كيف أصبح «فرانز كافكا» رائدًا لأدب الأقليات؟
بهذه الكلمات وصف الكاتب التشيكي «فرانز كافكا» رحلته الأدبية في مجملها؛ فهو من لقَّبه النقَّاد بـ «رائد أدب الكابوس»، الذي يتسم بالسوداوية والقتامة المبالغ فيها، وهو كذلك رائد الأدب الهامشي أو أدب الأقليات.
ولد كافكا في مدينة براغ، التي شهدت صراعًا بين اللغتين التشيكية والألمانية على الصدارة. كان والد كافكا تشيكيًّا في المقام الأول، لكنه أصر على أن يتلقى أطفاله تعليمًا باللغة الألمانية لكي يصبحوا أكثر اتصالًا بالعالم الأوسع، ومن هنا نشأ صراع كافكا ككاتب مفتون بالمُهمَّشين من الخدم والموظفين، وبالمعاناة الإقليمية في مجتمعه الصغير.
أدرك كافكا أنه لا مفر من الكتابة باللغة الألمانية بسبب الهيمنة التي فرضتها على الأدب، ولكنه قرر أن يصنع لغته الألمانية الخاصة، لغة تخاطب المنبوذين والمهمشين.
لقد احتقر كافكا كل اللغات العظيمة في تسلطها وهيمنتها، واختار أن يكون غريبًا داخل لغته الألمانية التي أتقنها وتعلمها منذ الصغر، ليكون صوتًا للأقليات.
لا يُصاغ أدب الأقليات بلغة الأقلية؛ فهو بالأحرى ذلك الرداء الجديد الذي تُحِيكه الأقلية من قماشة لغة الأغلبية. هذا هو حال الكُتَّاب السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وما فعلوه باللغة الإنجليزية، حتى شكَّلوا أدبهم الخاص، الذي يحمل بصمتهم كأفارقة، رغم كونه جزءًا من الأدب الأمريكي.
لقد سرق كافكا اللغة الألمانية من أصحابها، وصبغها بصبغة فريدة، وكانت الحيلة التي لجأ إليها هي استخدام الرمز وقصص الحيوان البسيطة ليمرر من خلالهما آراءه السياسية؛ ففي رواية «المسخ» (1915)، نقل كافكا اللغة من المجال الإنساني حين حول البطل «جريجور» إلى حشرة. ويُشكِّل هذا التحول نوعًا من الهروب بالنسبة للبطل، الذي يهرب وهو ما زال قابعًا في مكانه، في غرفته المعتادة في المنزل، وسط أسرته التي تستنفده شيئًا فشيئًا، بكثرة المهام الملقاة على عاتقه.
لكن التحول يظل شكلًا من أشكال الهروب، ولا يرقى إلى منزلة الحرية؛ فالبطل لا يكف عن كونه إنسانًا من الداخل، رغم تحول جسده الخارجي، يتوق إلى حب أسرته التي ظل يخدم أفرادها طيلة حياته بلا كلل أو ملل، لكن الجميع يتخلى عنه، حتى أمه التي تفشل في استيعاب معاناته.
يظل قلب «جريجور» مُتعلقًا بلوحة لسيدة ترتدي الفرو، ويرفض أن تُزيلها أخته من الغرفة، وتمثل هذه اللوحة الرباط الأخير الذي يربطه بإنسانيته السابقة. فهو ما زال بإمكانه أن يستنشق الفن.
لقد جرَّد كافكا اللغة من جميع مظاهرها الإنسانية، فتدنت وصارت تزحف مع البطل الصرصور زحفًا، وهو بذلك يُصوِّب سهام النقد نحو النظام الرأسمالي المادي الذي يسلب الإنسان كينونته الإنسانية الأساسية، فتصبح القيمة الإنسانية مشروطة بالقدرة على العمل، وبالنجاح المهني. فتلك هي كارثة الحضارة الحديثة التي تُسلِّع المشاعر، ولا تترك للمرء خيارًا سوى أن يعيش عبدًا للمادة، فيترك ما يحب ليستمر في عمله النمطي بحثًا عن قوت يومه؛ لأنه لا يملك رفاهية الإخفاق.
لقد تحمل «جريجور» عبء الأسرة وحده بعد انهيار عمل والده، كما عمل بجد لسداد الديون. لم يحصل أبدًا على إجازة واحدة طوال حياته المهنية التي استمرت خمسة عشر عامًا. ورغم ذلك، تنقلب أسرته ضده بعد إدراكهم أنه لم يعد قادرًا على القيام بمهام رب الأسرة. يتوسل «جريجور» إلى مديره، الذي يأتي إلى منزله لمعرفة سبب عدم ذهابه إلى العمل، بل يقتحم غرفته الخاصة منتهكًا مبدأ الخصوصية تمامًا.
لا يهتم الأدب الهامشي بالفرد، وصراعاته النفسية، بقدر ما يهتم بالمشكلات المجتمعية التي تمس جماعات المهمشين؛ فالتعبير عن الهموم الفردية يعد نوعًا من الرفاهية بالنسبة للأقليات التي تطمح فقط إلى الحصول على أقل قدر من التقدير، هذا هو حال البروليتاريا التي يبقى تقديرها مرهونًا بالأدوار الوظيفية، المحددة ثقافيًّا؛ كدور الابن، والأخ، والموظف. وفي الأدب الهامشي لا يُعامَل الرمز بطريقة تبسيطية سطحية؛ لأن كل الرموز تئول إلى معانٍ سياسية ومجتمعية.
كتب كافكا قصته الشهيرة «تقرير إلى الأكاديمية» (1917)، التي يمكن أن تُصنَّف ضمن أدب الاستعمار والاغتراب الذاتي؛ فهي تُقدِّم هجاءً لمحاولة اندماج الفرد داخل مجتمع لا يمثله، من خلال محاكاة لغة هذا المجتمع والامتثال لتقاليده. فبطل القصة هو القرد «ريد» الذي تعود أصوله إلى منطقة «جولد كوست»، وهي منطقة مستعمرة في خليج غينيا في غرب أفريقيا، وتم نقله إلى هامبورغ في ألمانيا.
يمثل القرد الحالة الوسطية بين الإنسان والحيوان، ويرمز لعملية التهجين التي تمر بها الشعوب المحتلة/المُستعمرة. فالأفارقة في جولد كوست قد أصبحوا نصف أفارقة ونصف ألمان. كذلك، يقدم كافكا لنا القرد «ريد» بوصفه إنسانًا كان قردًا في السابق لكنه تعلم لغة البشر وأصبح واحدًا منهم، وهو الآن يلقي حديثًا في مؤتمر علمي عن قصته.
كان «ريد» يقطن الغابة الأفريقية، وهناك تعرَّض لإطلاق النار من قبل مجموعة صيادين، وحين قبضوا عليه، وضعوه على متن سفينة متجهة إلى أوروبا. وحينها أدرك «ريد» خسارته المفاجئة للحرية حيث وجد نفسه مسجونًا في قفص، يتوق إلى الهروب، ويبدأ غريزيًّا في إدراك أن أفضل فرصة له للهروب تكمن في تقليد سلوك الصيادين. ويحاكي كافكا بقصته اللغة المتعارف عليها في المؤتمرات العلمية، لكن، من خلال قرد. فالقرد يلعب دور العالِم الذي يقرأ على البشر تقريره العلمي.
تصبح أنسنة القرد شكلًا من أشكال الهروب، تمامًا مثل قصة انمساخ «جريجور». لكن هل ينال «ريد» الحرية بعد أن نجح في التخلص من القفص والقيود التي تكبله؟
لقد نجح «ريد» في الانفكاك من قيوده، لكن تظل أنسنته غير مكتملة. فطبيعته السابقة ما زالت تدفعه لفعل تصرفات بهلوانية، كأن يخلع سرواله فجأة أمام الجميع، فيصبح مثارًا لسخرية الصحف.
تحمل قصة كافكا شحنة لا بأس بها من السخرية اللاذعة ضد محاولات التماهي التي تحيل الإنسان مسخًا. فربما تُذكِّرك قصة «ريد» بطريقة محاكاتنا للغرب المبالغ فيها، بحثًا عن التحضر. وتخبرنا القصة أنه على المرء أن يعتز بذاته، حتى إن كانت هذه الذات ذاتًا قردية، منبوذة لأنها ليست في طور التحضر، من وجهة نظر الآخرين.
قد نمر من وقت إلى آخر بمشاعر مشابهة لمشاعر «جريجور»، ونسخر من أنفسنا أحيانًا مثل «ريد» حين نحاول تقليد الآخرين بحثًا عن القبول المجتمعي. فكافكا، رغم كونه أحد كُتَّاب الأدب السياسي، إلا أنه يتسلل خفية إلى أعماق النفس بلا استئذان، بطريقة لا تشعرك أنك تقرأ أدبًا سياسيًّا. لذلك، يرى الناقد «هارولد بلوم» أن كافكا لديه نوع خاص من الروحانية، لم تفارقه حتى بعد تحوله من اليهودية إلى الإلحاد، ويُلقِّبه بكاتب الصبر؛ ففي أدب كافكا، يكفي أن تبقى قابعًا في غياهب السجن، لتجد وسيلتك للفكاك.