما بسبب بعض الأشياء التي أثرت في ابتداء تشكّلها، وإما بسبب المؤثرات الخارجية التي منعت عن الموجود كماله.
فالشر إذا يحدث – بحسب ابن سينا – ليس بوصفه أمرًا وجوديًا صادرًا عن الباري الذي لا يصدر عنه إلا الخير والكمال، بل بسبب عجز الموجودات نفسها عن قبول الفيض الصادر عن واجب الوجود. والشر مع ذلك صادر بموجب الحكمة الإلهية وليس أمرًا منفلتًا، وإن كان غير مقصود لذاته فهو مقصود لأجل السير العام للموجودات، ولو لم يحدث لما حصلت الموجودات علي كمالها الواجب، فغرق الناس في الماء مثلًا هو نتيجة عارضة، ولكنها لازمة لانتفاء سائر الموجودات الحية بالماء، ولا يليق بالحكمة الإلهية أن تمنع وجوده نهائيًا لأجل ألا يغرق فيه أحد.
الشر في الموجودات قليل، محصور في الجزئيات لا الكليات، فيصيب أشخاصًا محددين في أزمنة محددة، ولا يصيب النوع البشري بأكمله مثلا، وهو يعمل على تبرير بوجوده بتحفيز الموجودات على السعي نحو الكمال، فيصير كل سعي نحو الكمال هو تخلص من شر.
لكن سنسأل سؤالًا أخيرًا، واضحًا وجليًا؛ لماذا كل هذا العناء؟ لم لم يخلُق الله العالم خاليًا من الشر ابتداء، فلا تحتاج في بلوغ خيريتها إلى هذا الشر القليل القسري؟ لماذا لا تكون النار مثلًا سببًا للخير المطلق ويمتنع وجودها عندما تكون سببًا للشر؟
وجواب ابن سينا أن الأشياء لو خلقت على هذا النحو لكنا نتحدث ببساطة عن عالم غير العالم، لكنا نتحدث عن عالم من الخير المطلق والكمال اللا محدود، وليس ذلك بحال بالأمر الممكن، لأن ما كان منزهًا عن كل شر لن يكون مخلوقًا بل خالقًا، أما العالم المادي فلا مفر إلا أن يكون ناقصًا قابلًا إلى أن يُساكنه الشر، بعبارة أخرى، ما دمنا نتحدث عن عالم من المخلوقات لا الخالقين، فليس بإمكاننا ابتداء افتراض إمكانية خلو هذا العالم من النقائص.
نحن إذًا لسنا مخيرين في هذا العالم بين عالم تام الخير وآخر ناقص، بل بين عالم أكثر شرًا وآخر أقل شرًا، ونحن نعيش بالفعل في العالم الأقل شرًا على نحو ما فسرناه سابقًا، فضلًا عن انتفاء وجود الشر يجعل من سعي الموجودات الممكنة نحو الخير أمرًا غير ذي معنى، فوجودية الشر هو الدافع للنفس أن تسعى دومًا نحو التخلص من النقص والعدم.
ويختتم الصادقي الدراسة بقوله: