كيف أثرت حرب غزة على سياسات الدول الآسيوية؟
لم تكن عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حركة حماس ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر حدثًا محليًا أو إقليميًا بل امتدت تأثيراتها إلى مشارق الأرض ومغاربها ووضع بصماته الواضحة على سياسات الدول الآسيوية من أقصاها إلى أقصاها، وشكّلت محورًا للخلاف بين مواقف النخب السياسية داخل تلك الدول.
باكستان: ضربة لمشروع التطبيع
منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى انتهت المناقشات داخل النخب السياسية في باكستان في شأن مسألة الاعتراف بإسرائيل، إذ لا تقيم إسلام آباد علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني وترفض الاعتراف بها كدولة ذات سيادة، وهذا موقف عديد من الدول الإسلامية.
وصرح البرلماني البارز، مشاهد حسين، رئيس لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ، قائلًا: «الدرس الأول من حرب غزة هو أن ما يسمى الجدل أو النقاش حول الاعتراف بإسرائيل في باكستان تم دفنه».
ولا يستطيع الباكستانيون زيارة دولة الاحتلال لأن جوازات سفرهم تنص على أنها «صالحة لجميع دول العالم باستثناء إسرائيل»، ومع ذلك، اندلع جدل بشكل متقطع في القنوات التلفزيونية الوطنية الرئيسية والصحف ومنصات التواصل الاجتماعي حول ما إذا كان ينبغي إعادة النظر في مسألة التطبيع مع إسرائيل، وعقد الطرفان اجتماعات سرية حول قضايا متعلقة بالأمن منذ اجتماع وزيري خارجيتهما علانية في عام 2005.
وزاد النقاش العام، أخيرًا، بسبب التقارب بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل واحتمال تطبيع العلاقات بينهما بما يتماشى مع اتفاقيات أبراهام التي توسطت فيها الولايات المتحدة، حيث طبعت الإمارات والبحرين والمغرب العلاقات مع تل أبيب عام 2020.
واكتسب خطاب التطبيع زخمًا في شهر مارس عندما كشف فيشيل بنخلد، وهو ناشط يهودي باكستاني، عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنه نجح في تصدير أول شحنة من طعام الكوشر اليهودي إلى القدس وحيفا، وقال المسؤولون في ذلك الوقت إن نشاط التصدير تم عبر دولة ثالثة وكان بمبادرة فردية من بنخلد، قائلين إنه لا يشير بأي شكل من الأشكال إلى إقامة علاقات تجارية مباشرة مع إسرائيل.
وقالت مليحة لودهي، السفيرة الباكستانية السابقة لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، إن الوقت لم يحن للتطبيع، مضيفة «في باكستان، مثل الدول الإسلامية الأخرى، فإن المشاعر العامة قوية جدًا في دعم شعب فلسطين.. كانت باكستان مؤيدًا ثابتًا للقضية الفلسطينية».
واتخذت وزارة الخارجية الباكستانية موقفًا محايدًا إلى حد ما بشأن الحرب، قائلة: «نحن نراقب عن كثب الوضع الذي يتكشف في الشرق الأوسط. … نحن قلقون بشأن التكلفة البشرية للوضع المتصاعد»، وحثت المجتمع الدولي على «الاجتماع من أجل وقف الأعمال العدائية وحماية المدنيين وتحقيق سلام دائم في الشرق الأوسط».
وفي الشهر الماضي، قال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين لإحدى وسائل الإعلام الوطنية على هامش جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة إن «ست أو سبع» دول إسلامية يمكنها «صنع السلام» مع إسرائيل إذا وقعت اتفاق سلام مع المملكة العربية السعودية. وقال: «السلام مع المملكة العربية السعودية يعني السلام مع العالم الإسلامي الأكبر»، مما دفع وزير الخارجية الباكستاني، جليل عباس جيلاني، إلى رفض التلميحات بأن بلاده من بين الدول التي تدرس التطبيع مع إسرائيل، وقال جيلاني في مؤتمر صحفي عُقد مؤخرًا في إسلام آباد: «ليس هناك تغيير، ولا نفكر في تغيير سياستنا تجاه إسرائيل، نراعي مصالحنا الوطنية العليا عندما نقرر بشأن أي مسألة في باكستان».
وصرح أحمد قريشي، وهو ناشط سياسي باكستاني مؤيد للتطبيع، إن الصراع في غزة يمكن أن يبطئ التقدم في التطبيع العربي والإسلامي مع إسرائيل لأن الحكومات بحاجة إلى أن تأخذ في الاعتبار الرأي العام أثناء إعادة النظر في السياسات، مضيفًا: «ليس هناك شك في أن التصعيد الذي تقوم به حركة حماس المسلحة يضرب في قلب جهود التطبيع بين إسلام آباد وتل أبيب».
وكان قريشي وبنخلد من بين مجموعة مكونة من 15 عضوًا من نشطاء السلام الباكستانيين الذين قاموا برحلة نادرة إلى إسرائيل العام الماضي بالتعاون مع منظمة إسرائيلية تعمل على تعزيز العلاقات مع الدول الإسلامية.
انقسام مجموعة آسيان حول «طوفان الأقصى»
تتكون مجموعة آسيان من الدول العشر في جنوب شرقي آسيا، ويعمل في إسرائيل عشرات الآلاف من العمال من دول مثل تايلاند والفلبين، ويرسلون باستمرار أرباحهم إلى أسرهم، وتساعد هذه الأموال في تنشيط اقتصادات بلدانهم، وظهر عدد من هؤلاء العمال الآسيويين ضمن الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية في مقاطع فيديو في بداية الحرب.
وتبنت حكومات آسيان مواقف متباينة بشأن الأزمة، مما يؤكد الاستقطاب المتزايد في الكتلة؛ فقد أعلنت بروناي تضامنها مع الشعب الفلسطيني، وكذلك ماليزيا التي انتقد رئيس وزرائها، أنور إبراهيم، التغطية الإعلامية العالمية غير المتوازنة للأحداث، وأصدرت الخارجية الماليزية بيانًا شديد اللهجة حمل إسرائيل مسؤولية تدهور الأوضاع بسبب احتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية.
واتخذت إندونيسيا نفس موقف الدولتين الإسلاميتين ودعت إلى «وقف فوري للعنف لتجنب مزيد من الخسائر البشرية»، وخلال أحداث القصف اليومي في غزة ظل اسم «المستشفى الإندونيسي» حاضرًا بشكل مستمر، وقد بُني هذا المستشفى عام 2011، بتبرعات الشعب الإندونيسي في بيت لاهيا شمال القطاع، وفي وقت سابق من هذا العام، ألغى الفيفا حقوق إندونيسيا في استضافة كأس العالم تحت 20 عامًا وسط احتجاجات ضد مشاركة إسرائيل في البطولة، وتحظى القضية الفلسطينية بشعبية جارفة في إندونيسيا، مما يشكل عائقًا أمام التقارب مع إسرائيل، رغم بذل تيار المسيحية الصهيونية جهودًا كبيرة في هذا الشأن.
وفي تناقض صارخ مع تلك المواقف، أعلنت سنغافورة، حليفة إسرائيل في المنطقة، إدانتها بشدة لهجمات حماس الوحشية ودعت إلى وقف العنف.
وأدانت الفلبين «الهجمات على السكان المدنيين» في إشارة إلى حركة حماس، وجاء هذا الموقف نتيجة للعلاقات والمصالح الاقتصادية والعسكرية التي تربط مانيلا بتل أبيب في ظل التركيز على برنامج التحديث العسكري المستمر في الفلبين، كما أن هناك ما يقرب من 29 ألف عامل فلبيني لدى دولة الاحتلال.
بينما اختارت فيتنام التزام الحياد بشأن الصراع، وكذلك تايلاند رغم أنها حليفة للولايات المتحدة، فإنها اكتفت بالإعراب عن قلقها على سلامة مواطنيها ورفضت الانحياز لأي طرف، وقالت وزارة الخارجية إن 21 تايلانديًا يعتقدون أنهم لقوا حتفهم وأصيب 14 آخرون، ويعتقد أن 16 تم أخذهم كرهائن.
وأعلنت الخارجية التايلاندية أنها ستقوم بإجلاء أكبر عدد ممكن من مواطنيها الذين يقدر عددهم بـ30 ألفًا والذين يعملون في إسرائيل، ويعيش حوالي 5000 منهم في منطقة غلاف غزة، وقال وزير الخارجية، بارنبري باهيدها نوكارا، إن حوالي ستة آلاف تايلاندي سجلوا أسماءهم لإجلائهم، وهناك جهود على مدار الساعة لاستيعابهم.
وتتمتع تايلاند بشعبية لدى السياح الإسرائيليين حيث زارها حوالي 160 ألفًا منهم في الفترة من يناير إلى سبتمبر من هذا العام، وفقًا لبيانات الحكومة التايلاندية، وعلى الرغم من إلغاء شركات طيران دولية عديدة رحلاتها إلى إسرائيل، فإن الرحلات الجوية المباشرة بين بانكوك وتل أبيب مستمرة مع شركة الطيران الإسرائيلية، العال، لمساعدة الإسرائيليين على العودة، بعد تلقي عدد منهم استدعاءات طارئة للخدمة العسكرية.
القوى الآسيوية الكبرى
مثلت الحرب في غزة اختبارًا للطموحات الدبلوماسية للقوى الآسيوية الكبرى كالهند والصين واليابان، وذلك في سياق محكوم بأجواء التنافس الدولي؛ إذ انحازت نيودلهي لتل أبيب بشكل واضح منذ الساعات الأولى للحرب بسبب علاقاتها المتنامية مع إسرائيل وتقارب الحكومتين اليمينيتين للطرفين، وكذلك كونها شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة.
بينما قررت الصين أن تبقى على الحياد، وامتنعت عن إدانة هجوم حماس، وبدلًا من ذلك أصدرت بيانًا هادئًا يدعو إلى «ضبط النفس» من جانب الجانبين وإعادة تأسيس محادثات السلام بشأن حل الدولتين.
وأعربت وزارة الخارجية الإسرائيلية عن «خيبة أملها العميقة» إزاء استمرار عدم إدانة الصين خلال اتصال هاتفي مع تشاي جون، المبعوث الصيني الخاص لقضايا الشرق الأوسط.
وبعد ذلك أدانت بكين الهجمات في إسرائيل دون تسمية حماس، وأعربت عن استعدادها للتنسيق مع الجامعة العربية لتحقيق عملية سلام في الشرق الأوسط، ورفضت وزارة الخارجية توضيح سبب عدم إدانة حماس لوسائل الإعلام الدولية، بينما التزم الرئيس الصيني، شي جين بينج، الصمت بشأن هذه القضية.
ومن المعروف أن الصين تتجنب المخاطرة عندما يتعلق الأمر بالانحياز إلى أحد الجانبين، وتفضل نهجًا غير تدخلي يفضل بناء العلاقات الدبلوماسية على خلفية اتفاقيات التجارة والبنية التحتية، وفي هذه الحرب حاولت بكين استغلال الظرف لتقليص نفوذ واشنطن العالمي مع تعزيز نفوذها.
وهاجمت وسائل الإعلام الصينية بشدة موقف واشنطن من الصراع، قائلة إن دعمها العسكري الأحادي الجانب لإسرائيل يؤجج التوترات ويزيد من الأزمة الإنسانية في المنطقة، ونقلت صحيفة جلوبال تايمز الرسمية في بكين، عن خبير صيني قوله، «إذا كانت واشنطن تريد حقًا التوسط في الأزمة، فيتعين عليها أن تجلس للجانبين للمفاوضات، بدلًا من إرسال سفن حربية إلى الشرق الأوسط لرفع معنويات إسرائيل».
