الخطة نصر والعملية جونسون: كيف تخلص ناصر من حكيم؟
في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967، تلقت مصر زلزالاً مدويًا لعلّها لم تفِق منه حتى الآن. لم يقتصر أثره على ضياع سيناء وتدمير الجيش المصري وحسب، وإنما إلى ما هو أعمق من هذا.
هوَت ضربة إسرائيل على نافوخ نظام عبدالناصر الذي كان يسعى لمدِّ سلطانه من المحيط إلى الخليج، فجعلت استمراره داخل قواعده موضع شكٍّ كبير. وبالرغم من المظاهرات العريضة التي خرجت عقب إعلان عبدالناصر التنحي، فإن التصدعات العميقة والجروح الغائرة التي نتجت عن ضياع سيناء ظلّت ماثلة في أركان نظامه، وكشفت للعلن لأول مرة حجم الاستقطاب التي كانت عليها مؤسسات الدولة بينه وبين صديق عمره عبدالحكيم عامر، قائد الجيش الذي فشل في جميع معاركه، ورغم ذلك ظلَّت قيادات المؤسسة العسكرية على ولائها له ورغبتها في استمراره للأبد، وهو ما صار مستحيلًا عقب الهزيمة، مما استلزم مواجهة بين الرجلين استُنفرت فيها أجهزة الدولة الأمنية والسياسية، ولم تعد الساحة تحتمل الاثنين معًا.
في كتابه «هزيمة الهزيمة»، ينقل مصطفى بكري رواية جمال عبدالناصر لصراعه مع عامر خلال 3 جلسات متتالية عقدها أول مجلس وزراء تم تشكيله عقب الهزيمة برئاسته، خلال أيام 27 أغسطس و3 سبتمبر و17 سبتمبر 1967.
ليس مناسبًا للقيادة
حكى عبدالناصر أن عبدالحكيم اتصل به يوم 5 يونيو/حزيران ليؤكد له أن الوضع انتهى وأن «الجيش مش قادر يصمد» وطلب الانسحاب، ثم اقترح إصدار بيان أن أمريكا وبريطانيا شاركتا في الهجوم، وهو ما رفض جمال القيام به، ثم أعلن له رغبته في إعلان تنحيه عن منصبه، وطلب منه ترشيح اسم من يرى أنه يستحق خلافته فأجابه: شمس بدران، وزير الحربية الخاسر معركته للتو! وهو ما اعتبره عبدالناصر اقتراحًا «غير معقول».
ويحكي عبدالناصر أنه خلال مكالمة هاتفية جمعته ببدران يوم 8 يونيو/حزيران، تحدث فيها بدران عن عبدالحكيم قائلاً: «He is not fit to command» (هو ليس مناسبًا للقيادة). في اليوم التالي، ذهب عبدالناصر ليُعلن تنحيه عن منصبه، وهنا تجلّى أن عزم المشير المهزوم على تعيين صديقه الوفي رئيسًا للجمهورية حاسمًا، فحسبما يروي عبدالناصر أن عامر، خلال إلقاء البيان، وفور كشف عبدالناصر عن نيّته ترْك مقعده لزكريا محيي الدين، أرسل له برقية، وهو لا يزال على الهواء، يطالبه فيها بالتوقف وعدم استكمال حديثه!
وعلى الرغم من أن المشير وشمس بدران أعلنا استقالتيهما، فإن عبدالناصر بلغه أن 700 ضابط احتشدوا في مركز قيادة الجيش يوم 11 يونيو/حزيران (عقب التراجع عن التنحي)، ويطالبون بعودة عبدالحكيم للجيش، ووقتها كانت قوة التأمين الشخصي للرئيس محدودة لأنه كان قد أرسل كافة وحدات الحرس الجمهوري إلى الإسماعيلية، وهكذا كان بمقدور أي قوة عسكرية معقولة الحجم تشكيل خطر على سلامته.
هذا الضعف العسكري الذي بدا عليه جمال في عيون أنصار عبدالحكيم منحهم ثقة مفرطة في التعامل مع الأمر إلى حد الاستهانة به هو شخصيًا. أراد شمس التدليل له على مدى سيطرته على القوات المسلحة، فأكد له أنه لو أراد أن ينقلب عليه سيفعلها من منزله! أرسل الضباط أربعة منهم مندوبين عنهم إلى الرئيس، ومنحوه عريضة تُطالب بعودة عامر إلى القوات المسلحة، وهو ما استشاط له غضبًا. يحكي:
ولأن «عبدالناصر 67» أزاح فكرة الحلول الوسط من قاموسه بعد أعوام من ممارستها لضبط علاقته برفيق عُمره حتى «خربت البلد» كما أعلن في الاجتماعات، فقد كان عليه ألا يهادن حكيم لأول مرة في حياته، وقرر المضي في قراره بإبعاده عن الجيش إلى الأبد، واستنفر قواه لمواجهته.
أعاد عبدالناصر الحرس الجمهوري من الإسماعيلية، وحشد قوة دبابات ومدرعات وبعض أفراد الشرطة العسكرية والضباط الموالين له، ثم أصدر قرارًا بتعيين الفريق محمد فوزي قائدًا عامًا للقوات المسلحة، وأعلن تحويل كافة «ضباط العريضة» إلى المعاش، كما أمر باعتقال كافة الضباط المحتشدين في مقر القيادة، وأي قيادة عسكرية أعلنت اتخاذ موقف مؤيد للمشير، وهو ما اعتبره حكيم إعلان حربٍ عليه رفض الاستسلام لها، فردَّ الصاع صاعين.
قلعة الحلمية
يحكي عبدالناصر أن عددًا من الضباط بدؤوا يتوافدون على منزل المشير بالجيزة، وبعدها بدأ إخوته (بعضهم كانوا نوابًا في مجلس الأمة) في إقناع زملائهم بالمجلس النيابي لزيارته بمنزله حيث بدأ يكلمهم عن الحريات والديمقراطية وغيرها من الأمور «اللي الناس عادة لما بتبقى في السلطة مبتتكلمش فيها».
تحولت هذه الزيارات إلى إقامة كاملة لعشرات العسكريين «قادة فرق ولواءات»، كما أرسل عبدالحكيم إلى عددٍ من أقاربه في المنيا ليأتوا إلى داره لدعمه، وتدفقت عليهم أسلحة بلغ حجمها 3 أطنان «حمولة 4 لوري»، علاوة على إنشاء عددٍ من الدشم وتحصينات ضد الدبابات! وبمرور الوقت، تحول المنزل إلى قلعة حصينة، وإلى بؤرة خارجة عن سيطرة الدولة.
كانت كل الإشارات تؤكد أن ما يسعى عبدالحكيم لفعله سيكون أكبر بكثير من مجرد غَضْبة اعتاد، خلال السنوات الفائتة، أن يمارسها على صديق عمره لينال بها ما يريد.
خلال هذه الأحداث، يحكي عبدالناصر أنه قابل شمس بدران، وأكد له الأخير أن الأمور ليست في صالحه «البلد ضدك والجيش ضدك! والبلد مع المشير والجيش مع المشير»، وأوضح جمال أن الثقة المفرطة عند بدران كانت لأنه أنشأ تنظيمًا «في كل مكان» بالجيش من دفعته (رقم 48) يستطيع تحريك القوات المسلحة متى أراد، لهذا أمر عبدالناصر باعتقالهم جميعًا (69 فردًا) وإقالة بدران من منصبه، وتعيين أمين هويدي بدلاً منه.
لكن، سريعًا، بدأت المساعي لتدشين تنظيم جديد يستند عليه عامر لتحقيق رغبته في العودة للجيش من جديد. جرت اتصالات حميمة بعددٍ من الضباط في مختلف الوحدات، وتسرّب بعضها بحُكم «السربعة» إلى عبدالناصر عبر مدير مكتبه سامي شرف الذي تدفقت عليه البلاغات بأن المشير يدبّر مؤامرة ضد الرئيس، وهو ما نقله له قائلًا: «يهود مصر بدؤوا يتحركون من الداخل». لكن هذا لم يمنع من توقفها، وبلورتها في محاولة القيام بتحركٍ ما يعيد لأصحابها هيبتهم الجريحة.
العملية نصر
تحولت مساندات الضباط الحماسية لقائدهم «صاحب الأفضال عليهم» إلى خطة عسكرية سارت على هدْي ما نفذه الضباط الأحرار في 23 يوليو وحملت ذات كلمة السر، فتضمنت الاستيلاء على مقر قيادة القوات المسلحة، وإعلان إعادة المشير لها، وتحريك وحدات برية وجوية إلى القاهرة تسيطر عليها وتعتقل كبار المسؤولين فيها، وعلى رأسهم عبدالناصر، وتغيّر نظام الحكم بالقوة إن تطلب الأمر، وتشكيل مجلس رئاسي يضم: عبدالحكيم عامر وعباس رضوان وشمس بدران وصلاح نصر إلى جانب قادة الأسلحة الرئيسية، مَنَحها المشير والذين معه لقبًا كوديًا لأمر طال انتظاره ولم يأتِ؛ «العملية نصر».
اعتمدت فلسفة العملية على أن يتحرك المشير إلى أنشاص حيث يقع بها مقر مدرسة الصاعقة التي ستخرج منها قوة تحرسه إلى منطقة القنال حيث يتم الاستيلاء على مقر القيادة الشرقية بالإسماعيلية مع منع دخول أو خروج أي فرد منها، وبث نبأ عودته في أوصال الجيش، ثم إعلان مطالب تتمثل في الآتي: عدم التدخل في شئون الجيش إطلاقًا،حل الاتحاد الاشتراكي، انتخاب مجلس نيابي جديد، الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، إقامة حزب معارض للحكومة، إقامة حياة ديمقراطية يعبّر فيها الشعب عن رأيه بحرية. إن لم يستجب عبدالناصر لتلك المطالب، يتحرك لواء مدرع إلى القاهرة للسيطرة عليها والضغط عليه للرضوخ، وكل هذا وسط تواطؤ شبه تام من كافة أفرع الأجهزة الأمنية.
يحكي جمال:
تم تحديد 27 أغسطس/آب موعدًا مبدئيًا، كبديل جاهز للفشل المتوقع الذي كانوا يعلمون أنه سينتج عن جلسة العشاء المرتقبة بين الرجلين، دون أن يعلموا بالطبع أن الأول كان قد انتهى من إعداد عُدة الإجهاز على الثاني، وذلك بناء على خطة أطلق عليها اسم «العملية جونسون» استهدفت تصفية كافة جيوب هذه المؤامرة بمنزل الحلمية ومبنى المخابرات فور دخوله المنزل.
يوضح ناصر أنه طلب حكيم ليأتيه في منزله يوم الجمعة (25 أغسطس/آب) بحضور زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وأنور السادات، وواجهه بكل ما لديه، فأنكر بشدة ورفض أي حل وسط للأزمة؛ لا الاستقالة ولا إخلاء بيته ممن فيه ولا حتى منصب نائب رئيس الجمهورية.
في ذلك الوقت، كانت هناك قوة مشتركة من الجيش والبوليس تحاصر منزل عامر بقيادة الفريق فوزي، طلبت من المحاصرين الاستسلام، وكانوا بقيادة شمس بدران، فرفضوا، لكن بعض جنود الحرس خافوا من احتدام القتال فاستسلموا وتركوا أماكنهم خالية، وهنا أيقن سُكان المنزل أن المعركة حُسمت فاستسلموا جميعًا وتم إيداعهم في سجن القلعة. بلغ مجموع المعتقلين سواء كانوا عسكريين أو مدنيين على ذمة هذه القضية 286 فردًا.
في هذه الآونة كان المشير قد أُبلغ بنبأ تحديد إقامته، وهو ما لم يقبله، فسبّ عبد الناصر وبقية الحضور، إلا أن قوة أمنية خاصة أجبرته على التنفيذ، فتم عزله داخل منزله أولاً بعد تصفيته من المؤيدين، وبعدها جرت محاولة لنقله إلى مكان آخر أكثر انعزالاً، هو استراحة المريوطية، وهو الوضع الذي لم يكن حكيم ليحتمله أبدًا.
في مساء 14 سبتمبر/أيلول، ووفق رواية عبد الناصر، باغت عامر طبيبه المرافق وتناول سمًّا سريع المفعول (اكتشف الطب الشرعي لاحقًا أنه مادة الأكونيتين)، وعندما دخل عليه وجد نبضه ضعيفًا وفي حالة غيبوبة كاملة وفارق الحياة، وقالت الإذاعة المصرية:
ليُسدل الستار إلى الأبد عن واحدة من أعقد الفترات التي مرّت عليها مصر.
محكمة الثورة
في يوم 22 أغسطس/آب 1968، صدّق عبدالناصر على قرار محكمة الثورة برئاسة حسين الشافعي وعضوية الفريق عبد المنعم رياض واللواء سليمان، بحق 55 متهمًا أبرزهم شمس بدران وزير الحربية، وصلاح نصر رئيس المخابرات السابق، وعدد مختلف من ضباط جيش تبعثرت مناصبهم بين الأفرع. أدانت 45 فردًا منهم، عاقبت بعضهم بالأشغال الشاقة المؤبدة فيما تراوحت عقوبات الآخرين بين السجن 15 عامًا وبين الطرد من الخدمة العسكرية.