ويمثل الانخراط الأمريكي في أزمة غزة فرصة لبكين؛ فمع انشغال واشنطن بمشاكل إسرائيل وأوكرانيا، هناك مخاوف بين حلفاء الولايات المتحدة في آسيا من أن اهتمام واشنطن قد يبتعد عن منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مما يترك فرصة يمكن للصين أن تحاول استغلالها.
وقد أكد التقرير النهائي للجنة الكونجرس الأمريكي حول الوضع الاستراتيجي على ضرورة الاستعداد للتصدي للصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا في وقت واحد، لكن الأحداث الحالية في غزة تخطف اهتمام المسؤولين الأمريكيين بعيدًا عن الصين بشكل مؤقت كما يُفترض.
أما الموقف الياباني فقد بدا مترددًا بشكل واضح؛ فلم تكن اليابان من بين دول مجموعة السبع التي أدانت هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولم تصف حماس بالإرهاب، على الرغم من أن اليابان صنفت هذه الحركة كمنظمة إرهابية منذ سبتمبر/أيلول 2003.
لكنها غيرت موقفها في 12 أكتوبر/تشرين الأول ونددت «بالهجمات الإرهابية»، قائلة إن مثل هذا السلوك لا يمكن تبريره وإن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، لكنها ظلت الدولة الوحيدة في مجموعة السبع التي رفضت الانضمام لبيان مشترك في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول يدين حماس ويتعهد بتقديم الدعم الموحد لإسرائيل، وغابت أيضًا عن بيان آخر مماثل في 22 من الشهر نفسه.
وفي مجلس الأمن صوتت طوكيو ضد القرار الروسي بشأن وقف النار في غزة لكنها بررت ذلك بأسباب إجرائية مؤكدة عدم اعتراضها على نص المقترح بحد ذاته، وحضرت وزيرة الخارجية اليابانية، كاميكاوا يوكو، قمة القاهرة للسلام التي عقدت في مصر في 21 أكتوبر/تشرين الأول، وأثناء وجودها هناك، أجرت محادثات مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ولم تزر إسرائيل مثل قادة الدول الغربية.
ودار جدل كبير في طوكيو حول الموقف من الأزمة، فرأى البعض ضرورة دعم إسرائيل تبعًا لموقف الدول الغربية الكبرى، خاصة وأن اليابان رئيسة مجموعة السبع هذا العام، ورأى آخرون المحافظة على موقف محايد بدلًا من الوقوف إلى جانب الإسرائيليين أو الفلسطينيين.
وهكذا وجدت اليابان نفسها عالقة بين إرضاء الولايات المتحدة، أهم حليف لها والذي يقف بحزم إلى جانب إسرائيل، ومحاولة تجنب وصفها بأنها متواطئة في معاناة سكان غزة وبالتالي إثارة توتر مع دول الشرق الأوسط الداعمة للفلسطينيين، والتي تستورد منها طوكيو 94% من نفطها.
وتعهدت طوكيو بتقديم مساعدات للفلسطينيين قيمتها عشرة ملايين دولار، لكن أصواتًا إسرائيلية أبدت انزعاجًا من الدعم الياباني الإنساني، وأثاروا ملاحظة تتعلق بظهور أسرى لدى حماس وهم مستلقين على ما يبدو أنها أكياس أرز تبرعت بها اليابان للشعب الفلسطيني، في إشارة إلى أن الدعم الياباني تستفيد منه حركات المقاومة الفلسطينية.
ولا يرغب الفلسطينيون في فقدان المساعدات اليابانية بعد أن أشارت عدة دول إلى أنها ستتوقف عن تقديم المساعدات في أعقاب هجوم حماس، وتريد اليابان أن يقتصر دورها في الأزمة على دعم جهود السلام والمساهمة في جهود الوساطة بين طرفي الصراع وبذلك تبرر حيادها لكل من الجانبين وتنأى عن أي تبعات سلبية للانحياز لأحدهما، وهناك أنباء عن ترتيبات لإرسال كاميكاوا إلى إسرائيل والأردن في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، قبل أيام قليلة من اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع المقرر عقده في الفترة من السابع من الشهر نفسه في طوكيو.